محمود محمد علي: قراءة إبستمولوجية في كتاب التحليلات الأولى الأرسطية (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي
لا شك في أن الأورغانون الأرسطي بشهادة معظم مؤرخي المنطق، قد تطور إلى حد بعيد، وأنه لا يوجد كتاب من كتابات “أرسطو” المنطقية ظل بدون تغيير، فضلاً عن أن معظم تلك الكتب قد وضعها “أرسطو” في زمن متأخر داخل إطار عام يتطابق إلى حد ما مع تعاليمه الأخرى، ولذلك فإن تحليل الخطوات المختلفة في تطوره تعد مهمة صعبة (1).
وهذه الصعوبة تتمثل في أن كل كتابات الأورغانون الأرسطي ليست بمستوي واحد، فبعض النصوص كما يذكر مؤرخ المنطق الألماني “بوشنسكي” لا يتجاوز نصوص “أفلاطون” أو معاصريه، بينما تدل نصوص أخري علي قدرة منطقية خارقة، ومن ثم فهي تكشف عن تقدم ملموس بالمقارنة مع النصوص الأخرى (2).
ويذكر مؤرخ المنطق ” بوشنسكي ” أنه يمكن استخدام معايير عديدة لذلك الأمر، وذلك علي النحو التالي (3):
1- استخدام القياس التحليلي (الحملي)، والذي يعد بمثابة الاكتشاف الأخير
2- استخدام الحروف، كاختصارات وكمتغيرات.
3- مستوي الصرامة المنطقية، والأسلوب والذي كان مختلفاً جداً في كتابات عديدة، وربما من المفترض أن يكون قد تحسن مع الوقت.
4- التحسن الذي طرأ علي تحليل القضية، من الشكل البسيط ” أ – ب ” مروراً باستخدام الشكل الأكثر تعقيداً، وإن الذي يوجد فيه ب في كله يوجد أ “.
5- إن الحروف تظهر علي الأرجح في البداية، كاختصارات بسيطة، ثم كمتغيرات حدية، وفي النهاية كمتغيرات قضوية.
6- إن القضايا الموجهة التي تتوافق مع فلسفة أرسطو الخاصة بالمستقبل، تعد فيما يبدو الاكتشاف الأخير.
ثم يؤكد ” بوشنسكي ” أنه بتطبيق هذه المعايير، فإننا نجد أن الأعمال المنطقية لأرسطو – علي الأقل من حيث الاهتمام – يمكن أن تكون قد كتبت بالترتيب التالي: –
أ- ففي البداية يأتي كتاب الطوبيقا ( مع كتاب السفسطة والذي يعتبر تكملة لكتاب الطوبيقا، وهو بمثابة المقالة التاسعة منه )، وهما لا يشتملان بأية حال علي متغيرات، كما أن القياس لم يكن قد تمت معرفته بعد ؛ علاوة علي أن المستوي المنطقي فيه متدن وتحليل القضية الحملية فيه بدائياً (4).
ب- كتاب المقولات، وهو ينتمي فيما يبدو إلى نس الفترة ؛ حيث يعد مدخلاً لكتاب العبارة (5) ؛ وهو يشتمل علي نظرية في الألفاظ، ويتعامل معها بدون استخدام متغيرات.
ت- كتاب العبارة، ولا بد أنه كتب فيما بعد، ويتضمن هذا الكتاب نظرية السيميوطيقا، التي كانت فيما يبدو في الأصل أفلاطونية، ومع أنه لا يوجد أثر في هذا الكتاب للمتغيرات وللأقيسة، إلا أنه من الملفت للنظر أن مستواه أعلي من كتاب الطوبيقا والسفسطة والمقولات ؛ علاوة علي اشتماله فصل في الموجهات، وإن كان لم يزل أولياً بالمقارنة مع ما يوجد في التحليلات الأولى (6).
ث- يمكن وضع المقالة الثانية من كناب التحليلات الثانية بعد ذلك مباشرة ؛ حيث إن أرسطو الآن في القياس والمتغيرات معاً، وإن كانت المتغيرات تستخدم دائماً كاختصارات فقط. أما عن المستوي المنطقي، فإنه قد كان فيما يبدو أدني درجة من الأجزاء الأخرى لكتاب التحليلات الأولى (7).
ج- أنه يجب أن نضع بعد ذلك الفصول 1، 2، 3، 7، 23، 46، من المقالة الأولى لكتاب التحليلات الأولى، كما أن ما لدينا ليس مجرد متغيرات فحسب، بل إنها مستخدمة كمتغيرات حدية. كما يوجد أيضاً تفصيل كامل للقياس، فضلاً عن أن المستوي التكنيكي للقياس ملفت للنظر (8).
ح- أما أخر الأعمال المنطقية، فربما تكون الفصول 3، 8، 22 من المقالة الأولى للتحليلات الأولى، والمقالة الثانية من الكتاب نفسه ؛ إذ أننا نجد هنا معظم النظريات الدقيقة كنظرية الموجهات. فضلاً عن استخدام المتغيرات أحياناً كمتغيرات قضوية (9).
وعلي ضوء هذا الترتيب الزمني السابق، فإنه يمكن القول بأن الأورغانون الأرسطي، قد تطور بالتمييز بين مرحلتين: مرحلة ما قبل التحليلات، ومرحلة التحليلات. في مرحلة ما قبل التحليلات، قام “أرسطو” بالتنظيم المنهجي لقواعد المجادلة، والتوسع في القسمة الأفلاطونية علي نحو ما يوجد في الطوبيقا والمقولات والعبارة، وهي الكتب التي طور فيها أرسطو إلى حد بعيد وقرر بوضوح مجموعة القواعد أو القوانين التي تقوم عليها هذه القسمة (10).
علاوة علي ذلك، فقد حاول “أرسطو” في تلك المرحلة إبراز العمومية في أعماله عن طريق الاستخدام غير الملائم إلى حد ما للضمائر، أو عن طريق الأمثلة علي نحو ما يفعل “أفلاطون” في محاورة الجمهورية.
أما مرحلة التحليلات، فقد أتاها اسمها من موضوعها ومنهجها، فموضوعها أجزاء القياس والبرهان، وهما آلة العلم الكامل ومنهجها تحليل القياس والبرهان إلى أجزائها، فإن العلم الكامل إدراك الشيء بمبادئه، ولا يتسنى هذا الإدراك إلا بالتحليل، والبرهان ينظر إليه من حيث صورته ومن حيث مادته، فهو ينحل إلى مبادئ صورية، وأخري مادية، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ الصورية التي يتعلق بها لزوم التالي من المقدم لزوماً ضرورياً بصرف النظر عن مادة البرهان، تسمي التحليلات الأولى، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ المادية التي يتعلق بها صدق التالي، تسمى التحليلات الثانية (11).
وكتاب “التحليلات الأولى “، يمثل مرحلة القطيعة المعرفية لكل صور الممارسات السابقة للفكر المنطقي عند كل من الأيليين، والسوفسطائيين، وأفلاطون، والتي كانت متمثلة في منهج القسمة الثنائية، حيث أخذ “أرسطو” في أوائل “التحليلات الأولى ” علي منهج القسمة في أنه لا يوصل إلى نتيجة مفيدة، نظراً لأنه بدلاً من نيل موافقة الآخر علي نحو ما، فإنه يتوجب علي هذا المنهج في كل خطوة من خطواته، أن يرجوه بالموافقة علي إدراك ذلك، ولهذا انتهي أرسطو إلى أن أسلوباً كهذا يعجز عن الإيصال إلى نتيجة، وبالتالي فهو غير استنتاجي. إذ أنه عندما نقسم المرتبة ” أ ” المنتمية إلى ” ب ” بدلاً من ” لا – ب”، إذ لا بد من موافقة المحاور علي ذلك، حتي نتمكن من التقدم، وهو ما نحتاجه باستمرار في كل خطوة جديدة، وحول هذه النقطة لا يقدم لنا منهج التقسيم أية مساعدة، ولهذا انتهي “أرسطو” إلى أن “القسمة الثنائية” ما هي إلا مجرد قياس ضعيف لا يمكنه في الواقع إثبات شيء، ولكنه يكمن في سلسلة الافتراضات (12).
وكذلك فإن كتاب “التحليلات الأولي" يقطع الصلة المعرفية بينة وبين كتاب الطوبيقا لأرسطو نفسه، والذي يعتبر أحد مؤلفات الشباب التي كان يتمرس فيها “أرسطو” ويتدرب علي صياغة القواعد النظرية لعلم المنطق كما جاءت بعد ذلك في التحليلات الأولى (13).
فعلي سبيل المثال لا الحصر، نجد في كتاب الطوبيقا فقرتين سابقتين لنظرية الرد غير المباشر الوارد في الفصول من الواحد والثلاثين إلى الخامس والأربعين من الباب الأول من كتاب التحليلات الأولى الفقرات 46 b 40-50 bH، ومؤدي الفقرة الأولى: إذا ما كان الخير جنساً للذة، فهل تكون أي اللذة، ليست خيراً، لأنه إذا ما وجدت لذة غير خيرة فسوف يتضح أن الخير ليس جنساً للذة، لأن الجنس يجمل علي كل شيء يندرج تحت أي نوع معطي (14).
ونلاحظ هنا أنه توجد إشارة إلى قياس وارد في صورة الضرب Barabara (من الشكل الأول ) ” إذا كانت كل لذة خيراً، وكانت س لذة فإن س هي خير ” لإثبات صحة قياس في صورة الضرب Felapton (من الشكل الثالث)، وإذا ما كانت ” لا س ” هي خير، وكل ” س”، فإن بعض ما هو لذة ليس خيراً (15).
وتوجد إشارة مماثلة لهذا في الفقرة التالية ” لننظر ثانية ما إذا كان النوع المفترض يصدق علي شيء ما، ولكن الجنس لا يصدق عليه، مثل ما إذا جعلنا الموجود أو الذي يمكن معرفته جنساً للذي يمكن أن ندلي برأي عنه. لأن الذي يمكن أن ندلي برأي عنه يمكن أن يحمل علي شيء غير موجود ( لأن كثيراً من الأشياء غير الموجودة هي موضوعات للفكر)، ولكن من الواضح أن الموجود والذي يمكن معرفته هو جنس للذي يمكن أن ندلي برأي عنه (16).
وفيما يلي قياس من الضرب Ferison من الشكل الثالث ط إذا كان لا واحد ما هو غير موجود،، موجود وبعض ما هو غير موجود يمكن التفكير فيه، فإن ليس بعض ما يمكن التفكير فيه يكون غير موجود، ويمكن رد هذا القياس إلى قياس من الضرب Darii من الشكل الأول، فنقول ” إذا كان كل شيء نفكر فيه موجوداً وبعض غير الموجود يمكن التفكير فيه، فإن بعض غير الموجود يكون موجوداً (17).
وفي هذين المثالين من الأقيسة كما في التحليلات الأولى، يشير أرسطو إلى الشكل الأول للرد، ولكنه يصوغ أمثلته دون استخدام متغيرات (18).
وثمة نقطة أخري جدية بالإشارة، وهي أن كتاب الطوبيقا لم يقطع صلته بالفكر المنطقي الأفلاطوني، بدليل أن ممارسة فني التصنيف والتعريف في الأكاديمية، هي التي حددت محتويات كتاب الطوبيقا، ومن المحتمل أن تكون نظرية المحمولات هي التي اكسبت كتاب الطوبيقا الوحدة بما تنطوي عليه من وحدة قد درسها الأكاديميون من قبل، لأن “أرسطو” يعرض للمصطلحات الأساسية، مثل الخاصة والعرض والجنس والنوع والفصل، كما لو كانت معروفة من قبل. وكتاب “الطوبيقا” هو نتاج للتفكير المنهج الجدلي المستخدم في الأسئلة المتعلقة بالتعريف والتصنيف (19).
علاوة علي أن القصد من كتاب “الطوبيقا”، فيما يقول أرسطو هو ” أن نستنبط طريقاً يتهيأ لنا به أن نعمل من مقدمات ذائعة قياساً في كل مسألة تقصد “(20)، فإن الكتاب يكون في الواقع عملاً منطقياً قائماً علي مبدأ عام يمكن علي أساسه البرهنة علي أمور حسية، وهذه المبادئ إما أن تكون قواعد منطقية – ويوجد هنا عدد ليل من هذه الواعد علي عكس ما يحدث في التحليلات أو إرشادات منهجية وملاحظات سيكولوجية (21).
من كل ما سبق يتضح لنا أن كتاب الطوبيقا لم يتعد مرحلة الممارسة العفوية للتفكير المنطقي السابق علي أرسطو، حتي وإن انطوي علي بعض القواعد المنطقية، بدليل أن لغة كتاب “الطوبيقا” هي نفس لغة “أفلاطون” ومن قبله السوفسطائيين والأيليين. ولذلك فإن كتاب الطوبيقا هو أحد مؤلفات الشباب التي كان يتمرس فيها “أرسطو” للتدريب علي صياغة القواعد النظرية لعلم المنطق كما جاءت بعد في التحليلات الأولى... وللحديث بقية.
الأستاذ الدكتور محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
..............
1- W. Kneale , M. Kneale: The Development of Logic ,Clarendon Press , Oxford , 1984 , P.23-24.
2-روبير بلانشي: المنطق وتاريخه، ص 41.
3- أ. م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، دار الثقافة لدنيا الطباعة والنشر، 1990م، ص 102-103.
4-نفس المرجع، ص 103.
5- د. محمد فتحي عبد الله: الجدل بين أرسطو وكنط، دار الوفاء، الاسكندرية، 1999م، ص 36.
6- أ. م. بوشنسكي: المرجع السابق، ص 104.
7- نفس المرجع، ص 104.
8- نفس المرجع، ص 104.
9- نفس المرجع، ص 105.
10- نفس المرجع، ص 105.
11- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص46.
12- أرسطو: منطق أرسطو، ج1، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ط1، وكالة المطبوعات، الكويت، 1980، ص225.
13- د. حسن عبد الحميد: التفسير الابستمولوجي لنشأة العلم الحديث، بحث منشور ضمن كتاب نظرية المعرفة، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1988م،.. ..، ص 201.
14- Aristotle: Topica, Translated by W. A. Pickard-Cambridge، B.IV،ch.1, 120b, 17-20.
15- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 125.
16- Aristotle: op cit، B.IV,ch.1،101b, 20 ff.
17- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 125.
18- W. Kneale , M. Kneale The Development of Logic, London, 1990, p.38-39.
19- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 127-128.
20- Aristotle: op cit، B1،100a, 1 ff.
21- أ. م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، ص 128.
ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (7)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
التقييم النقدي للفكرة القومية عند انطون سعادة
لقد توصلت في المقال السابق إلى أنَّ الرؤية المتضاربة عند انطون سعادة من حيث أسلوبها في تأسيس الفكرة، ومنهجها في التحليل والنقد والمواقف، وغايتها العملية الكبرى، قد أدت إلى تناقضات كبرى في فكرته عن القومية. والسبب هو نزوعها الأيديولوجي الصرف.
