حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (151): فلسفة الخلق وخلافة الإنسان
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الواحدة والخمسون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ: أحمد مانع الركابي.
مفهوم الخلافة
ماجد الغرباوي: يقصد بالخلافة لغة: (الخلافة: النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستَخلَف، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض). أنظر (المفردات في غريب القرآن). ولا يختلف معناها الاصطلاحي عن المعنى اللغوي كثيرا. الخلافة: هي أن يخلف شخصٌ شخصاً آخر. يقوم مقامه ويمارس صلاحياته عند غيابه. فيكون غياب المنوب عنه شرطا عرفيا في المعنىى الاصطلاحي، لذا لا يرجع الناس للخليفة مع وجود المنوب عنه وعدم وجود مانع. أو هكذا تعارفوا عليه. بينما الغياب ليس شرطا في المعنى اللغوي، مادام يصدق على التشريف، كما بالنسبة للأنبياء.
وأما الخلافة الربانية التي تحدثت عنها الآيات، فإنها أعمق دلالة من المعنيين اللغوي والاصطلاحي. لا تفويض ولا نيابة ولا حاكمية عن الله. فلا يرد كيف يكون الإنسان خليفة مع وجود الخالق أو المنوب عنه. الإنسان في الخلافة الربانية قائم بذاته، لديه استعداد فطري لعمل الخير والشر. الهداية والضلال. الحب والكره. وفي جميع الأحوال يتحمل مسؤولية قراراتها وتداعيات سلوكه. لذا حتى حتى من يبلغ درجات رفيعة في إيمانه، قد يتمرّد على الله، كما في قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
إن مفهوم الخلافة اصطلاحا يتطلب وجود: منوب عنه، خليفة، ووسط اجتماعي يمارس فيه خلافته. وعندما ينوب نائب المدير عنه، يمارس صلاحيته داخل دائرته، بعد تفويضه بذلك. أما بالنسبة للخلافة الربانية، فلم تصرّح الآيات بخلافة آدم عن الله، كي يخلفه في صلاحياته. تقول الآية (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فهو ليس تنصيب لمقام الخلافة بل جعل بمعنى الخلق والإنشاء، فيكون كيانا مستقلا. يمارس خلافته بمفهوم التدبير والإدارة والاستثمار والاستخلاف باستقلالية محكومة بالسنن الإلهية والكونية، ويكون مسؤولا عن سلوكه وأفعاله. فيُخلف خالقه بما وهبه من حرية وإرادة وقدرة على الخلق والإبداع، ولم يفوض له سوى الأرض وما فيها ورسم له طريق الهداية وكيفية الخلاص، ولم يخلفه بحاكميته، وهذا القدر من الصلاحيات يحتاج لجعل شرعي صريح. فالخلافة الربانية فعل متحرك وجهد مضنٍ، خلاصته أن يتولى الإنسان بنفسه مهمته الحياتية، وقد جسدت الآية التالية خطورة المسؤولية وعظمة تداعياتها ببلاغة مدهشة، حينما صورت حالة الخوف من مسؤولياتها عندما عرضت على السماوات والأرض، بينما تصدى لها الإنسان ارتكازا لمقوماته الفعلية: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ). فهي اختبار عسير متواصل، أشفقت من مسؤوليتها الكائنات. وهو تعبير رمزي. لكن الإنسان كان الأجدر بها، وتحمّل مسؤوليتها، لسر كامن فيه، هو عقله وقدرته علة مقاومة تحديات الخلافة. وهو الأقدر على استتباب الأمن والاستقرار وقيام العدل حينما يلتزم بقيمه الدينية التي هي قيم إنسانية أساسا، ويتخلى عن نوازعه الشريرة: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)، ولا يخفى رمزية الآية وهي تؤكد على العدل قيمة أساسية مقومة للحياة السوية، مبدأ في الحكم لتفادي ظلم الناس. وبهذا يتضح معنى آية: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقد سبق بيانها تفصيلا. ينبغي أن تفهم في إطار فلسفة الخلق ودور الإنسان في الحياة. فالعبادة هنا لا تعني حرفية المفهوم، ولا تعني فقط المعرفة كما جاء في بعض التفاسير، بل تعني ما هو أعمق، أن ينتظم الإنسان ضمن قوانين الكون وسنن الخلق، والتي منها استثمار قدراته العقلية لفعل الخير (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) شرطا لخلافته واستمراره. فالخلافة التي تعني في بعض أبعادها الحضارة، هي تفاعل مستمر بين الإنسان والطبيعة. فيراكم من خلال تجاربه ما يقوم بناءه الفكري وأسسه الفلسفية، ويوظف معطيات العلوم لخدمة مجتمعه.