وفي هذا كانت تكمن حدود الاختلاف والتناقض "الديناميكي" بين المساعي الفلسفية في تأسيس الفكرة القومية "السورية" وتأسيسها الأيديولوجي الصرف. وبغضّ النظر عما يمكن قوله عنه وعنها بهذا الصدد، فإنَّ إبداعه النظري وسلوكه العملي كانا يتمثلان رحيق الصعود العقلاني والواقعي والمتجانس للفكرة القومية الحديثة. إذ نعثر عنده على صيغة واقعية ولحد ما عقلانية للحدس العميق بصدد القومية أو الأمة السورية بوصفها تركيبة أو تشكيلة ثقافية وليست عنصرية. ومن ثم العثور فيها على نمط أولي أو صيغة جزئية لحقيقة القومية العربية وفكرتها المحتملة. والمقصود بذلك الفكرة التي سوف ابسطها لاحقاً والقائلة، بأنَّ الصيرورة القومية العربية قد بلغت أوجها في كينونة ثقافية طبعت بطابعها "الأمة العربية" من حيث كونها واقعاً وإمكانية متجددة. وذلك لأنها تصيرّت بقدر واحد في منظومة مرجعيات ثقافية متسامية وتاريخ ثقافي قائم بذاته. الأمر الذي جعل من الممكن تنوع مظاهرها ولكن بوصفها أشكالاً متباينة ومتوحدة لتاريخه الذاتي. ومن بين اكبر وأوضح مظاهر هذا التباين الديناميكي هو ما يمكن أنْ نطلق عليه اسم مراكز وولايات الكينونة العربية الثقافية وهي: شبه الجزيرة العربية، والمشرق العربي، ومصر والسودان، والمغرب العربي (بما في ذلك تاريخه الأندلسي).
فقد كانت الفكرة القومية عند انطون سعادة تتسم بحوافز وبواعث ايجابية مستقلة من حيث مقدماتها وغاياتها. من هنا فكرته عن أنَّ "رسالة البعث القومي الاجتماعي إلى السوريين ليست متولدة من مجرد كره الأجنبي، بل من رغبة حقيقية في صهر نظرياتنا وعقائدنا المتنافرة وسبكها في وحدة روحية لا تعود تتمكن المطامع الأجنبية من تفسيخها وإضعافها". ولم يكن ذلك معزولاً عن إدراكه طبيعة وآثار الخلل القائمة في انتشار وهيمنة الفكرة التقليدية والطائفية الدينية والسياسية. إلا أنَّ هذه النظرة كانت تفتقد في الوقت نفسه لإدراك قيمة التراكم الطبيعي والتاريخي في مجرى تذليلها الإصلاحي. بمعنى أنها لم تدرك الحقيقة القائلة، بأنَّ القضاء على هذا الخلل يفترض المرور بإمراضه من اجل أنْ يكون العلاج طباً عقلياً أو حكمة عملية دقيقة وليس سحراً! غير أنَّ للهيمنة الأيديولوجية "منطقها" الخاص ومذاقها المرير في مواجهة الماضي والحاضر والمستقبل. وقد كانت هذه الثلاثية الأبدية للوجود ميدان الوجد القومي وأمجاده المفقودة بالنسبة لانطون سعادة. من هنا حماسته المفرطة في تأسيس الفكرة القومية السورية. وفي هذا الحماس جرى تهذيب وتشذيب الفكرة القومية السورية ونتوء ملامح الغلو الأيديولوجي فيها. بحيث جعلها تعاني من خلل فكري ومنهجي في التأسيس النظري. ولعل عبارة "القومية السورية" هي بداية هذا التشويش. فمن الناحية "الجغرافية" ليست "سورية" هنا سوى ما أطلق عيه العرب عبارة الهلال الخصيب. بل أنَّ انطون سعادة يضيف إليها شبه جزيرة سيناء وقبرص. وإذا كان لاحقا قد استعمل عبارة الهلال الخصيب بعد جعله سورياً، أي إطلاق عبارة "الهلال السوري الخصيب"، فإنَّ ذلك لم يحل إشكالية الاسم والمعنى والمضمون.
إنَّ سبب هذا الخلل المنهجي يقوم في تغليب الخاص على العام وكذلك في خطأ تحديد مقدمات ومرجعيات الفكرة القومية التي جعلت من عبارة "القومية السورية" لا تتسم بالدقة من حيث الأصل والجغرافيا والمعنى. مع ما يلابسها من إشكالية بالنسبة لفكرة القومية في هذه المنطقة بوصفها منطقة "المشرق العربي". فعبارة سورية من حيث الاسم والأصل خارجية وجزئية. فالاسم إغريقي والمكوّن آشوري. ولا يفي بالغرض اسم الهلال الخصيب السوري. لأنه لا يحل المشكلة بل يزيدها غموضاً. والأمر يختلف في ما لو أطلق عليه عبارة الهلال العربي الخصيب أو المشرق العربي. فكلاهما أدق وأعمق وأصدق من حيث المقدمات والغايات والشكل والمضمون.
أما المصدر العام لها الخلل المنهجي فيقوم في افتقاد الفكرة القومية السورية عند انطون سعادة إلى قاعدة فلسفية دقيقة في تأسيسها للأبعاد التاريخية للفكرة القوية السورية. الأمر الذي أدى إلى هيمنة مفارقة خاصة في فكره وفكرته تقوم في وجود فكرة فلسفية منغلقة وانفتاح أيديولوجي! وهي مفارقة يصعب حلها بمعايير المنطق! الأمر الذي حدد كمية ونوعية الخلط والتشويش الكبير في اغلب مفاصلها المتعلقة بوعي الذات القومي والتاريخي. لقد أراد أنْ يجعل تاريخ سورية ووعيها الذاتي معزولاً مفصولاً عن صيرورته التاريخية بوصفه كينونة ثقافية عربية إسلامية. ولعل موقفه من الدين واللغة الذي تخلل اغلب مفاصل موقفه النقدي من الفكرة القومية العربية ومحاولة الاستعاضة عنهما بعنصر البيئة أو الجغرافيا من بين أكثرها تعبيراً بهذا الصدد.
لقد انطلق انطون سعادة في فهمه لعناصر الدين واللغة تجاه قضية الفكرة القومية بمعزل عن الماضي والحاضر، أي عن الواقع والإمكانية. وهذا بدوره لم يكن معزولاً عن الفكرة "السورية" المستقلة عن تراثها العربي الإسلامي. كما إنَّ محاولاته إبراز خصوصيتها من خلال نقد التاريخ العربي الإسلامي أو الكشف عن"خصوصيته" بهذا الصدد، لم تكن أكثر من أحكام أيديولوجية صرف لا علاقة لها بالتاريخ الفعلي ومنطق التطور الثقافي. من هنا يمكن فهم ترديده لأحكام "أجنبية" عن "سورية" نفسها وتاريخها السياسي والثقافي وكينونتها الفعلية. إذ انه لم يجد في التاريخ السوري تاريخاً ذاتيا فعلياً إلا في المرحلة الأموية. ومع أنَّ الخلافة الأموية كانت جزء من صيرورة الدولة العربية "الإسلامية" إلا انه يفصلها عنها بوصفها نفياً لتقاليد "الدولة الدينية" التي وضع النبي محمد أسسها التاريخية والعقائدية الكبرى. بمعنى انه ينتزعها عن تاريخ العرب وتاريخ الإسلام لكي يجعلها جزءاً من "تاريخ سوري" قائم بذاته. وهذا حكم لا علاقة لها بتاريخ الصيرورة الذاتية للدولة العربية الإسلامية. أما أحكامه القائلة، بأنَّ النبي محمد استخدم "الدولة لإقامة الدين وجعل الدين أساسا لتنظيم شعب باق في حالة همجية"
[1]، فإنها مجرد ترديد باهت لبقايا الاتهامات الشعوبية وكذلك استعادتها الفجة في مرحلة الصعود الكولونيالي الأوربي. بينما سبق وإنْ جرى نقدها وتفنيدها منذ قرون عديدة بمعايير التجربة الكونية الفعلية للحضارة العربية الإسلامية. وينطبق هذا على حكمه القائل، بأنَّ الدولة التي أنشأها النبي محمد كان تخضع لغرض الدين وليس الدين هو الذي انشأ لغرض الدولة. وهو حكم مقلوب لأحكام التاريخ الفعلية. كل ذلك يشير إلى ما يمكن دعوته باختلاط الرؤية الأيديولوجية بالتاريخية والفلسفية والعلمية، التي أعاقت وشوشت إمكانية الرؤية السليمة لمسار التاريخ العربي في سوريا بوصفه تاريخاً ذاتياً وجوهرياً بالنسبة للفكرة القومية الحديثة. ومن خلاله فهم جوهرية اللغة والدين في الوعي الذاتي العربي، بوصفهما مكونين تاريخيين وثقافيين للفكرة العربية بوصفها فكرة ثقافية وليست عنصرية[2]. وذلك لأنَّ اللغة بالنسبة للذات العربية والتاريخ القومي ليست قضية منطقية أو شكلية مجردة، بل وليست حتى قضية ثقافية كبرى، بقدر ما هي مكون روحي وعقلي ومنطقي وثقافي يرتقي إلى مصاف المرجعية التأسيسية، أي المكوّن الجوهري في الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية العربية، التي جعلت من الأمة العربية أمة ثقافية. الأمر الذي ميزها عن سواها في تاريخ الأمم الكبرى، أي كل ما جعل ويجعل لحد الآن من الفكرة القومية إشكالية كبرى لم يجري حلها بسبب ضعف أو عدم رؤية هذه الحالة الخاصة[3].
وينطبق هذا على فكرة عزل الدين عن الدولة بوصفها مصدر التقدم الحديث. والقضية هنا ليست فقط في تاريخ وبنية الفروق الكبرى بين الإسلام والنصرانية بهذا الصدد، بل ولأنَّ الفكر الأوربي العقلاني نفسه، كما هو الحال في شخصية ماكس فيبر على سبيل المثال وكثير غيره من ممثلي العقلانية والحداثة الأوربية، اعتبر البروتستانتية مصدر التطور العقلاني والتكنولوجي والاقتصادي والأخلاقي للغرب الحديث! أما تطبيق بعض مرجعيات الفكر السياسي الأوربي بمعزل عن تاريخها الذاتي فإنه يؤدي إلى تصنيع "الأوهام العقلانية". وذلك لأنها تبقى من حيث الأصل والفعل "عقلانية" مغتربة. وفي الحالة المعنية تعني بأنَّ هذه الفكرة تبقى مغتربة عن حقيقة التاريخ العربي ومصادر وعيه الذاتي. فهي تجهل أهمية الدين وتراثه المتنوع والمتعدد بالنسبة لبناء الفكرة القومية نفسها على أسس ذاتية سليمة. فالقومية تفترض إعلاء شأن مؤسسات ومرجعيات جديدة تناسبها من خلال النفي التدريجي المتراكم بمعايير الوعي الذاتي وليس حسب مقتضيات الرؤية الأيديولوجية المبنية على أساس تأمل تجارب الآخرين أيا كانت حصيلتها. وينطبق هذا على تقديمه للنموذج التركي الحديث. والقضية هنا ليست فقط في انه لا علاقة للإسلام التركي بالعالم العربي، بل ولأنَّ نهوض تركيا الحديث كان له مقدماته الخاصة بسبب استمرار الدولة القومية، على عكس العالم العربي و"سورية" بشكل خاص. وبالتالي، فإنَّ إشكالية الدين والدولة بالنسبة للعالم العربي هي إشكالية مفتعلة، أي أيديولوجية خالصة وتقليدية فجة لتجارب أوربية مفصولة ومعزولة عن تاريخها الذاتي. بل إنَّ تأمل التجارب التاريخية الأوربية بهذا الصدد تكشف عن أنْ التغطية الدعائية والسياسية للتبشير وأفضلية النصرانية على غيرها و"مرجعية" همجية الأديان والثقافات الأخرى وما شابه ذلك كان على امتداد قرون، القاسم المشترك عند أكثر واكبر الشخصيات العقلانية الأوربية. وبعد نفاذ هذه المهمة جرى الانتقال التدريجي إلى مرجعيات أخرى لم تتحرر بصورة نهائية من ثقل هذا الإرث المريض. وبالتالي، فإنَّ محاولة الانتقال أو حرق المراحل، لا يؤدي إلا إلى تجارب باهتة وعديمة القدرة على النمو الطبيعي.
خلاصة القول، إنَّ موقف انطون سعادة من الدين واللغة يكشف عن ضعف إدراكه لطبيعة المكون الثقافي للحضاري في تاريخ الأمم. كما انه يمثل نمطاً من الخروج على فكرة تلقائية التاريخ الثقافي، ومن ثم دور وإمكانية المكونات التي لعبت فيه أدوارها الخاصة. فالأسطورة الإغريقية لها دورها الخاص في الفكر والثقافة، ومن ثم التاريخ الحضاري الإغريقي. بينما لا أثر لها في التاريخ العربي. وعلى العكس لعب الدين من حيث كونه منظومة، أثراً جوهرياً ومنِّظماً وفاعلاً في إرساء أسس الحضارة العربية وتأسيس مرجعياتها العقائدية الكبرى، التي أثرت بدورها على صنع منظومات مرجعية متنوعة ومتوحدة في الوقت نفسه في ميادين الفكر والروح والقيم وغيرها. إنَّ عدم إدراك حقيقة الإسلام كما هو، ودوره وأثره بالنسبة للفكرة العربية، بوصفهما توأمان لصيرورة تاريخية كبرى وكينونة ثقافية تلازمها سوف يؤدي بالضرورة إلى انتشار وهيمنة الخلل الفكري والسياسي تجاه إدراك القيمة التاريخية والتأسيسية للفكرة الإصلاحية بالنسبة للمستقبل. بعبارة أخرى، إنها تؤدي إلى الجهل بقيمة المرجعية الفكرية القائلة، بأنَّ الحقائق التاريخية الكبرى هي حقائق ثقافية ومن ثم منطقية.
إنَّ قضايا العرب والعروبة والإسلام واللغة العربية هي بديهيات تاريخية ثقافية ووجودية في الوعي والضمير الفرد والاجتماعي في الشام والعراق وفلسطين والأردن وليست إشكاليات فكرية أو روحية أو حتى سياسية. لكن الأمر مختلف نسبيا في لبنان النصراني وليس لبنان المسلم. ولهذه القضية تاريخها السياسي الخاص وخللها الاجتماعي وتشوهها الطائفي، أي حصيلة "منظومة" الخلل العميق في الوعي الاجتماعي اللبناني الذي لم يستطع التخلص منه إلا قلة قليلة جداً. أما بالنسبة لانطون سعادة فإنه أراد تذليل هذا التاريخ المزيف أو الزمن السيئ و"منظومة" الخلل، ولكن من خلال القفز على تاريخ المشكلة ومن ثم مستقبلها بوصفها تطوراً تلقائياً، وليس مشروعاً أيديولوجياً صرف. الأمر الذي جعل من اللغة العربية والدين الإسلامي والثقافة العربية وفكرة العروبة إشكاليات أيديولوجية وسياسية صغرى وليس مرجعيات ثقافية كبرى. وبالتالي الاستعاضة عن التاريخ الثقافي المتراكم في صيرورة العالم العربي وكينونة الثقافية بمصدر البيئة (الجغرافيا والأرض) بوصفها القوة الصانعة للروح القومي السوري. مما جعل من فكرته القومية صيغة نسبية وجزئية للفكرة القومية[4].