فالخلافة الربانية خلافة متقومة بالعقل، وهو تجلٍ للعقل الكلي / الله.وما برر صدقية مفهوم الخلافة عليه وجود مشابهة بين المخلوق وخالقه في العقل والتعقل والحرية والإرادة والقدرة على اتخاذ القرار والخلق والإبداع. وهذا لا علاقة له بمفهومها اصطلاحا، والذي لازمه أن يقوم الخليفة / آدم / الإنسان مقام الله تشريفا أو عند غيبته، كما هي آراء بعض المفسرين، وجعلوا الحاكمية أحد مهمامه، لكنهم خصوها بنفر من الاصفياء. أما الآيات فكان تعبيرها دقيقا، ولم تنسب الخلافة لله، وإن كانت بإرادته وجعله، فجاءت بمعنى الخلق: إني جاعل في الارض خليفة. ولم يقل خليفة عني، ولم يقل لقد خولتك صلاحياتي وحاكميتي، لكني خلقتك تشابهني بصفات تقوم بها خلافتك (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). وآية ثانية: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً). فالخلافة تشبيه، باعتبار نفحة الحق، ومن روح الله، ولديه مهمة وجودية، لذا شاءت القدرة الإلهية تهيئة الحياة الدنيا بكل ما يحتاجه الإنسان: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وترك للإنسان حرية الحركة واتخاذ القرار، وهديا من الدين والفطرة والعقل، كما تؤمن النظرية الدينية. أو بهدى من العقل كما تذهب لذلك النظريات الوضعية. فالنظرية الدينية تؤسس بعدا ميتافيزيقيا لخلافة الإنسان، يرتهن له مصيره وخلاصه.
وعليه فالخلافة في بعدها الآخر، تعني الكائن البشري المؤهل لاستخلاف الأرض واعمارها، من خلال ما استودع الله فيه من قابليات وعقل جبار، مجبول على الإبداع والعطاء. فمفهوم الخليفة في الآيات يساوق مفهوم الإنسان، وكأن الآية تقول "إني جاعل في الأرض إنسانا"، وإنما اكتسب صفة الخلافة في قدرته على التصرّف: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ). وبالفعل عاشت البشرية أمة واحدة قبل إرسال الأنبياء، كانوا يتصرفون من وحي فطرتهم وعقلهم، حتى راكموا خبرة حياتية كبيرة، بلغوا بها مرحلة الاختلاف فيما بينهم. فالاختلاف من زاوية يعتبر نضوجا عقليا، دالا على حيوية العقل وقدرته على التطور والتشخيص ومن ثم الاختلاف: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ). فالاختلاف وتعدد الآراء، يضع الإنسان في معرض الاستغلال بسبب تفاوت الوعي، وحينئذٍ لا بد من الإرشاد والتوجيه للحيلولة دون استغلاله وظلمه. فالإنسان ليس كالملائكة، التي يقتصر دورها على تنفيذ الأوامر الإلهية، باعتبارها مجبولة على الطاعة (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، لذا كان اعتراضهم المقدر: (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). فالحياة الدنيا تحتاج إلى عقل أولاً وبالذات، والإيمان صفة شخصية، يكتسبها الإنسان بعقله، ثم تكرّس بالتقوى والعمل الصالح. العقل دليل الإيمان. فكانت المشيئة الإلهية بصدد مخلوق يتناسب مع مهمته الأرضية، مهمة الخلافة، مخلوق يختلف عن مخلوقاته الأخرى كالملائكة. والإنسان هو المؤهل الوحيد لها، وقد تحمّل أعباء الخلافة بعقله وحريته وإرادته. وزاوية النظر هنا تتجه للنوع الإنساني، الذي جسده آدم، فكما كان هناك إنسان ضال، هناك من تأهل للاصطفاء، كالرسل والأنبياء. لكن المهم ترى من خلال عقل الإنسان وفتوحاته المذهلة قدرة العقل الكلي / الله. فالعلم يفضي للإيمان بوجود قوة وراء الكون وعظمته، فيأتي الالتزام بأوامره ونواهيه قارب نجاة للفرد في خضم الحياة وتناقضاتها. لذا يعتبر الخطاب الديني الخلافة خلافة عن الله لتطبيق أحكامه والالتزام بقضائه وتنفيذ أوامره. وهذا ليس تمام ملاك الخلافة كما تقدم، فثمة فترة زمنية عاش الإنسان لوحده، وكان الناس أمة واحدة، لم يصفها بشيء، حتى وقع الاختلاف وبعث الأنبياء.