فقد كانت الاستعاضة عن التاريخ الثقافي المتراكم في صيرورة العالم العربي وكينونة الثقافية بفكرة الأرض والبيئة نكوصاً على مضمون الفكرة الاجتماعية نفسها بوصفها فكرة عقلانية وثقافية. والقضية هنا ليست فقط في أنَّ فكرة الأرض (التراب) هي فكرة غير عقلانية، ومن ثم لا يمكنها أنْ تكون أرضية عقلانية للفكرة القومية، بل وبسبب فقدانها للأرضية الواقعية نفسها. فالأرض "السورية" هي أرض عربية، أما تحويلها إلى مصدر الصيرورة التاريخية للروح القومي بالضد من "صحراء العرب" فإنه لا يعمل إلا على توسيع الهوة المفتعلة بين "القومية السورية" و"القومية العربية" مع ما يترتب عليه من إمكانية وضع أحدهما بالضد من الآخر. ولا يغير من ذلك وجود الفكرة الدقيقة والسليمة التي قال سعى إليها انطون سعادة من أنَّ "العوامل الجغرافية السلالية والتاريخية والسياسية والنفسية"، هي "عوامل تغلب على الدين"[5]. إنها فكرة سليمة من الناحية المجردة فقط. وتصبح مطابقة "للروح القومي" للأمة حالما يجري تذليل الدين و"المرحلة الدينية" في الوعي بوصفها مرحلة تاريخية طبيعية وثقافية خاصة، أي تذليل المكون الديني- اللاهوتي وتفعيل المكون الثقافي العقلاني. وبدون ذلك تصبح هذه المواقف والأفكار والأحكام النظرية مصدراً لتشويش الوعي النظري والعملي وتخريب تكامله التاريخي. وذلك لأنها تسير باتجاه مخالف بل ومضاد للرؤية النظرية العلمية الكامنة في إدراك قيمة التاريخ الثقافي الذاتي، وبالتالي عدم رؤية الحاضر بمعايير المستقبل. مع ما يترتب عليه من خلل في الرؤية المستقبلية للفكرة القومية "السورية" نفسها.
وقد يكون موقفه من "تجديد الروح القومي السوري" في مجال الأدب والإبداع نموذجاً لذلك. إذ أنَّ اغلب، إنْ لم يكن جميع استنتاجاته النظرية تصبّ بهذا الاتجاه، بحيث أدت إلى فكرة عامة تقول، بأنَّ الروح القومي السوري ينبغي له، من اجل تجديد ذاته في ميدان الأدب، الرجوع إلى الأصول التي دمرتها الثقافة العربية! فالسوريون لم يفلحوا بإكساب شخصيتهم على الثقافة العربية إلا في زمن الخلافة الأموية، ولما جاء العهد العباسي قلّ التأثير السوري وكثر التأثير الفارسي. وإنَّ ما أخذته الثقافة العربية من الثقافة السورية كان طفيفاً وجزئياً، وذلك بسبب مزاج العرب "الحار المكتسب من طبيعة بلادهم الحارة ذات الرمال المحرقة" التي لم تتفق مع "هدوء النفس السورية النامية في محيط معتدل لطيف تتغير فصوله تغيراً منتظماً فلا ينزعج الفكر في مجراه". وأنَّ "طبع العرب القديم مخالفاً للعمران والاطمئنان إلى راحة الضمير"، وأن "اللغة القومية الجديدة (العربية) قد طغت على اللغة القومية القديمة"، وأنَّ حصيلة "الأدب العربي" لا تتعدى كونها أبيات من الشعر تارة تمثل الشعور الجامح، ونماذج من الكرم البدوي والحكم السخيف، وبعض أخبار وقادة العرب وأمرائهم. وهو كل الثروة الروحية التي ورثها "السوريون" عن العرب[6]، وأنَّ "القول بوحدة الأدب العربي خطأ مشهوراً لا يفضل الصواب المهجور"[7]، وما الى ذك. لكن الأمر اختلف حالما جاء دور الاتصال بالغرب والآداب الغربية. حينذاك "لمس السوري في هذه الآداب آثاراً من أساطيرهم السابقة ومثلهم العليا وسرعان ما تحول الفكر السوري الجديد عن الانقياد إلى المثل العليا الضئيلة التي خلفها الأدب العربي إلى البحث عن المثل العليا المعبرة عن النفس السورية". بعبارة أخرى، إنَّ الغلّو في "السورية" قد أدى ليس إلى سلخها الفعلي عن مقوماتها الذاتية، بل وأدى إلى نوع من الاستلاب لا يقل عما كان انطون سعادة يدعو لمواجهته. وذلك لأنَّ الحصيلة الجلية لذلك تقوم في توصله إلى أنَّ التأثر بالغرب الحديث هو أسلوب أو طريق وعي الذات السوري القومي الأدبي والروحي!! أما اعتبار إدراك الذات السورية ووعيها الروحي من خلال الاحتكاك بالثقافة الغربية بسبب ما فيها من مثل عليا مميزة للثقافة والروح السورية فهو أما استلاب ثقافي أو ضغينة ضد العرب المسلمين أو لجهل بالتاريخ الثقافي والقومي العربي (السوري) أو جميعهم. أما النتيجة المترتبة على ذلك فهي تمهيد الطريق النفسي والفكري لسلخ "سورية" عن ذاتها العربية. ولا يغير من ذلك العبارات والكلمات والشعارات التي تعتبر الفكرة القومية السورية الاجتماعية الأشد دفاعاً وتمثلاً للعروبة الحقيقية وليس الوهمية كما دعاها انطون سعادة أحيانا. والسبب يكمن في أنَّ تغليب الخاص على العام في الرؤية النظرية للفكرة القومية السورية قد أدى من حيث الجوهر إلى تأسيس فكرة قومية في العالم العربي لا علاقة لها بالعروبة! ووجد ذلك انعكاسه في الاستنتاج النظري الفكري القائل بانعدام وجود أمة عربية واحدة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "لما لم يكن العالم العربي قطراً واحد وبيئة واحدة وسلالة واحدة ومجتمعا واحدا، فلا يمكن أنً تكون له شخصية فيزيائية ونفسية واحدة. وبالتالي لا يمكن أنْ تكون له قومية واحدة ومطالب واحدة ونظرة واحدة إلى الحياة والفن"[8]. وبالتالي، فإنَّ "تسمية شعوب العالم العربي أمة هي من باب إطلاق الأسماء على خلاف مدلولاتها ومعانيها"[9]. وهو حكم يستتبع عدم توصله إلى إدراك ماهية الأمة العربية بوصفها أمة ثقافية، أي كل ما توصل إليه بصدد "الأمة السورية".
إنَّ تأسيس الفكرة القومية السورية بالصيغة المذكورة أعلاه عند انطون سعادة كانت تحتوي على محاولة تأصيل الاستمرار الثقافي. غير أنَّ إشكالاتها تقوم في عدم إدراكها جوهرية التاريخ العربي الإسلامي بالنسبة للفكرة القومية السورية بوصفها فكرة عربية. ولم يكن هذا بدوره معزولاً عن الخلل المنهجي المتعلق بفهم حدّ وحقيقة ومسار التاريخ والمعلومات والآثار. وبغض النظر الأسباب الشخصية والمنهجية الكامنة وراء هذا الخلل، فإنَّ حصيلته تشير إلى جانب واحد محدد لا لبس فيه وهو التحزب الأيديولوجي الصرف المبني على ضرورة وأهمية "الدولة السورية" من اجل التمتع بتاريخ ذاتي خاص. لكن تفسيره وتأسيسه يتسم بخلل بنيوي هائل من الناحية التاريخية والثقافية والمنهجية. فهو تأويل لا يصنع غير نفسية وذهنية التحزب المفتعل. ليس ذلك فحسب، بل ويقف بالضد من منطق الفكرة القومية الحديثة في العالم العربي بوصفها فكرة عربية أولا وقبل كل شيء. بمعنى يمكنها أنْ تكون عربية سورية وليس سورية عربية. وذلك لأنَّ كل التاريخ العربي الثقافي جرى في "سورية"، أي في منطقة المشرق العربي (أو الهلال الخصيب). أما الرجوع إلى ما قبل ذلك فهو مجرد أساطير. وإذا كان ذلك لا ينفي أهمية هذا الرجوع بل وضرورته بالنسبة للوعي الثقافي العام، فإنه ليس بذي قيمة جوهرية بالنسبة لوعي الذات القومي "السوري" الحديث بوصفه وعياً قومياً عربياً. وبدون ذلك لا يؤدي هذا التنظير إلا إلى توسيع مدى الانفصام الثقافي والانغلاق القومي. وبالتالي إلى عدم إدراك العلاقة الضرورية بين الواقع الحالي والمستقبل، والإمكانية والواقع، والكمون والحقيقة، والجزئي والكلي في القضية القومية العربية.
إنَّ هذه الملاحظات النقدية تبقى جزءً من ضرورة تقييم التجربة النظرية للفكرة القومية العربية الحديثة. وهي لا تقلل من فكر انطون سعادة، على العكس. أنها تكشف عن قوتها وإشكالاتها في الوقت نفسه. وذلك لأنَّ انطون سعادة يبقى، بالنسبة لي، أحد أعظم مفكري ومنظري الفكرة القومية العربية الحديثة. وإنَّ فكرته عن القومية السورية تبقى ذات أهمية عملية في ظروف العالم العربي الحديث ولكن بعد إعادة تدقيقها في ظل مستجدات الصيرورة المتأخرة للفكرة القومية العربية وواقعها الفعلي.
ا. د. ميثم الجنابي
.......................
[1] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص180.
[2] إن إشكالية الدين واللغة بالنسبة للفكرة القومية العربية هي إشكالية "لبنانية"، أي "سورية" ضيقة لازمت مرحلة صعودها وتنافر قواها الداخلية بأثر الاستعمار الفرنسي وبقايا الانحطاط الاجتماعي والثقافي والسياسي والدولتي التي لازمت السيطرة والهيمنة العثمانية. بل إنَّ كل من حارب أو عارض أو سعى لنقد أهمية وجوهرية اللغة (العربية) والدين (الإسلامي) بالنسبة للفكرة القومية كانوا من أقليات قومية أو دينية (مسيحية). والشخص الوحيد الذي تجاوزها من خلال الرجوع إليها بوصفها مرجعية بما في ذلك من خلال اعتناقها الشخصي هو ميشال عفلق. ويندرج ضمن هذا السياق أتباع الأيديولوجيات الغربية من ذوي الاستلاب الثقافي والجهل المعرفي وبالأخص "اليسار"، أي تيار التقليد السياسي والأيديولوجي والاستلاب الثقافي الذي عادة ما لازم محاولات "الأقليات" العرقية والدينية "الاندماج" المفتعل بقضايا وإشكاليات العالم العربي. ولا تخلو فكرة ومواقف انطون سعادة المتعلقة باللغة (العربية) والدين (الإسلامي) بالنسبة لتأسيس الفكرة القومية العربية من تأثير دفين وغير مباشر لنفسية وذهنية الأقلية الدينية (النصرانية). ولا يغير من هذه الحقيقة محاولاته الجادة والمتجانسة والمخلصة من اجل إرساء أسس الفكرة القومية على قواعد الدنيوية الخالصة. ومن ثم الإبقاء على الدين باعتباره قضية شخصية.
[3] الاستثناء الوحيد في تاريخ الفكر العربي الحديث هو ما توصل إليه عبد العزيز الدوري في كتابة (الجذور التاريخية للقومية العربية)
[4] بل يمكن القول، انها الوجه الاخر للفينيقية اللبنانية ولكن اكثر توسعا من الناحية الجغرافية – بالاسم فقط- وذلك لان كل ما يقدمه سعادة من ادلة لا تتعدى في الاغلب حدود لبنان الحديث والنصرانية اللبنانية.
[5] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص 236.
[6] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج3، ص141.
[7] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج11، ص123.
[8] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص245.
[9] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص245.