الإنسان الوارث
في موازاة آيات الخلافة الربانية تحدد آيات أخرى مصير الخلافة الربانية، بمعنى الاستخلاف وورثة الأرض، وتقرر حتمية تاريخية، أو بالتعبير القرآني "سنة إلهية"، وهي مجموعة قوانين وصفها القرآن بأنها: (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً)، كقوله: (َوأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا). فثمة شرط، يغدو المشروط فعليا بفعليته. فالاستقام وفقا لهذه السنة الإلهية شرط لوفرة الماء. وإنما نقول إلهية لأنها تتقوم بالإيمان الذي يربط كل شيء بالله. وفي موازاة السنن الإلهية هناك القضاء والقدر، وقد قدر الله أن يرث الصالحون الأرض: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ). فثمة سنة إلهية يستبطنها النص القرآني تربط مصير وراثة الأرض بوجود عباد صالحين، وليس خصوص المؤمنين. وفي هذا المورد خصوصا يراد بالصلاح، إعمار الأرض وتسخيرها لخدمة البشرية. وهذا لا يمنع وجود مصاديق أخرى للمفهوم فهو مشترك لفظي: كإصلاح النفس، وإصلاح المجتمع إلى غير ذلك. فالآية ناظرة إلى خلافة الإنسان بما هو إنسان، وهو مقتضى سياقها. إذ لم تشترط سوى "الصلاح" في وراثة الأرض. وصلاحها اعمارها وفق سنن الكون والعقل، بما يخدم البشرية، بالعدل والإحسان، بعيدا عن الظم والجور. وهي المهمة التي خُلق لأجلها الإنسان.
في مقابل آية: (وَعَدَ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ). الناظرة إلى خلافة خصوص المؤمنين، وشرطها الإيمان والعمل الصالح، لا فقط الصلاح. فقد يصلح الإنسان الأرض لكنه لا يعمل صالحا بالمعنى الأخص، وهو إتيان الطاعة بداعي "القربة لله" أو "التقرب لله تعالى". فثمة خصوصية في الآية الثانية، تشي بمهمة تتعلق بالرسل والأنبياء، وهي مهمة الهداية والقيام بالعدل والقسط. فالآية الأولى قضاء إلهي، هبط بموجبه الإنسان إلى الأرض ومارس خلافته فعلا، شريطة الاصلاح لديمومتها واستمرارها. أما الآية الثانية فمصاديقها استخلاف الأنبياء والرسل: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض. وقد تحققت مع كل مع الرسل والأنبياء، وتتحقق عندما تتوفر شروطها، ومهمة هذا النوع من الاستخلاف ليس الحاكمية الإلهية التي هي ولاية حصرا له، بل وضحتها آية: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بالعدل.
لقد تناولت الآية الأولى في كتاب مدارات عقائدية ساخنة، أجد من المناسب إعادة بعض فقراتها بما يناسب المقام، وكان الحديث حول حصر مصداق الآية بالمهدي المنتظر وفقا للنظرية الشيعية، غير أن البحث بعد النقد والتحقيق انتهى لأمر آخر:
ليس لآية (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، علاقة بموضوع المهدي وظهوره، لتعدد مفهوم الإصلاح وتعدد أبعاده ودلالاته من خلال سياق الآيات. فالإصلاح هنا ناظر للأرض بجميع أبعادها بقرينة: (يرثها، والأرض، وعبادي الصالحون). فشرط وراثتها إصلاحها، والاصلاح مساوق للاعمار، واستثمار خيراتها وطاقاتها. ولا مانع من وجود شرط الاستقامة في الوراثة الخاصة. فالآية الكريمة تفترض وجود مصلح يرث الأرض ويستعمرها. والإنسان الصالح من دأب على فعل الأعمال الصالحة، وهي غير محصورة بالعبادات، بل تشمل كل عمل فيه صلاح للنفس والناس والمجتمع، فتجد مفهوم العمل الصالح في القرآن مطلقا في أغلب موارده. ومعنى وراثة الأرض وفقا لهذا الفهم، القدرة على استثمارها من خلال اكتشاف قوانين الكون وتسخيرها، والاستفادة من خيراتها، فإنها ستكون دالا على وجود خالق حكيم هو الله.