زينب سعيد: موازنة بين اللغة العربية الفصحى والعامية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: زينب سعيد
الدارجة المغربية أنموذجا
مقدمة: تعتبر اللغة مشكلة فلسفية في كل مجتمع، إذ نجدها في مجالات مختلفة وقد أعطيت لها عدة تعاريف، يتضح ذلك من خلال اختلاف آراء العلماء والمفكرين في تعريفها. فهناك من يعتبرها صورة للشعب ونفسيته التي يتكلم بها كليبنتز[1]. في حين يرى البعض أنها آلية لنسج العلاقات والتواصل بين الأفراد كما يقول ابن جني: "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". ويعتبرها ديكارت خاصية للإنسان بما هو حيوان ناطق أي مفكر، وحيوان اجتماعي، ويعني هذا أن اللغة هي الآلية التي يفكر بها الانسان ويقيم بها علاقاته الاجتماعية. في حين يعتبرها تمام حسان جهازا من الحروف والكلمات والصيغ والعلاقات النحوية في مجتمع ما، ويتعلمها الفرد اكتسابا، ليدخل بذلك في زمالة اجتماعية[2]. فاللغة ظاهرة اجتماعية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبنية الاجتماعية، وهي، بحكم طبيعتها، منغمسة في حياة المجتمع اليومية، وتمثل الوعي العملي لهذا المجتمع[3]. إنها الأداة الرئيسية في عملية التواصل الاجتماعي، وتحدد المدركات التي قد تكون اجتماعية، كما يقول توفيق شاهين: "اللغة تعطي الفرد شعورا بالانتماء إلى مجتمعه وهي كائن يتغير، وهذا التغيير ظاهرة طبيعية"[4]. وبما أن اللغة مجموعة من الأفكار والتعابير يكتسبها الانسان لأجل التواصل، فهي منظومة تتضمن وحدات نحوية، وقواعد تقوم على مبادئ وتصورات للوجود، وهذه المبادئ والافتراضات لا تتبع التفكير ولا هو يحددها، بل هي التفكير ذاته[5]. أو هي نظام من رموز ملفوظة عرفية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمجموعة الاجتماعية التي تنتجها وتتواصل بها وتعتبر آليتها للإبداع والتواصل والإخبار. وبالتالي فهي أكثر من مجموعة أصوات يصدرها الانسان، إنها أداة الحضارة بعد أن كانت ظاهرة انفعالية تترجم العواطف، والانفعالات، ويترجم بها الانسان عناصر الحياة إلى رموز لغوية يتفق عليها، تختزن في الذهن وتستحضر وقت اللزوم. فأثناء عملية المحادثة، أو التواصل تصدر الأصوات أو تكتب الرموز لتعبر عن المعاني وذلك حينما تتكامل عملية التكلم ويختار الذهن للحدث ما يناسبه وما يشابهه من رموز لغوية دالة عليه[6]. والأصل في اللغة أن تكون كلاما أي منطوقة، واللغة المنطوقة هي تلك التي تقوم على ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات ينتجها النطق، في حين تذهب لغة الكتابة إلى تمثيل الكلام المنطوق بطريقة منظومة، فهي اختراع او اكتشاف انساني لاحق على اختراع اللغة. وقد اعتبر سابير الأشكال الكتابية رموزا، أي أنها ثانوية بالنسبة لرموز الكلام الملفوظ[7]. ولقد ظهرت لها عدة فروع علمية لسانية في خضم التطور الذي شهدته الدراسات والأبحاث اللسانية أبرزها علم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics الذي يعنى بدراسة العلاقة بين اللغة والمجتمع بوصفها ظاهرة اجتماعية. وتندرج تحت هذا العلم فروع أخرى كعلم اللهجات Dialectology والتخطيط اللغوي Language Planning والتحول اللغوي Language Shift والموت اللغوي Language Death . ويعود إلى دوركهايم السبق في النظر إلى اللغة في جوانبها الاجتماعية، ويتبدى ذلك حين يقرر أن اللغة ظاهرة اجتماعية منذ البداية، أو شيء اجتماعي بالدرجة الأولى[8]. ويرى عالم اللسانيات ادوارد سابير أن اللغة الأم التي يتكلمها أبناؤها ويفكرون بواسطتها تنظم تجربة المجتمع وتصوغ المعالم الأساسية لوجوده وكينونته الذاتية؛ لأن اللغة تنطوي على رؤية مميزة وخاصة للعالم، ويقول في هذا الصدد دونلاب Dunlap "يمكننا أن نعرف أشياء كثيرة عن حياة الشعوب والأمم عن طريق دراسة وتحليل اللغات التي تتكلمها"[9]. فاللغة العامية هي اللغة المنطوقة أو الكلام الشفهي وهو كلام العامة وكلام التواصل اليومي. في حين أن اللغة الرسمية أو اللغة الفصحى هي لغة الكتابة أو اللغة الرسمية ولغة الدولة. فما هي أوجه التداخل والتنافر بينهما؟
في تحديد مفهوم اللغة الفصحى
جاء في معجم الرائد أن اللغة الفصحى هي: " كل لغة نهجية تخضع لقواعد الصرف والنحو والأصول والتركيب اللغوي، وهي لغة الأدب والعلم ووسائل الإعلام والصلاة وما إليها وعكسها اللغة العامية، وهي اللغة المحكية." [10]
فاللغة العربية الفصحى هي اللغة التقليدية، لغة الكتب والتعليم والمجلات الفنية والفكرية والصحف ولغة المكاتبات الرسمية، ولغة المدارس وتستخدم في مجال الإنتاج الفكري. ويستخدم مفهوم الفصحى للدلالة على أعلى شكل من أشكال التعبير اللساني الذي يأخذ نموذجه الأعلى من القرآن ومن الشعر الجاهلي. هناك من يستخدم اللغة العربية الفصحى للتعبير عن الشكل المبسط للغة العربية الذي يتجلى في الإعلام والخطاب الرسمي، وهو لا يضاهي اللغة الفصحى من حيث الصعوبة والبناء اللغوي. وهذا يعني أن اللغة الفصيحة لغة عربية فصحى تميل إلى البساطة في بنيتها وتركيبها، وتعني إجرائيا بالعربية الفصحى أو "الفصيحة" اللغة التي تراعي أصول وقواعد اللغة العربية ونحوها وصرفها والتي تستعمل أحيانا كلغة للتدريس والخطابة الجامعة[11].
وتتميز بصحة الفاظها، ودقة معانيها ووضوح مبانيها. وقد عني علماء اللغة بالحديث عن مقياس الصواب اللغوي" الذي تلتزم به الفصحى. ويرى كثير منهم أن الفصاحة تقوم على دعامتين: المحافظة على سلامة اللغة العربية من جهة ومراعاة التطور الذي تخضع له من جهة أخرى. والفصحى في جوهرها أن يجري الكلام على المقاييس الجمالية والنحوية للغة العربية القديمة في أكثر تجلياتها الأدبية وأدق معانيها الفكرية وهي اللغة التي تحاكي القرآن بوصفه أعلى مراتب الفصاحة وأكثرها جمالا وبيانا واكتمالا. [12]،عكس اللغة العامية أو اللغة الدارجة، فماهي اللغة العامية؟
مفهوم اللغة العامية
يعرف ابن خلدون العامية بأنها:" لغة كل شيء تلقائي طبيعي، لغة أم كل عربي، يرضعها مع حليب أمه، إنها ملكة راسخة" ويعتبرها زكريا سعيد اللغة التي تستخدم في الشؤون العادية ويجري بها الحديث اليومي. لا تخضع لقوانين لأنها تلقائية متغيرة تبعا لتغير الأجيال وتغير الظروف المحيطة بهم[13]. ومن مميزاتها نجد أنها:
لهجة متطورة وحية تتصف بإسقاط الإعراب
تعتمد على الاقتصاد اللغوي
تتميز بالاقتباس والتجديد في المعنى
تعبر عن الحياة بحلاوتها وقسوتها بطلاقة[14]
أوجه التنافر والاختلاف بين اللغة العامية واللغة الفصحى
يكمن الفرق بين اللغة الفصحى والعامية في كون اللغة العربية من اللغات السامية وباعتبارها أكثر اللغات السامية انتشارًا، حيث إن العربية قديمًا كان ينطقها العرب بأكثر من لهجة، فلكل قبيلة لهجتها، وهذه اللهجات منها الفصيح القوي ومنها المنبوذ الضعيف، فكانت قريش أفصح القبائل، فقد تم اختيار لغتها كلغة رسمية. ومع التطور العلمي للغة العربية، واطلاع العرب على لغات باقي الحضارات، تسلل إلى العربية الكثير من الكلمات التي ليست بالعربية، وفي حين كان اللحن عند العرب القدامى عيبًا أصبح الحديث بالفصحى في هذا العصر صعبًا خصوصًا عند ذوي الثقافة المتدنية، غير أنَّ العامية فيها الكثير من الكلمات التي لا تتصل بالعربية، إضافة إلى أنها أحيانًا لا تخضع لقواعد العربية، ولا إلى المنطق الذي بُنيت عليه.[15] فإذا كانت اللغة العامية السائدة في مجتمع هي لغة التواصل المستعملة في شؤون الحياة اليومية العادية في مختلف أوجه الحياة اليومية. فإنها لا تراعي قواعد اللغة العربية وأصولها كما هو الحال بالنسبة للفصحى. إذ تتميز العامية بكونها تمتلك مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة أو وسط اجتماعي محدد مكانيا وزمانيا، وتمتلك نسقا من الخصائص اللغوية المرتبطة بالوسط كالعامية المغربية والتونسية والمصرية والسورية واللبنانية... واللغة العربية كغيرها من اللغات تمتلك نسقا من اللهجات المحلية يغطي مختلف البلدان العربية والأقاليم المحلية في هذه البلدان. ويطلق على اللغة العامية أسماء عديدة: اللغة السائدة والعامية والدارجة[16] وتتميز بتحريف اللفظ وغموض الكلمات وإبهام المعاني والخروج عن المألوف في قواعد الفصحى،[17] باعتبارها هيكلا حيا ومتغيرا تستجيب لمتطلبات المجتمع، لأنها أكثر متغير من اللغة الفصحى وتضيف كلمات جديدة بشكل أسرع، في حين أن اللغة الفصحى نظام أكثر تعقيدا، لا تتجدد بسهولة ويتطلب إصلاحها عملا مشتركا[18].
وقد استعملت العامية Dialect قديما بمعنى اللغة، وتعني اللغة المتداولة بين الناس، وهي ما نطق به العامة على غير سنن الكلام العربي[19]. ومن تأثير بين اللغة والمجتمع نجد: تغييرات صوتية، استبدال الأصوات الرخوة بأصوات مشددة، وتبديل بعض الحروف كتبديل حرف الجيم غينا[20] (كما هو الحال في الدارجة المصرية: جميل، غميل) والقاف همزة (قم، ؤم) [21]. وتميل إلى التبسيط ولاسيما في القواعد، حيث تختفي صيغة المثنى تقريبا وينقص عدد الضمائر، وتختفي أوزان الجمع وحركات الإعراب. وهذا يعني أن العامية العربية غير قادرة على أداء دور ثقافي في مجال المعرفة العلمية والثقافية، وعليه فإنه يجب على المتكلم أن يعود إلى الفصحى ليمزجها بتراكيب عامة إن أراد التعبير عما يقول بشكل أوفى [22]. إنها لغة الشعب كله تسيل على الألسن بلا عسر ولا تصنع، وتعبر خير تعبير عن مشاعر الناس وأفكارهم وتطلعاتهم وطموحاتهم. وهي عكس لغة الكتابة التي تدون بها المؤلفات والصحف والمجلات وشؤون القضاء والتشريع والإدارة.[23]ويحددها المجلس الأعلى للغة العربية بأنها" مستوى تعبيري يتخاطب به العامة عفويا في الحياة اليومية، وهو مستوى غير خاضع لقواعد النحو والصرف ويتصف بالتلقائية والاختزال، إنها عربية فقدت بعض الخصائص الموجودة في الفصحى مثل الإعراب".[24] يستعملها المجتمع أحيانا في الأفلام والروايات والمسرحيات باعتبارها لغة التواصل اليومي،[25] إنها لغة متحولة وسريعة التغيير، لا تكاد تثبت على حال بما فيها من صواب، وتشتمل على مفردات وعبارات ومصطلحات لم تعرفها العربية الفصحى دخلت اللغة عبر الاحتكاك باللغات الأخرى كالفرنسية والاسبانية والانجليزية وغيرها عكس اللغة الفصحى، التي ترتكز في أساسها على قواعد الإعراب التي تضبطها[26]. ويمكن إجمال نقط الاختلاف بين العامية والفصحى، كما حددها السوسيولوجي السوري علي وطفة، في:
تتميز اللغة العامية بوصفها لغة شفهية يتحدث بها الناس دون أن يكتبوها في حين تتميز الفصحى بأنها لغة كتابة وتدوين؛
العامية لغة الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي في حين أن الفصحى لغة رسمية يتم تداولها في الإدارة والإعلام والأدب والسياسة والتعليم والكتابة والمحافل الدولية؛
تعتمد العامية على السجية والانسيابية والعادات اللغوية المألوفة ولا تخضع لمنطق القواعد اللغوية كما هو حال الفصحى التي تعتمد على منظومة من القواعد والمبادئ التي يجب مراعاتها أثناء الكتابة والحوار؛
تراعي الفصحى متطلبات البيان اللغوي في أرفع مستوياته ضمن نطاق الصرف والنحو والألفاظ الدلالية المتقنة، وعلى خلافه تعتمد العامية الاقتصاد اللغوي واليسر اللفظي التعبيري دون اهتمام بمقتضيات الدقة اللغوية والبيان اللغوي المتطور؛
تتنوع العامية بتنوع الجغرافيا والطبقات والفئات الاجتماعية والمجموعات السكانية في حين تأخذ الفصحى طابع لغة وطنية شاملة على وحدتها مع التنوعات الاجتماعية والتباينات الاجتماعية؛
يتضح تأثير العامية وحضورها الواسع في لغة الطبقات الاجتماعية الواسعة في حين يقتصر تأثير الفصحى في النخب الثقافية والاجتماعية ولدى أبناء المتعلمين من الطبقة الوسطى؛
تتباين العامية بتباين اللهجات المحلية في البلد الواحد: المصرية، السورية، اللبنانية، المغربية. في حين تتميز الفصحى بوحدتها وتجانسها وشمولها بوصفها لغة وطنية واحدة في مختلف جوانب الحياة الثقافية والسياسية والعلمية والأدبية؛
تتصف العامية بفقرها العلمي، عكس اللغة الفصحى
تختلف العامية في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وتنوعهم الاجتماعي ولهجاتهم: لهجة الفلاحين، ولهجة العمال، ولهجة الطبقة البورجوازية. لهجة الشماليين ولهجة الجنوبيين.. هذا التباين ليس له حضور في اللغة الفصحى. [27]
الدارجة المغربية توارد بين الامازيغية والعربية
لكل عامية أصول تستمد منها وجودها وكينونتها ولكل لغة قواعد خاصة بها تكون بنيتها الدلالية وهويتها اللسانية وترتكز هذه القواعد على أربعة مستويات: المستوى المعجمي: “lexical” والمستوى النحوي والصرفي “morphologique et grammatical” والمستوى التركيبي “syntaxique” والمستوى الفونولوجي “phonologique”. إن اللغة مبنى معقد البنية، لأن مادتها الخام التي بنيت بها من حيث نوعيتها هي نظام أصواتها، اعتبارا لمخارج الحروف فيها ولتفاعل تلك الحروف فيما بينها “la phonétique”. وأساسها هو مجموعة الالفاظ التي تكونها وتحدد معانيها أي معجمها، وصرفها هو الصياغة التي تصاغ عليها لتشكل سياق البناء والطريقة التي تصفف بها تلك المواد كلها وترتب في الجدار هي تركيب الجمل وربط بعضها ببعض. لهذا يجدر بالباحث، عندما يفحص نتائج التأثير والتأثر بين لغتين تواردت عناصرهما في لغة ثالثة أن يراعي كل المستويات المتناظرة في اللغتين والا يقتصر على مقارنة المعجم بالمعجم[28].
فإن كان للعربية الفصحى أثر في اللغة الدارجة المغربية فإن للأمازيغية دور في تنشئتها من حيث معجمها، حيث هناك فرق شاسع بين صرف الكلمات في الدارجة وبين صرفها في الفصحى. إذ أن هناك تأثيرات اللغة الأمازيغية الفنولوجية والصرفية والتركيبية على دراسة التأثيرات المعجمية عليها[29].
ومن بين هذه التأثيرات هناك:
تسكين الحرف الأول في الكلمة، "العربية لا تبتدئ بساكن"، كْلسْ، نْعس،
إسقاط المد لقاض بدلا من القاضي
حذف همزة القطع لسلام وليمان بدل الإسلام والايمان، لبير بدلا من البئر خرّج، دخّل بدل أخرج أدخل
تفخيم الراء المكسورة على خلاف ما هو في العربية "الفريق"، "الله يبارك"
لا وجود للثاء والذال المعجمية والظاء في النطق بالدارجة المغربية تنطق "تاء" و"دالا" و"ضادا"[30].
تحويل الهمزة إلى ياء كاين بدلا من كائن
إدغام كلمة في أخرى كيراك بدل كيف أراك[31]
نجد أن أغلب الصيغ الصرفية في الفصحى محافظ عليها في العامية المغربية، سواء في باب الأفعال أم الأسماء والمصادر (فَعَلَ، يفعل، افعَلْ، فاعل، مفعول، مستفعل، افتعال فَعل، مفاعلة، تفاعل، فعّال، مِفعل، مَفعل، مَفعال..) وفي المجال النحوي لا نجد اختلافا جذريا بين نمط تركيب الجمل في الفصحى عن نظيره في العامية إلا في جزئيات بسيطة[32]، مع وجود تأثيرات صرفية ونحوية أمازيغية على العامية المغربية من قبيل:
غياب التثنية، ينوب عنها الجمع حيث أنه لا مثنى في الأمازيغية؛[33]
كثيرا ما يعامل المذكر معاملة المؤنث والعكس أيضا صحيح، هناك من يؤنث الباب والجامع ويذكر اليد والرجل والأذن أي الأسماء العربية التي لا تميزها عن المذكر علامة تأنيث؛
يؤنث التصغير على أنه تصغير مذكر لأن التصغير في الأمازيغية مؤنث الصيغة دائما "حليبة" "خبيزة" "كليمة"؛
أحيانا ما تقحم اسم الفاعل ميم في أوله لأن اسم الفاعل في الأمازيغية أوله ميم بالقياس "ماجي" بدلا من "جاي"؛
تكون النكرة من الأسماء ملازمة لحرفي التعريف "ال"ويضاف إليها العدد "واحد" "شفت واحد الرجل"[34].