إن معنى ورثتُ الشيء، أي انتقلت ملكيته لي، أو صار في ملكي وتحت تصرفي. وهنا لا يصدق حرفيا مفهوم انتقال الملكية، لأن الأرض لا تملّك لأحد سوى الله عزوجل خالقها، فالمراد بورثة الأرض القدرة على التحكّم بها والاستفادة من خيراتها، ولا تعني خصوص السلطة والحكم كما يرى بعض المفسرين، رغم أن السلطة مشمولة بها، لكن لا دليل على الاقتصار عليها. فيرثها من كان صالحا، أي قادرا على إعمارها وإصلاحها بعد اكتشاف قوانين الطبيعة، من أجل إصلاح الحياة والإنسان والمجتمع، وهذا أحد أهداف خلق الإنسان: (أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا). وقد ورث الغرب الأرض منذ مئتي عام بعد اكتشاف قوانينها، فاستثمر خيراتها وطوّر حياته، وحققت الآية بعض مصاديقها. فالآية الكريمة لم تشترط في وراثة الأرض أن يكون الوارث مؤمنا أو مسلما أو أي صفة دينية أو روحية إنما اشترطت الصلاح. غير أن المسلمين ركزوا على السلطة، بينما الغرب راح يتفوق من خلال تجاربه وعلومه واكتشافاته وصناعاته، بعد أن أدرك أن الكون ينتظم بقوانين، واكتشافها سيساهم في استثمار الأرض وتسخيرها.
الحضارات بنيت بتراكم جهود جبارة هائلة أثبتت قدرة الإنسان بما استودع الله تعالى فيه وفي الكون من قوانين وقدرات هائلة. فكان رهانه تعالى مع الملائكة على قدرة الإنسان في خلافة الأرض وإعمارها، الذي سيفضي إلى الإيمان المطلق بخالق هذا الكون، من خلال العقل والتجربة، وهو المطلوب. وسيثبت الزمن مستقبلا مفاد الآية المباركة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). فكان سبب استغراب الملائكة زاوية النظر عندما قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؟. ثم احتجوا عليه: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). فكأنهم قالوا: كيف تجعل من يسفك الدماء خليفة ونحن نسبح بحمدك؟
وهي نظرة محدودة عندما جعلت الإيمان والتقوى ميزانا وملاكا لخلافة الأرض، من وحي وعيهم وعلمهم. فأجابهم الخالق جوابا يؤكد وجود ما لا يعلمونه: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). وهو ما تجهله الملائكة حول فلسفة الخلق ومتطلبات مهام وجود الإنسان على الأرض. فالاقتصار على البعد الإيماني كان أمرا طبيعيا يتناسب مع وعيها، فهي لا تتعقل وجود من يشارك الخالق ببعض صفاته، ولو كانت مشاركة نسبية، فهي صفات خاصة. بينما تتطلب خلافة الإنسان وجود عقل فعّال، هو مقتضى ملاكاتها، وقد أشار له تعالى في بداية محاورته حينما عبر بلفظ الخليفة، فقال: "إني جاعل في الأرض خليفة"، لكن الملائكة لم تدرك مراده. لأنها لم تعاصره، فلا تعي حقيقته وجوهره، لذا لم يتبادر لذهنهم سوى سفك الدماء. مما يؤكد بساطة وعيهم لمفهوم الإنسان. فهو وعي إجمالي لا تفصيلي، قياسا على ما هم عليه من خصائص وصفات وإمكانيات مطبوعة على الطاعة، وعندما تتمرد على إرادة الله تفسد وتسفك الدماء. بينما أثبتت الإنسانية قدرتها على مواجهة تحديات البيئة والحياة، واستطاعت استخلاف الأرض بجدارة، وما زال الطريق أمامها للإيمان بخالق الكون عن طريق العلم وذات العقل المتمرد. ففي كل اكتشاف تزداد نسبة الإذعان لوجود خالق لهذا الكون، وهو المطلوب.