أما فيما يخص الأفعال فكثيرا ما:
يصاغ الفعل المبني للمجهول على النمط الأمازيغي فيكون أوله تاء مضعفة تّباع، بيع، تّبنا، بني، تّحرت، حرث؛
يتقدم الفعل المصرف في المضارع حرف كاف أو تاء كياكل، "ياكل"، كيشرب "يشرب" تيجري "يجري؛
لا مثنى في النسق الصرفي للأفعال خرجو، دخلو، نعسو؛
لا فرق بين المذكر والمؤنث كلما أسند الفعل الماضي إلي المخاطب أنت خرجتِ تقال لكل من المذكر والمؤنث؛
يكون الفعل العربي متعديا بنفسه فيصير متعديا بالحرف في الدارجة كما هو الحال عليه في الامازيغية "بلغ لو لخبار" "بلغه الخبر"؛[35]
الضمير الغائب يكون واحدا شاملا في تصريف الفعل الماضي: (هما خرجا/ هما خرجتا/ هم خرجوا/ هن خرجن) مقابلها في الدارجة هو خَرجو التي تدل على كل الضمائر السالفة الذكر كما هو الحال في الأمازيغية، نفس الشيء بالنسبة لضمير المخاطب (انتما جئتما/ أنتم جئتم/ أنتن جئتن) تخصتر كلها في جيتو التي تدل على كل الضمائر السابقة؛
عدم التمييز بين الجنسين في الضمائر فيقال: خرجو التي تدل على كلا الجنسين، الذكور والاناث: خرجن وخرجوا، كما هو الحال في الأمازيغية؛
اختصار جميع صيغ الاسم الموصول في الفصحى (الذي، التي، اللذان، اللتان، الذين، اللائي، اللاتي) في صيغة واحدة مختصرة وهي "اللي"؛
اختصار الصيغ العديدة لجموع الكلمة في صيغة واحدة، وعدم التمييز بين أنواع الجموع المختلفة: جموع الكثرة وجموع القلة، جمع تكسير...
تحويل بعض حروف العلة قياد بدل قواد، يكسيه بدل يكسوه؛
تحويل بعض الأفعال من لازمة إلى متعدية بنفسها: جابو بدل جاء به[36].
خاتمة
تعددت الأبحاث والدراسات التي تناولت موضوع اللغة وعلاقة الفصحى بالعامية، وقد ذهب البعض إلى اعتبار العامية لغة تواصل يومي تنهل في معجمها وصرفها وتركيبها من الفصحى وذهب البعض الآخر إلى اعتبار ها لغة قائمة بذاتها ولها جذور غارقة في القدم، حيث اعتبروها لغة موازية يجب توظيفها والاستفادة منها، حيث إن تركيبها ومعجمها وصرفها يختلف عن الفصحى وينهل من اللغة الأصل التي تعتبر لغتها الأم كحال الأمازيغية، التي يعتبرها محمد المدلاوي[37]: "اللغة التي تنحدر منها القيود والاستعدادات البراميترية المتحكمة في آلية تطبيع الكلمات على نحو الدارجة المغربية وعلى سننها". ويأخذ في الوقت نفسه من الفصحى لأن معجم الدارجة المغربية معجم سامي تمثله أرضية فونولوجية أمازيغية وعربية على حد سواء. على رغم من كل ما قيل تبقى اللغة العامية أقدم أداة للتواصل وآلية التخاطب اليومي والشعبي المنفتحة على التغيير والتطور المستمر ومجال توارد بين اللغتين الأمازيغية والعربية الفصحى مع التغييرات التي أدخلتها على معجمها من خلال احتكاكها بلغات أخرى كالفرنسية والاسبانية اللتين نجد كثيرا من آثارهما المعجمية راسخا وحاضرا فيها من قبيل ميكانيكي، بلومبي، كوافورة وغيرها من الكلمات التي أصبحت جزءا من الرصيد المعجمي للدارجة المغربية.
زينب سعيد
..............................
[1] إبراهيم انوس، فلسفة اللغة عند كمال يوسف الحاج، مجلة النشر العربي، الكويت، العدد 14، 1989، ص. 35.
[2] مقدمة المجلة، مجلة دراسات، العدد 2، كلية الآداب، اكادير، 1988، جامعة ابن زهر، مطبعة الجديد، ص. 65.
[3] يوسف الصحافي، اللغة كأيديولوجية، مجلة الفكر العربي المعاصر، الثقافة بعد الحرب العالمية الثانية، قراءة اللغة، مركز الانماء القومي، بيروت، 1991، ج. 84 ـ 85، ص. 74.
[4] توفيق شاهين، علم اللغة العام، ط. 1. ام القرى للطباعة والنشر، القاهرة، 1980، ص. 7. https://www.noor-book.com/كتاب-علم-اللغه-العام-pdf
[5] يوسف الصحافي، نفس المرجع السابق.
[6] توفيق شاهين، نفس المرجع السابق، ص. 7.
[7] ادوارد سابير، اللغة والخطاب الأدبي، ترجمة سعيد الغانمي، ط. 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993، ص، 20.
[8] علي اسعد وطفة، العربية واشكالية التعريب في العالم العربي، المركز العربي لتاليف وترجمة العلوم الصحية، الكويت، 2019، ص. 27/ 28.
[9] نفس المرجع السابق.
[10] نفس المرجع السابق. ص. 32.
[11] علي أسعد وطفة، إشكالية العربية وقضايا التعريب في جامعة الكويت، آراء عينة من طلاب جامعة الكويت، العدد 39، الكويت، غشت 2014، ص. 44.
[12] علي اسعد وطفة، العربية وإشكالية التعريب في العالم العربي، المركز العربي لتاليف وترجمة العلوم الصحية، الكويت، 2019، ص. 33.
[13]عيف ستيبيا نيعرو، مظاهر اللهجات العربية بين اللغة الفصحى الى العامية، دراسة صوتية تحليلية، بحث جامعي، جامعة مالانج قسم اللغة العربية، 2014، ص. 16. https://core.ac.uk/download/pdf/158346633.pdf
[14] فاطمة الزهراء الطالبي، التداخل اللغوي بين الفصحى والعامية في الاعلام المسموع، إذاعة ورقلة الجهوية انموذجا، بحث لنيل شهادة الماستر في اللسانيات التطبيقية، جامعة قاصدي مرباح، الجزائر، 2018، ص. 23
https://dspace.univ-ouargla.dz/jspui/bitstream/123456789/19148/1/Talbi%20fatima%20zahra.pdf
[15] https://sotor.com/الفرق_بين_اللغة_الفصحى_والعامية
[16] علي أسعد وطفة، إشكالية العربية وقضايا التعريب، ص. 45.
[17] علي اسعد وطفة، العربية واشكالية التعريب في العالم العربي، ص. 36.
[18] https://www.academia.edu/1978406/العربية_الفصحى_والعربية_العامية
[19] نفس المرجع السابق
[20] https://core.ac.uk/download/pdf/158346633.pdf
[21] https://www.researchgate.net/publication/336930680_allght_alrbyt_alfshy_wallhjt_alamyt_almsryt
[22] علي اسعد وطفة، العربية واشكالية التعريب، ص. 33.
[23] https://www.researchgate.net/publication/336930680_allght_alrbyt_alfshy_wallhjt_alamyt_almsryt
[24] علي اسعد وطفة، نفس المرجع السابق
[25] اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية المصرية،
https://www.researchgate.net/publication/336930680_allght_alrbyt_alfshy_wallhjt_alamyt_almsryt
[26] https://www.researchgate.net/publication/336930680_allght_alrbyt_alfshy_wallhjt_alamyt_almsryt
[27] علي اسعد وطفة، نفس المرجع السابق، ص. 40.
[28] محمد شفيق، الدارجة المغربية مجال توارد بين الامازيغية والعربية، سلسلة المعاجم الاكاديمية، الرباط، 1999، ص. 7.
[29] نفس المرجع السابق، ص. 8.
[30] [30] محمد شفيق، نفس المرجع السابق ص. 25
[31] عبد العالي ودغيري، الفصحى واللهجات العربية المعاصرة، علاقة اتصال أم انفصال؟ ص. 177. http://www.abgadi.net/pdfs/hkbwfaue.pdf
[32] نفس المرجع السابق، ص 178.
[33] https://akalpress.com/2757-هل-الدارجة-المغربية-لهجة-عربية؟/
[34] محمد شفيق، نفس المرجع السابق ص. 8.
[35] نفس المرجع السابق ص. 25
[36] عبد العالي ودغيري، نفس المرجع السابق، ص. 197
[37] محمد شفيق، نفس المرجع السابق
عبد الجبار العبيدي: نظرة في أزمة الفكر السياسي عند المسلمين بين الأمس واليوم
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي
نحن نكتب اليوم كما كتب من قبلنا الفيلسوف الفرنسي جارودي في تاريخ الفكر السياسي الاسلامي الذي يكمن في جعل الدين أداة للسياسة بأضفاء القداسة عن طريق قراءة حرفية وانتقائية للنص المقدس، وهنا تكمن نكبة المسلمين في حكم الدولة .
مؤسس الدعوة الاسلامية بغض النظر عن كونه رسولاً، لكنه كان يدرك بثاقب بصرة حالة ونفسية العرب في الصراع على السلطة لذ ما كان يريد ان يكون الصراع بأسم الدين أزلياً.. وهو يعلم كيف قتل هابيل اخاه قابيل من اجلها.. واستمرت الحالة عبر الزمن كما روته لنا القصص القرآنية.. لذا قاتل في جبهتين: هما الدعوة الآلهية والتضحية في نجاحها من جهة، وكيفية حمايتها وحماية وحدة المسلمين المستقبلية من جهة اخرى. فكان جهاده (ص) منصباً بالوعظ والارشاد، وبالتكافل بين مؤيدها.. وبتحقيق العدل و المساواة ومسئولية الامن بين معتقديها في الحقوق والواجبات والحفاظ عليها . لذا جاءت الوثيقة المكتوبة تمثل القانون الحقيقي في التطبيق.. ومع الاسف فقد أخفيت الوثيقة من بعده والى اليوم.. من هنا كانت بداية النكبة في حكم المسلمين .
لكن واقع التطبيق للسلطة من بعده، كانوا من المؤمنين بالدعوة قدر ايمانهم بمكاسبها المستقبلية فالطبيعة العربية سلطوية.. كما هم اليوم من كانوا يدعون بالعدل والوطن وحقوق الأنسان قبل 2003 فصدقهم الناس أملا بالتغيير.. لكن الثابت ان غالبيتهم لا يؤمنون بما كانوا به يدعون.. وحين تمكنوا منها تمردوا على الدعوة والحقوق والأنسان فالعِرق دساس.. ولو كان اصحاب الدعوة المحمدية يؤمنون به وبدعوته حقاً لما تنصلوا عنه وعن مبادئه وعقيدته.. بمجرد وفاته فقلبوا له ظهر المَجن وتركوه مسجى وهم يتخاصمون على السلطة قبل ان يجف دمه.. فنادوا "منا امير ومنكم أمير" حتى تم نقل الخلافة من قضية فروع الى قضية عقيدة.. بمؤامرة لادينية بين المهاجرين والأنصار " فبات نظام الحكم عند المسلمين منذ ذلك الوقت يعالج كعقيدة لاكمنهج سياسي خلافا لمبادىء محمد(ص) وأمته التي اراد لها العدل اولا.. .
وكما هم اليوم ما ان استولوا على السلطة قلبوا ظهر المَجن للشعب وأنفردوا في مكاسبها دون الناس فنسوا الله والقسم وحقوق الوطن والناس فسرقوا اموالها وقتلوا علمائها ومفكريها وباعوها للأخرين بأسم المذهبية والطائفية التي حاربها الأسلام.. وأستمر هذا النهج الخاطىء حتى سقوط دولة الخلافة عام 656 للهجرة على يد المغول وبتأمر منهم (أبن العلقمي وزير المستعصم العباسي مثالاً) والى اليوم.. ولا أعتقد سيتغير الأمر في ظل قيادات الدين الساكتة عن الحق التي ترى نفسها فوق الناس حين خانوا الوطن مع المحتل الاجنبي بغض النظر عن دكتاتورية السلطة لحكم المتعنتين.. هذه هي طبيعة القيادات التي اتخذت من الدين وسيلة للوصول الى السلطة.
من هنا بدأت أشكالية الحكم في الاسلام فتوقف التقدم الحضاري عند العرب، لا بل زادت الخلافات حتى مزقت جسد الوحدة بينهم.. وانا اعتقد لو بقي العرب على حالهم قبل الاسلام يحكمهم مجلس الملأ القبلي بقوانينه الصارمة والمخلص لوحدتهم القبلية والفكرية لتقدموا عبر الزمن مثل الامم الاخرى. ولبقي معالم المشروع الاسلامي الذي جاءهم فيما بعد قابل للفعل في ظروف العصر.. لان مفهوم الدعوة الآلهية لا يعتبر مفهوما في النظر او العمل فحسب.. بل فيهما معاً لتحديد المسار للدعوة في المنطلقات والتوجات والتطبيق، وهي مكونات التشريع ... ولأصبح الوعي والايمان بها وبمفرداتها وعياً تاريخيا مستوعبا لها وبشموليتها أملاً في التحقيق.. وهذا لم يتحقق منذ البداية.
لكن حين تغلبت المصلحة الشخصية والقبلية على المصلحة العامة عاد التأسيس القرآني لنفس مواصفات ما قبل الاسلام ولم يعد للمتغير الاجتماعي من اهمية وفق جدلية التاريخ الجديدة، ووفقا لقوانينها المحددة الملتزمة بالنص الديني المقدس، فعادوا يحكمون بنظرية عقيدة السلطة لا كمنهج سياسي رباني جديد.. وانما منهج سلطة ورياسة ولا غير.. وما دروا ان العودة عبر الزمن مستحيلة.. خاصة في متطلبات دعوة ربانية جاءت لتحقيق المساواة والحقوق بين البشر في مجتمع لا يعرفها من قبل ابدا في التطبيق.
من هنا كانت أهمية التجديد.. على مستوى الرؤية التاريخية ومن هنا أيضاً ان يكون مشروع الدولة الجديدة قابلاً للفعل في ظروف العصر.. وأوضاع العصرالجديد المستمر باعتبارها دعوة دينية سماوية دائمة الحضور مقبولة التنفيذ.. . لا تُخرق.
في ظل السلطة والفقهاء الجدد وتفسير النص المقدس حسب أراءهم وأجتهاداتهم القديمة والمختلفة والمتخالفة التي تتحكم فيها طبيعة السلطة البدوية.. واللغة عندهم لم تستكمل تجريداتها اللغوية بعد وفق معايير الاسلام.. أخترع التفسير للنص الذي ليس له من أصل في القرآن بل كان التاويل "وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم، آل عمران آية 7 ".. مما أفرز ظهور الخلاف في الرأي والمعنى الذي استغلهما العهد الاموي لينقل السلطةالى مُلك عضوض.. ومن بعدهم العباسيون ليحولوه الى نظرية حكم الهي يمثلون الله في التطبيق يقول المنصور العباسي :" انما اناسلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقة.. أطيعوني ما أطعت الله". حتى جاءت القرون التالية ليؤسس الفرس والاتراك في عهد الدولتين البويهية "334-447 للهجرة". السلجوقية "447-547 للهجرة" وفقهائهما حكم الكائفة والمذهب خلافاً لمبادىء الدعوة.. .وانعكست تلك الأراء فيما بعدعلى أسس التدريس، الذي غذى عقول الطلبة بالطائفية والخطأ المقصود الذي شق المعتقدين بالدعوة من امة واحدة " ان هذه امتكم أمة واحدة وانا ربكم فأعبدون، الانبياء 92"الى أمم متخاصمة فيما بينها.. فلم يعد بالأمكان نزع الفكر الخاطىء من معتقدية.. نظرية صعبة لا يمكن مقاومتها في ظل الفكرالسياسي والديني المتقاطع اليوم..
أما كان الأصلح لهم ان يكونوا على دين واحد بدلاً من ان يكونوا متخاصمين على مذاهب دينية مخترعة ليس لها في الدين من أصل.. أم انهم أستغلوا الدين لأثبات العنصرية..؟ أم استغلوه لصالح أنفسهم في حكم السلطة ؟ كما في نظريات الفقهاء من امثال الكليني (ت447 للهجرة) والماوردي (ت364 للهجرة) كما في قول قول المعمم الصافي ممثل السستاني في كربلاء حين يقول:" ليس المهم ان تكون متمكنا في الدنيا، المهم ان تكون عابداً لتكون غنيا في الأخرة.. فكر متخلف ومتحجر قتلوا به التقدم والتحضر والحقوق.. أما هم فلهم حق سرقة اموال المواطنين والرفاه الاجتماعي.. والأديان؟
فكراسلامي جديد مخترع من الفقهاء البارحة و اليوم يقاوم التقدم ويلغى نظريات الحرية في الاختيار، والصدق وصفاء النية والبعد عن الخداع وقتل النفس الأنسانية بلا ضمير كما هو سائد في قوانين منظماتهم اللانسانية، ومذاهبهم الباطلة، التي بها قتلوا كل العلماء والمفكرين ومن له رأي صحيح، وكل من يُشم منه رائحة الاخلاص لوطنه ودينه وأنسانية الأنسان، دون تحديد كما في فكر حزب الله ومليشيات الغدر والتنفيذ.. عوضاً عن فكرٍ أنساني موحد يحمي الحدود من الغاصبين المخربين للوطن والانسان بلا حدود كما في فكر المصلحين.. بعد ان جسد الفكر الديني المذهبي المتزمت المعتمد على النص الثابت دون الأصول.. فهل لنا من محاولة جادة في العصر الحديث لتحويل عصر النصوص الى الأصول لأرتباطه بتطور الفكر الفقهي ونمو الاستنباط، نظرية قالها.. محمد باقر الصدر في كتابه"المعالم الجديدة ص54" حين رأى فيها، انها حاجة تاريخية للأبتعاد عن عصر النصوص التي جعلت السلطة او الخلافة عقيدة مذهبية تجنبهم معارضة الأخرين، التي استمسك بها الحاكمون الى اليوم.. ويقف قادة حزب الدعوة الجدد.. والحزب الاسلامي.. والاخوان المسلمين.. في المقدمة.. ؟
هكذا كان الاحساس عند اهل الشورى الحقيقية منذ البداية خوفا من ان يتحول المرض الى نظرية جبرية حتمية لاشفاء منها ابداً، وهذا ما حدث، وهكذا قالها الصحابي سعد بن عبادة وأنسحب من الخلافة فقُتل فقالوا عنه "قتلهُ الجن" "عمر والتشيع، ص169"، كما قتلوا المفكر هشام الهاشمي فقلوا قتله مجهول.. منذ ذلك الوقت هي نفس التبريرات لمن يريدون قتله سياسياً..، وهذا ما نواجهه اليوم دون أمل في الاصلاح ممن أمسكوا بسلطة الدولة والدين النصي المغاير للصيرورة الزمنية معاً.ورغم ان الفقه أوسع نطاقاً من القانون في التشريعات المعاصرة، لكن هذا الفقه الأصولي قد تمت أزاحته من التعامل.. حين حل محله فقه السلطة في التطبيق حتى استطاعوا ابعاد نظريات التطور لتحل محلها نظرية الخليفة القيصرأو ولي الفقيه ليحولوه الى نصوص دينية يصعب التعامل معها في ظل التطور الفكري والتكنولوجي اليوم.. فادخلوا في الدساتير نصا يطالب بتطبيق الشريعة في حكم الناس كما في الدستور العراقي الهجيني بعد التغيير في 2003 الذي ولد الفرقة بين المواطنين.. "المادة الثانية منه".. فكان لهم ما أرادوا.. لكنهم ما دروا انهم قتلوا العقيدة والوطن وأنفسهم.. والدين.. معاً.
ان نقل الرئاسة من قضية فروع الى قضية عقيدة كانت الضربة القاضية التي حلت بالاسلام السياسي فمات من زمن.. من هنا فقدت الأمة بوصلة التقدم. وخاصة بعد الغاء الشورى كنظرية استقامة وحقوق ما جعل النظام الاستبدادي بؤرة الازمة السياسية عند المسلمين والى اليوم.. فحل السيف محل العقل في التطبيق.. لدرجة ان حتى اعلامهم الرسمية اليوم رُسمَ عليها السيف أشارة للعنف والظلم.... وهذا ما ورثوه من الفتوحات الأسلامية الخائبة الظالمة للشعوب الاخرى التي نهى عنها الدين الاسلامي وعن اسلمتها بالقوة "لكم دينكم ولي دين".. .رغم ان النص لم يطبق منذ البداية حين حلت الغزوات والقتل والتهجيرلمن خالفهم في الرأي والحواروهو خير شاهد على ما اقول.... فخلقوا لنا القاعدة وداعش والاخوان المسلمين .
ان تحول هذا الخطأ الذي يكمن في الرئاسة الفردية الى نظرية مطبقة في حكم المسلمين، انهى حكم القيادة الجماعية في ظل الشورى (الديمقراطية) الملزمة فتحول الامر الى الملك العضوض الذي بقيت السلطة فيه مقدسة لا يجرؤ احد ان يمسها بسوء فظلت الدولة تسبح في بحور الظلم والظلام وتخلف الامة طيلة كل هذه القرون الطويلة رغم ظهور بوادر للأصلاح كما في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (99-101 للهجرة) والخليفة المآمون العباسي (ت198 للهجرة) الذي أحتضن فكر المعتزلة الراقي في التطور والتغيير.. لكن الفقهاء الذين وقفوا ضده استطاعوا من افشاله.. والابتعاد عن عصر التطور والحضارة معتقدين انها هي عقيدة الدين فحسب، بينما هي في ذاتها قواعد سياسية، فالدين معناه منهج الحياة المتكامل عقيدة وشريعة وأسلوب حياة. وليس أحتكارا فكريا وتمايزا بين الناس محتجين بأهل البيت والصحابة البعيدين عن مغانم السلطة.. فأضافوا اليها العصمة والشورى والمهدي المنتظر وولي الفقيه في التفضيل.. وكلها ليس لها من أصل في نظرية الدين الجديد "ان أكرمكم عند الله أتقاكم، الحجرات 13".. فجرت محاولات أخرى جادة لانهاء هذا التيار الخاطىء في حكم الدولة تزعم التيار مجددون منهم رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني وغيرهم كثير.. .الذين نادوا بالقيادة الجماعية والغاء فلسفة القيادة الفردية فذهبت جهودهم هباءً.
بعد هذا الزمن الطويل على ممارسة نظريات الخطأ في قدسية الخلافة وولاية الفقيه وما افرزته الحركة الفقهية وخاصة فقهاء الفارسية ابتداءً بالكليني (ت329 للهجرة) وكتابه الكافي مرورا بالشيخ المفيد (ـ431 للهجرة ) وكتابه الأرشاد، واستمراراً بالطوسي (ت460 للهجرة) وكتابيه الاستبصار وتهذيب الأحكام ومن جاء من بعدهم، الذين دمروا نظام الامة بالكامل حتى اقنعوا الناس بالاحاديث النبوية الوهمية كما جاء في بحار الانوار للمجلسي واحاديث مسلم والبخاري المخترعة منهم.. وتفسير الايات القرانية تفسيرا ترادفيا اقنعوا البعض بانهم ظل الله في الارض مقدسين لا يجوز انتقادهم كما في نظرية (قدس الله سره الشريف) حين بلشفوا حتى اعدائهم الذين اصبحوا هم ضحاياهم.
وحين دخلوا مرحلة التحدي علميا وفكريا للمذهب والمقالة والمدرسة في ظل البويهيين المناصرين للمذهب الوهمي على حساب الفكر الاسلامي الموحد الرصين.. حتى اصبح الحكم الفردي دينا يمارس، وطقوسا تؤدى، "البكاء واللطم والزنجيل" ولا ندري على من يلطمون.. ؟ على فقيه مات قبل 1400 سنه وهم اول من ابتعدوا عن مبادئه واهدافه الانسانية.. وكأنه هو الدين.,فأقنعوا المجتمع المغفل بصدق اقوالهم ولا زالوا الى اليوم يستغله المترفون.. هذا التوجه الذي حاولوا به ان ينتقلون من مؤسسة فكرية لقيادة جماعية تحكم بديمقراطية الشورى الى مؤسسة معادية تماما للشورى لضمان مصالحهم دون مصالح المسلمين الأخرين.. فضربوا بحد السيف كل من خالفهم ولا يزالون لاحلال فكرة المذهبية الاحادية كما في مطاردة الزيدية والحركات الباطنية والاسماعلية سابقاً.. وموقف المرجع كاظم االيزدي في النجف حين وقف مع الانكليز ضد ما يطلبه الشعب العراقي في التحريروكل من له فكرمستقل رصين.. تتزعمه اليوم قيادة ولي الفقيه..
مما حدى بصاحب حزب الدعوة السيد محمد باقر الصدر (أعدم سنة 1980) ان يعلن بأرائه الجريئة في قول الحقيقة.. الى مهاجمة فكرة عصر النصوص والعودة لعصر الاصول.. ان استشهاده حال دون اصلاح الخطأ الكبيرفأنتقل حزب الدعوة الى عدو للفكر الاسلامي الأصيل كما مثلته اليوم القيادات الدينية الباطلة المرافقة للأحتلال الامريكي الباطل الجديد من وجهة نظر عقيدة الدين.. و حين ورث الوارثون من حزب الدعوة قيادته في غفلة الزمن اليوم حولوا كل ما جاء به وفي كتابيه فلسفتنا وأقتصادنا.. الى فكر ديني بحت مخالف لما طرحه من فكر جدلي صحيح.. وهكذا استبدوا في المال والانسان والحقوق والسلطة معاً.. . ولم يعودوا الا ناكري دين.. وقادة حزب الدعوة اليوم مثالاً..
فكيف نفهم طبيعة العلاقة بين النهضة الفكرية الحقيقية وبين من يدعون بها اليوم.. ؟نفهما ان همهم الوحيد هو أهتمامهم الفقهي المنغلق المباشر بمسألة شرعية السلطة دون الشورى او ديمقراطية الاسلام الصحيح.
وحين جاء دور فقهاءالسلاجقة من امثال الماوردي (ت450 للهجرة) والغزالي (ت505 للهجرة) وأبن تيميه (ـ 728 للهجرة) نظريته في فصل لدين عن الدولة يعني الفوضى والوهابية المنغلقة على افكار المجددين . على مجاراة الحال بغية استخدام الرصيد المعنوي والذي ملكته مؤسسة الخلافة في الوعي الجماعي لما سمي بأهل السُنة.. فالماوردي مثلا (ت 450 للهجرة) حاول التوفيق بين الرأي المذهبي ومؤسسة الخلافة. والطرح الذي قدمه الغزالي لتكوين علاقة قوية بين الفقيه والسلطان وهو صاحب النظرية الميكافيلية "الضرورات تبيح المحظورات.. لذا بقيت العلاقة بينهما قوية لكنها معقدة افرزت بمرور الزمن بما لايتفق ونظرية الاسلام السياسي في وحدة المسلمين.. ومثلت التجربة الصفوية والتجربة العثمانية في القرن الثاني عشر الميلادي وما بعده مثالاً سيئاً لما حدث حين لم تمنعهم تطبيقاتهم الفكرية من الانحراف والظلم بحق انفسهم والأخرين.. واليوم يحاولون التكرار في مجتمعات مزقتها المذهبية والولائية الباطلة .
ان المشكلة الاساس بين علم الكلام واراء الفقهاء.. أصبحت مشكلة مستعصية.. هذا العلم الذي ظل حبيسا في رأي الفقهاء لذا لم يتمكن من ان يرى النور ليكون تيارا قويا لمنهج مدرسي تتداوله الامة مما افقده افكاره الرائعة التي كان من الممكن ان يفرز نظاما سياسيا مقبولا مثل الديانات الاخرى.. فظلت الشورى لفظا لا تطبيق، وبقيت الفردية هي السائدة اليوم تغذيها الجماعات المناوئه للاسلام والعرب مذهبيا معاً..
يقول باحث اخر في التاريخ الاسلامي: "ان ما يحيرني هو ان الاسلام جاء لتغيير حال العرب بعد ان تدخل في كل التفاصيل، فكيف اهمل المؤرخون الآوَل دراسة هذه الفجوة وتشخيصها التي تتعلق بمصير الاسلام وتركته طعمة للعواصف بعد ان تفرقوا الى 73 فرقة متناحرة كل منها تدعي انها صاحبة الراي والحق الصحيح.. حتى استهلكت اجيال ولازالت المشكلة شاخصة بينهم دون حل.. والى متى؟ واليوم ترفع ايران راية المقاومة الاسلامية التي زادت من شرذمة المسلمين حتى حولت المستقبل الى أظلم بعد ان ساهمت في الفرقة وافتقار الشعوب وتوظيف الاقتصاد لصالح الحرب والتدمير بمقاومة كل فكر نير جديد.. فكيف الخروج من النفق المظلم.. الجديد؟
يقول المرجع الحيدري في النجف الاشرف اليوم: لا يوجد عالم او مرجع جعفري أثنا عشري الا وقال: دون استثناء بتكفير.. المسلم الأخر ودون دليل سوى خزعبلات فقهاؤهم من المتعصبين. "أنظرالشيخ البحراني صاحب كتاب الحدائق الناظرة " فكيف تتفق هذه الاراء ووحدة المسلمين.