ليس بالضرورة وجود مخلوقات سابقة قاست الملائكة فساد الخليفة / الإنسان، عليها، لكنه تعبير عن وعيها لذاتها والآخر ضمن قبليات مفاهيمية تحصر الفعل الإرادي بين الطاعة المطلقة / الملائكة (المقربون من الله). أو الفساد وسفك الدماء / غيرهم (المبعدون من الله). ولا توجد حالة ثالثة، فجوابها ثمرة وعي محدود، لا يعرف شيئا عن العقل وعن قيم ومبادئ إلهية لم تطلع عليها من قبل، فقد شاء الله بعد أن وهب الإنسان العقل أن يكون مسؤولا عن سلوكه وأفعاله، وشاءت رحمته أن يغفر له خطاياه عندما يتوب لبارئه، ويعفو عنه ليتقوم سلوكه ويواصل حياته ومسيرته الكونية.
ربما لم يقل بهذا الرأي أحد، لكنه اجتهاد شخصي واستنطاق للآيات الكريمة، فليست الأمور كما تشتهي الفرق والمذاهب الكلامية بل هناك قرآن وعقل، هما المحددان الأساسيان في صياغة أية عقيدة دينية، وأي خروج عليهما لا قيمة له مهما كان عدد الروايات والأخبار، بعد تعمد المسلمين الكذب على الله ورسوله. وقد كذبوا على النبي الكريم في كل شيء، وما من فكرة أو عقيدة أو فضيلة، إلاّ وادعوا وجود روايات وأخبار عن الرسول الكريم كذبا وافتراء. محمد بن عبد الله هو الصادق الأمين، وهو المؤتمن على القرآن والرسالة والوحي، وهو الأعرف بكتاب الله وآياته، فكيف يقول ما يعارض الكتاب الكريم والعقل؟ هذا مستحيل، بعد أن وصفه القرآن بالأمانة والصدق وحسن العقل، وقد أدى رسالته بنجاح كبير. (ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين ...).
رؤية مفهومية
خلاصة ما تقدم، ليس في مفهوم الخلافة الربانية سلب لإرادة الإنسان. ولم يكن مجبرا، سوى ما تفرضه القوانين الكونية باعتباره بشرا محكوما بها، فيخضع للجبر التكويني بفعل قوانين الكون، وهذا خارج عن إرادته. ولا يصدق السلب على التفويض، حيث فوض الله للإنسان حريته وإرادته وجعلهما لوازم لوجوده من وحي عقله وقدرته على التحكم بسلوكه، فيكون مسؤولا أمام اختياراته. وعلى هذا الأساس يمارس الفرد حريته. وحينما يلتزم بشريعة السماء أو يتمرد عليها يفعل ذلك بكامل إرادته. والكلام حول حقيقة الفعل وليس التمظهر الخارجي، فقد يجبر الإنسان على سلوك لا يؤمن به خوفا من سلطة الدول أو المجتمع. (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وعلى العكس فإن مفهوم الخلافة الاصطلاحية خلافة مقيّدة بحدود التفويض والصلاحيات الممنوحه له من قبل المنوب عنه. فيتضمن المفهوم السلب. وهذا لا تجده في الخلافة الربانية لأنها تعني تفويضا للإنسان بوراثة الأرض وتشييد حضارته بفعل قدراته العقلية، المقوم الذاتي للإنسان، وهو الفصل المميز في الحد التام منطقيا. فالتفويض يتمثل بالعقل. وكان العقل شرطا لوراثة الأرض، ومن يتخلى عن عقله، يتحمل وزر عمله، فكانت آخر وصية للخالق قبل هبوط آدم للأرض: (ُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). فالقيود والسلب شرط الإيمان. فمن يؤمن بشريعة السماء يتقيد بتعاليمها، وهذا شرط في العقد. ويكون بإرادة الإنسان. وجميع هذه التصورات أطرحها ضمن نظرية الخلافة أو نظرية الإنسان التي أسعى دائما لتأصيلها، وقد كتبت عنها كثيرا. في مقابل نظرية العبودية التي أنهكت الإنسان فقهيا وعباديا. الأولى تحرير للوعي، والثانية تكريس الوعي السلبي.
يأتي الحديث في الحلقة القادمة
.......................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.