بينما نلاحظ ان نهضة الفكر العلمي هي القوة التي حركة المجتمعات غير الاسلامية الى حركة التاريخ والحضارة ودفعتها الى السير في طريق مستقيم يتجه الى الامام بدلا من الدوران في الدائرة المفرغة العقيمة. بعد ان نبهتهم الحركات الفكرية التي وضعت الدساتير والقوانين الى حفظ حقوق الناس والوطن فأحترموها طواعية حتى ساد الامن على النفس والمال، فتحقق لشعوبها ما أرادت.. فأصبحت النظريات العقلية الواعية للتطور الزمني المبتكرة من علماء الفكر هي الاساس في سعادة البشر وتقدم الشعوب.. فمتى نلحق بهم..؟ هذا مستحيل في ظل فلسفة مؤسسة.. الدين الحالية التي لا تؤمن بتطور الفكر الجديد..
أما يستحق التاريخ منا اليوم اعادة نظر فيما كتب فيه.. لتفحص الثوابت في مواجهة ما كتب.. حين خالط تدوينها ما لم تفطن اليه.. حتى طمست حقائق.. واخترعت حقائق.. ومشى الناس تحت سيف السلطة على أخذ ما وجدوا، فأذا بالحقائق تدفن وبالآكاذيب تدون ويضاف اليها ما ليس لها.. كفاية ضحكاً علينا يا مرجعيات الدين..
لن تقوم للامة من قائمة الا بفصل الدين عن السياسة وتشريع القوانين التي تضمن استقلال القوانين عن التشريع .ومنهج دراسي جديد قائم على علمية التدريس..
ولنا لقاء أخر..
د.عبد الجبار العبيدي
صادق السامرائي: أشهر الشعر أقدمه!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
السائد على صفحات التواصل الإجتماعي بأنواعها أشعار شعراء الأمة القدامى، ومن النادر أن تجد مقطعا لشاعر من شعراء الحداثة، مما يدل على أن الذائقة الشعرية العامة لا تتوافق مع الجديد، وتميل إلى القديم، لأنه أرقى وأجمل وأروع.
لو بحثتَ في المواقع والصفحات التواصلية، فستجد مقاطع من قصائد لشعراء أصلاء أوفياء للغة الضاد ولمعنى الشعر، أما رواد الشعر الحديث من أولهم إلى آخرهم فلن تجد ما يشير إليهم.
مما يؤكد أن الحياة للأصيل، والبقاء والخلود له، وما هذه المنثورات الملصوقة بالشعر إلا زوبعة في فنجان الوجيع العربي ستزول حتما وتندثر.
ستثور ثائرة عدد من الأخوة والأخوات من الذين ينثرون ويحسبونه شعرا، أفسدوا فيه تذوق الشعر وأخرجوه من جماليته ورقته وعذوبته وإيقاعاته الندية، وأدخلوه في متاهات الغموض والعمه والعبثية، وكأنهم يرسمون لوحة تجريدية يتعذر فك طلاسمها.
وصار الشعر خطابات تتبادلها مجاميع تسمي نفسها نخبا، ومعظمهم يكتبون لأنفسهم، فما عاد يعنيهم القارئ، لأنهم في صوامعهم العلوية يتبادلون الرسائل الفنتازية، فيوهم بعضهم البعض بأنه يكتب شعرا لا مثيل له.
وتعسكر في المواقع الثقافية المتنوعة، وكلّ يكيل المديح لكلٍّ، فيصيبون الشعر واللغة بأضرار جسيمة.
ويخوّلون لأنفسهم تسمية ما ينثرونه بالشعر، لأنه غني بالإبهام والرمزية والتعبيرات الهذيانية، التي يتضح فيها إضطراب الأفكار وتداخل الصور والمعاني إلى درجة التشوش.
فالشعر الخالد هو الذي يتسرب إلى عقول ونفوس وأرواح الناس ويعيش في دنياهم، وليس مجرد كلمات تعبّر عن كذا وكذا وترسم صورة لحالة ما، وعندما يفقد الشعر إيقاعه، تنتفي صفته ويسقط من موكب الشعر لينام في حندس الخواء الأليم.
أقول هذا كقارئ يوجعني خلو الساحة من الشعر، وفقدان قيمة ودور الشعر، بسبب التوجهات المناوئة للشعر والتي تنتحله إنتحالا سافرا!!
فهل من شعر يا أمة الشعر؟!!
د. صادق السامرائي
نبيل عودة: إدوارد سعيد في "الثقافة والامبريالية" يكشف دور النظام الإمبريالي بتطور الثقافة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عودة
(تاريخيا الثقافة جاءت بالأساس لخدمة الاستراتيجية الإمبريالية، لذلك هي متشابكة ومتواطئة مع المجتمع الذي انتجها) المفكر الماركسي البارز أنطونيو غرامشي حذر من الهيمنة على الثقافة كوسيلة للإبقاء على الحكم في المجتمع الرأسمالي (الثقافة أضحت اليوم القوة المحركة للقضاء على كل اشكال الاستعمار والاستبداد).
في كتابه المثير للتفكير (الثقافة والإمبريالية) للمفكر الفلسطيني (الأمريكي الجنسية) د. ادوارد سعيد، والثري بالمعلومات وخاصة حول تطور الرواية عامة وتطور الأدب ضمن اطار التطور الرأسمالي، كأدب يسوق الفكر الامبريالي عن الشعوب المستعمرة والمتخلفة حضاريا مؤكدا المزاعم السياسية للإمبريالية عن الشعوب الخاضعة والنظرة الدونية لها، والمبرر لاستعمارها، بل ضمن الكتاب يعتبر ادوارد سعيد مثلا رواية روبنسون كروزو كدليل عن دور المستعمر في تعليم الشعوب المتخلفة أسس التعامل الحضاري وإعادة تربيتها. وهذا لا ينفي النظرة الإمبريالية المهينة للشعوب الخاضعة للاستعمار ورؤيتها كشعوب مزعجة وهمجية إلى حد كبير، وانها ثقافيا، اجتماعيا وسياسياً هي شعوب متخلفة ولا ترقى لمستوى المستعمر الحضاري. وان استعمارها هو خدمة لترقيتها وتنويرها. وبالتالي لا تستحق أكثر من ان تكون تحت سيطرة الاستعمار واحتلاله.
"الثقافة والامبريالية"، يتميز بما يطرحه برؤيته المتميزة والجديدة فكريا ونقديا، بمجمل الفكر الإنساني، حول العلاقة بين الثقافة والامبريالية، مقدما تصوره بأن الثقافة جاءت بالأساس لخدمة الاستراتيجية الإمبريالية، لذلك هي متشابكة ومتواطئة (كجهاز اعلامي) مع المجتمع الذي انتجها، وهي شكل من أشكال الاستعمار (الثقافي) الإستعلائي.
يقول د. سعيد في مقدمة كتابه: "ان معظم محترفي العلوم الإنسانية، عاجزون عن ان يعقدوا الصلة بين الفظاظة المديدة الأثيمة لممارسات مثل الرق، والاضطهاد الاستعماري والعنصري، والاخضاع الامبريالي من جهة، وبين الشعر والرواية والفلسفة التي ينتجها المجتمع الذي يقوم بمثل هذه الممارسات من جهة أخرى".
يوضح د. سعيد فكرته حول اندماج الثقافة الكلي مع امبرياليتها بنموذج الامبراطوريتين الاستعماريتين السابقتين، فرنسا وانكلترا، وخاصة إنكلترا، التي كانت تقف في طبقة امبريالية خاصة بها، أكبر وأفخم وأشد مهابة من أي امبراطورية استعمارية أخرى، وفرنسا التي كانت على مدي قرنين، بتنافس مباشر مع إنكلترا، لذلك كما يقول د. سعيد :"ليس من المفاجئ في شيء ان فرنسا وانكلترا تمتلكان تراثا غير منقطع من الكتابة الروائية، لا نظير له في أي مكان آخر، وأن أمريكا التي بدأت تصبح امبراطورية امبريالية في اثناء القرن التاسع عشر، لم تحذُ حذوهما إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد فكفكة استعمار الامبراطوريتين فرنسا وانكلترا".
الكتاب مثير في طروحاته وربما يحتاج الى كتاب آخر لعرض مواضيعه الفكرية المثيرة التي تعتبر فاتحة في الفكر الإنساني كله. فهو الى جانب ذلك مليء بالفكر النقدي والتحليلي المبدع، خاصة حول مفاهيم مثل الثقافة ودور المثقفين.
الكتاب اثار لدي الاهتمام المجدد بموضوع طرح ويطرح اليوم أيضا بأشكال عدة، ويتعلق بموضوع علاقة المثقف مع السلطة. ان المثقف ليس مواطنا عاديا، ليس من ناحية الحقوق الاجتماعية والسياسية، إنما من ناحية التأثير الفكري، وقدرات المثقف على خلق مواقف لها أثرها في تكوين مفاهيم اجتماعية كثيرة والتأثير الفعال على الراي العام، ليس بجانبه الثقافي فقط، إذ يقول ان المثقفون أيضا هم نتاج النظام الاجتماعي والسياسي (السلطة) فما هي قواعد العلاقة، بين المثقفين والنظام الاجتماعي والسياسي؟ هل هي علاقة انتقائية من المثقف او من السلطة؟ ام هي علاقة تفرضها السلطة حسب نهجها وفكرها ومصالحها؟ المثير هنا هل يمكن الافتراض ان السلطة هي التي تخلق مثقفيها؟ وانه لا مجال تاريخيا لوجود مثقفين خارج النهج الرسمي للدول الامبريالية؟ طبعا القصد ليس عصرنا المتحرر، عصر العولمة الذي أصبحت حدوده ما بعد السماء، بل عصور النهضة الاستعمارية في بداياتها وتطورها إذا صح تعبير النهضة لوصف الاستعمار الاستبدادي؟
من الطرح السابق يتضح انه من العبث الرؤية بأن الثقافة مسالة عليا، لا يربطها بالقضايا السياسية والتاريخية أي رابط. ان الثقافة في كل زمان ومكان، كانت بارتباط وثيق بالسياسة. الثقافة هي المعيار الذي يشمل كل المنتوج الاجتماعي، الاقتصادي، العلمي الفني والأدبي. لذلك لا يستطيع المثقف ان يكون منعزلا عن السياسة، لا راي له لما يجري حوله من تطورات واحداث هو في التلخيص الأخير نتاج لها.
هل يستطيع المثقف مثلا ان يكون بلا راي من قضية الديموقراطية؟ من العلاقة بين الدين والدولة؟ من الصراع بين العلمانيين والمتدينين؟ او من قضايا التنمية؟ او من قضايا سياسية دولية ملتهبة مثل العدوان، الاحتلال، جرائم ضد الإنسانية وخطر الحرب المدمرة بشكل عام؟
هل يستطيع المثقف ان يتجاهل قضايا اجتماعية متنوعة كمسالة مساواة المواطنين؟ تحرير المرأة ومساواتها في الحقوق؟ قضايا البيئة؟ او من المفاهيم الجمالية للإبداع الأدبي والفني؟ مثلا المفكر الماركسي البارز أنطونيو غرامشي (1891-1937) حذر من الهيمنة على الثقافة كوسيلة للإبقاء على الحكم في المجتمع الرأسمالي.
عن دور المثقف يقول ادوارد سعيد في كتابة عن "الآلهة التي تفشل دائما"، على المثقف ان يكون واع لكل التعميمات التي تحدت والافكار التي تطرح من قبل وسائل الاعلام، المرئية، المسموعة والمقروءة، التي لا بد ولها توجهات وايدولوجيات معينه وافكار ربما تكون هدامه. على المثقف ان يفهم هده الافكار ويتنبه لها، وان يتصدى لما يراه منها ضار بالمجتمع وان يتكلم عنها وينبه لها، وان يكون البوصلة الحقيقية للمجتمع التي تسهم في اعاده توجيهه نحو الوجهة الصحيحة".
اذن الثقافة قطعت مرحلة تاريخية، من كونها نتاج الامبريالية، الى القوة المحركة للقضاء على كل اشكال الاستعمار والاستبداد.
نبيل عودة
إبراهيم أبراش: جدال لم ينتهِ ولن ينتهي.. بين ثوري و سُلطَويّ
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش
بعد جهد ومعاناة تمكن من الحصول على فيزا وتوفير نفقات رحلة سفر كانت ضرورية حتى يتواصل مع أسرته المشتتة في أكثر من بلد، حاله كحال غالبية الفلسطينيين ثم لاحقاً العرب الذين ضربهم زلزال ما يسمى الربيع العربي فتشتت عائلاتهم وأصبح مفهوم الوطن عندهم ملتبساً ما بين مسقط الرأس المثَبَت في جواز السفر الذي يحمله ومكان الإقامة ومصدر الرزق في أرض الغربة؟.
صعد درجات سلم الطائرة متثاقلاً بعمر يُقارب السبعين، ومثقلاً بحقائب يدوية وأكياس بلاستيك تحوي ما يزيد عن الوزن المسموح به، وأثناء مروره من مقدمة الطائرة حيث يجلس ركاب الدرجة الأولى التقت نظراته للحظات بنظرات أحد ركاب هذه الدرجة وهو يحدق به وكانه يريد أن يتأكد مما يرى، وارتجفت أهداب كلا الطرفين للحظات من لقاء غير متوقع، عرف أنه معين زميل الدراسة في الجامعة قبل نصف قرن تقريباً. واصل سيره إلى المقعد المخصص له في وسط الطائرة حيث ساعدته المُضيفة على وضع أغراضه في المكان المخصص للحقائب، جلس وربط حزام الأمان، وأقلعت الطائرة، حاول أن يغفو إلا أن رؤيته لزميل الدراسة معين جفا النوم من عينيه ورجع بذاكرته إلى زمان لم يَعُد متأكداً الآن إن كان زمناً جميلاً .
في ذاك الزمان كان العالم العربي وغالبية دول العالم منقسمين إلى معسكر اشتراكي ومعسكر رأسمالي امبريالي، وفي حَرَم الجامعة كان طارق معروفاً كيساري تقدمي اشتراكي يشارك في كل المظاهرات الطلابية والأنشطة السياسية، وكان مؤمناً ومنبهراً بالشعارات الكبرى المعادية للاستعمار والصهيونية والأنظمة الرجعية العميلة ورفض التبعية للغربـ، ...، كيف لا يكون ذلك والقوى اليسارية والتقدمية والشيوعية كانت شديدة التفاؤل بقرب انهيار المعسكر الإمبريالي بسبب التناقضات في داخله ولأنه نمر من ورق كما تقول النظرية الشيوعية ومع انهياره ستنهار الأنظمة الرجعية العميلة التابعة له وستنتهي دولة الكيان الصهيوني.
كان الخطاب الثوري اليساري التقدمي آنذاك لا يتوقف عند المطالبة بتحرير فلسطين بل يتجاوز ذلك مطالباً بتحرير لواء الاسكندرونه السوري من الاحتلال التركي وتحرير مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين من الاحتلال الإسباني وتحرير الجزر الإماراتية الثلاثة طُمب الكبرى وطُمب الصغرى وأبو موسى من الاحتلال الإيراني. بالإضافة إلى اسقاط الأنظمة الرجعية العميلة حيث حملت جماعات ثورية السلاح لإسقاط هذه الأنظمة، من عُمان في الخليج العربي إلى المملكة المغربية على شواطئ الاطلسي مرورا بالعراق والسودان ، وآنذاك كان كل مواطن له صلة بنظام الحكم أو يشتغل في الأجهزة الأمنية يُعتَبر عميلاً ومشبوهاً.
واصل شريط الذكريات يحُّول بينه وبين أخذ غفوة ولو قصيرة، فاستعادت ذاكرته كيف كان الاعتراف بإسرائيل أو التواصل مع الإسرائيليين، حتى وإن لم يكونوا صهاينة، من المحرمات وخيانة كبرى، وقد قُتِل مثقفون ومناضلون وسياسيون على يد (ثوريين) و(مجاهدين) لأنهم تواصلوا مع إسرائيليين، وتَذَكر طارق الفرحة التي غمرته عندما تم اغتيال الدكتور الفلسطيني المتميز عصام السرطاوي وبعده سعيد حمامي وغيرهم بتهمة الجلوس مع إسرائيليين غير صهاينة، كما تذكر فرحة التقدميين واليساريين العرب عندما تم اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات لاحقاً لأنه وقع اتفاقية صلح مع إسرائيل، مع أن القاتل كان من الجماعات الدينية المتطرفةّ المناهضة لليسار والشيوعية وكان السادات قائد حرب اكتوبر المجيدة .
فيما هو يستعرض شريط الذكريات قفزت صورة زميله راكب الدرجة الأولى لتملأ مشهد الذاكرة، هذا الزميل كان في نظره يمثل الرجعية واليمين والبرجوازية المتعفنة كما كان يُطلق على كل من يخالف الثوريين والتقدميين الرأي. لم يكن بينهما توافق أو وفاق وكثيراً ما كان يحدث تصادم بينهما يصل لدرجة تبادل الشتائم والاتهامات. كان معين طالباً مجتهداً في الدراسة ومتأنقاً في ملبسه ومتميزاً في صداقاته ومتحفظاً في أفكاره، صحيح أنه لم يكن متعمقاً في الثقافة والسياسة خارج حدود متطلبات الجامعة، لكنه كان يكره كل ما له صلة باليسار والثورية والشيوعية وحتى الإسلام السياسي، ربما بسبب أصوله الاجتماعية والطبقية أو بسبب خوفه من المغامرات، والفكر الثوري والتقدمي والجهادي فكر مغامر بلا حدود، كما كان معين مُعجباً بالثقافة الغربية وما أنجزه الغرب من تقدم، ومعجباً بالأنظمة العربية المحافظة لواقعيتها كما كان يقول .
فيما هو غارق في أفكاره وقبل أن يواصل شريط أفكاره الدوران والنحت في ذاكرة تعود لنصف قرن طلب الربان من الركاب ربط الأحزمة استعداداً للهبوط في محطة ترانزيت قبل مواصلة السفر للمحطة النهائية.
في محطة الترانزيت تجول لبعض الوقت في الأسواق الحرة والمعارض وفَكَر في شراء بعض الهدايا لأفراد أسرته، مع أنه سأل أبناءه قبل السفر إن كانوا يريدون شيئاً وردوا جميعاً نريد سلامتك ولا تتعب حالك لأنهم يعرفون وضعه المالي، ومع ذلك قال في نفسه لا بأس أن أعود لهم بالسلامة مشفوعة ببعض الهدايا، وهذا ما كان حيث اشترى بعض الهدايا زهيدة الثمن.
وإذ هو جالس في قاعة الترانزيت يتأمل الطائرات الرابضة في المطار في انتظار استكمال الرحلة وقف أمامه مباشرة رجل حال بينه وبين استمتاعه بالمنظر الخارجي، فرفع عينيه وإذا به معين زميل الدراسة. وقف مرتبكاً ومد يده بالسلام معرفاً بنفسه، إلا أن معين جذبه محتضناً إياه ومُقبِلاً وجنتيه ومرحبا بكلمات لا تخلو من صدق المشاعر. سحب طارق كرسياً وطلب من معين الجلوس، وبسرعة استحضرا بعض الطرائف الخفيفة من أيام الدراسة مع سؤال عن فلان وفلان من الزملاء، متذكرين بعضهم ومتابعين أماكن عملهم ووضعهم العائلي، وناسين آخرين أو لا يعرفون مصيرهم، ومترحمين على من وصلهم (وصلتهم) أخبار وفاتهم.
لأن أخبار وأحوال معين كانت تصل لطارق عبر الأصدقاء ومما تتناقله وسائط التواصل الاجتماعي أحياناً لأن معين أصبح رجل سياسة وتبوأ مركزاً مرموقاً في السلطة الفلسطينية فليس من المنطقي أن يسأله عن حاله لأن ذلك سيعتبر إما جهلاً من طارق بأحداث الوطن، أو تجهيلاً لمعين واعتباره وكأنه نكرة لا يعرفه أحد، ولذا بادر معين بسؤال طارق عن أحواله وعمله ومحل إقامته، فعامة الشعب لا يعرفهم إلا أقرب المقربين منهم على عكس الطبقة السياسية حيث تصبح معرفتهم مفروضة على الجميع، سواء كانت معرفة حب أو كراهية.
بسرعة لخص طارق مسيرته الحياتية، فبعد أن أنهى التعليم الجامعي سافر لدولة عربية للعمل في التدريس وتزوج هناك وأصبح له أبناء وأحفاد، وحمد الله على كل حال، وكأن بقايا أو جذوة الثورية ما زالت متقدة داخله استطرد قائلاً: المهم حافظت على مبادئي ونقائي ورفضت كل المغريات حتى العمل في السلطة الفلسطينية التي جلبت العار والهوان وفرطت بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني مُلمحاً إلى فساد أبو فلان وأبو علان من المسؤولين في السلطة وإلى ما وصل إليه حال القضية بعد توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة، واخذته الحماسة ليتحدث عن الفساد في السلطة وفي منظمة التحرير وعن التنسيق الأمني وعجز السلطة عن وقف الاستيطان والتهويد وكيف حوَّلت المواطنين إلى أسرى لها من خلال الرواتب والتهديد بقطعها عن كل مَن يخالفها وتحدث عما سماها المجزرة التي قامت بها السلطة ضد كل جيل الثورة والنضال بإحالتهم إلى التقاعد المبكر، وكيف تتحمل السلطة ورئيسها المسؤولية عن الانقسام وحصار غزة وقطع رواتب أبناء القطاع أو تخفيضها...، ولم يتوقف إلا لأخذ النفس ورشفة قهوة وجرعة ماء ليبلل ريقه الذي جف من كثرة الكلام وحدة نبرة الصوت .
استمع معين لطارق مبتسماً دون أن يقاطعه بالرغم من أن في كلام طارق غمزا ولمزا من معين ذاته، وكيف لا ومعين ابن السلطة وأحد رجالاتها ومن المدافعين عنها حتى وإن لم يكن في الصف الأول. بعد أن توقف طارق وارتشف من فنجانه رشفة أخرى هدأت من توتره منتظراً رداً غاضباُ من معين كما كانت عادته أيام الدراسة، قال معين بهدوء: أتفهمك جيداً وأتفهم غيرتك على الوطن وتمسكك بمبادئك حتى وإن كنت أشك بثباتك على مواقفك الأولى بعد كل الانهيارات التي حدثت في المعسكر الاشتراكي وفي منظومة اليسار والتقدمية عبر العالم بما في ذلك عالمنا العربي وفلسطين في قلبه، ولا أريد أن أدافع عن اتفاقية أوسلو والسلطة ولكن أقول لك إنهما كانا ممراً إجبارياً ،وعليك أن تفكر ما سيكون عليه حال الثورة والمقاتلين الموزعين في الدول العربية التي ضربتها فوضى الربيع العربي لو لم يدخل المقاتلون والسياسيون إلى فلسطين، وما هو مستقبل الثورة ومنظمة التحرير لو لم تشارك المنظمة في مؤتمر مدريد 1991 الذي حضرته كل الدول العربية باستثناء من لم يتم دعوتهم – ليبيا والعراق- وهو مؤتمر كان هدفه تسوية الصراع سلمياً وتجاوز منظمة التحرير، وانظر يا صديقي إلى حال اليسار الفلسطيني والعربي ولا تقل لي إن معسكر اليمين العربي والفلسطيني المتواطئ مع الغرب الاستعماري كما تقولون هُم المسؤولون عن تراجع اليسار والفكر الثوري والتقدمي والقومي، وحتى إن كان لهم مسؤولية فهي محدودة.
الكل يا صديقي أخطأ بل وأجرم في حق الوطن، ولتَقُل لي بصراحة، إذا كنا رجعيين ومستسلمين ،كما تسمينا، فرطنا في الوطن فماذا فعل الثوريون والتقدميون ومعهم الجهاديون؟ ولا تقل لي إننا السبب في الحيلولة بينهم وبين تحرير فلسطين أو توحيد الأمة العربية، أيضا لماذا تتجاهل أخطاءكم وفشل تجاربكم اليسارية والشيوعية والثورية، هذا لا يعني أن الحركات والأنظمة الرجعية واليمينية العربية كانت على صواب أو أن الوضع ما بعد انهيار الفكر والمشروع القومي والتحرري والتقدمي أصبح أفضل حالاً، أو أن حالنا بعد أوسلو واعد بنصر قريب.
يا صديقي، العالم يتغير والأيديولوجيات التي كنا أسرى لها تراجعت والشعارات الكبيرة لم تعد اليوم تحرك ساكناً ليس لأنها كانت خاطئة، بل لأنها كانت رومانسية وسابقة لعصرها ولا تتوفر على أدوات تنفيذية لتحويلها لواقع، كما أن معسكر اليسار والتقدمية والقومية نفسه كان متصارعاً مع بعضه البعض وأنت يا صديقي تتذكر الخلافات والصراعات بين القوميين والشيوعيين وبين تيارات اليسار والشيوعية نفسها، وحتى داخل الحزب الواحد كما هو الحال في الصراع بين جناحي حزب البعث العربي في سوريا والعراق، وتفكُك حركة القوميين العرب وتفكك من انفكك عنها، هزيمة عبد الناصر والناصرية في حرب حزيران 1967 الخ .
يا صديقي يجب أن نعترف إن لم يكن بأخطائنا جميعاً فعلى الأقل نعترف بأن الأمور والناس لم يعودوا ملك يميننا وخاضعين لرغباتنا وخصوصا بالنسبة لنا كفلسطينيين، قل لي بربك يا صديقي من هو اليميني الرجعي والعميل ومن هو اليساري والتقدمي والثوري في المشهد السياسي العربي والفلسطيني الراهن؟ هل يمكن إصدار أحكام مطلقة بأن من يحملون السلاح ويحاربون النظام ويثيرون الفوضى في سوريا وليبيا واليمن وقبلها في الجزائر وتونس الخ ثوار وتقدميون، والأنظمة المستَهدَفة رجعية ويمينية؟ ولماذا نذهب بعيداً ولنتحدث عن فلسطين ولتقل لي بصراحة أين موقع قوى اليسار والقوى التقدمية في المشهد السياسي الفلسطيني وما هو دورهم النضالي؟ ولا تحاججني بأنهم ما زالوا متمسكين بالمبادئ والثوابت الوطنية، فالجميع يقول بذلك والمسألة ليس التمسك بالثوابت والمبادئ لأن هذه شعارات بل المطلوب تحويلها إلى واقع وممارسة تؤدي إلى إنهاء الاحتلال، وإن حاججتني بما تسمى قوى المقاومة في فلسطين فهذه أنجزت هدنة مع العدو وأصبحت تتحدث عن مقاومة شعبية سلمية وحتى على هذا المستوى لا تتوفر ولم تتوافق على استراتيجية وطنية لهذه المقاومة السلمية، وأصبحت السلطة والوصول لها هدفاً بحد ذاته.
لم يقطع حديثهم أو جدلهم الذي ينكأ الجراح إلا صوت الإعلان عن موعد الإقلاع والاستعداد لركوب الطائرة.
عاد طارق إلى مقعده في الطائرة وكان المقعد المجاور له خالياً، جلس ورأسه كاد ينفجر لأنه منذ فترة طويلة لم يدخل في مثل هكذا جدال مع شخص من المعسكر الآخر المخالف لرأيه ومعتقداته، كما استفزه حديث سمير الواثق من نفسه والذي تحدث وكأن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير حررتا فلسطين أو أوشكتا على ذلك ،أو أن رجالات السلطة ومنظمة التحرير عقلاء وملائكة وغيرهم جهلة وشياطين، وما آلمه أكثر أن كثيراً مما ذكره صديقه القديم كان منطقياً إذا حاكمناه أو وضعناه في سياق ما آلت إليه الأمور أو بمنطق السياسة الواقعية.
وفيما هو يحاول استجماع شتات أفكاره واستعادة هدوئه دهمه معين بالجلوس بجانبه تاركاً مقعدة في الدرجة الأولى بعد أن استأذن من المضيفة التي أكدت له أن المقعد شاغر. ابتسم طارق وكأن مجيء معين أسعده وربما فسره بأنه محاولة من معين لإزالة الحواجز النفسية والطبقية بينهما أو للاعتذار له وتبديد ما قد يكون نقاشهم تركه من غضب عنده.
واصل معين ما انقطع من حديث قبل ركوب الطائرة قائلاً يا صديقي لا تظن أنني سعيد نفسياً في موقعي في السلطة بل أقول لك بصراحة أنه وبالرغم من وجود كثير من الفاسدين والانتهازيين وغير الوطنيين في مراكز متقدمة في السلطة إلا أنه في المقابل يوجد آخرون ممن أعرفهم غير راضين عما آلت إليه أمور السلطة وحال الشعب ويناضلون من أجل الوطن ومن أجل تغيير وظيفة ودور السلطة، يا صديقي كلنا كفلسطينيين حالنا كحال ركاب هذه الطائرة، فبالرغم من المخاطر التي تهدد حياة الركاب بسبب الظروف الجوية واحتمالات وجود خلل في الطائرة وبالرغم مما بين الركاب من تباين في الجنسيات والأديان إلا أن عليهم التعايش سوياً خلال الرحلة والالتزام بتعاليم الربان وإجراءات السلامة حتى تصل الطائرة إلى بر الأمان، ونحن كفلسطينيين علينا أن نقوم بما هو مطلوب منا ونتعايش سوياً ونثَّبِت وجودنا في أرضنا ونستمر بالحفاظ على هويتنا الوطنية حتى نتمكن من مواجهة المخاطر الخارجية التي تهدد وجودنا جميعا ولا تميز بين يساري ويمني أو بين وطني وإسلامي أو مَن يؤيد السلطة أو يعارضها، وعلينا الاعتراف أن القوى الخارجية إسرائيل وواشنطن والجهات المانحة والدول العربية والإسلامية ذات الأجندة الخاصة بها سيستمر تأثيرها أكبر وأقوى من تأثير القوى والأحزاب الفلسطينية وطنية كانت أو إسلامية ما دمنا في حالة انقسام وتشتت.
قطع طارق استرسال معين بلهجة هادئة هذه المرة وسأله، إن كنا كثوريين وتقدميين ومعارضين لنهج السلطة حالمين ونتقمص زماناً غير زماننا، وإن كنا غير واقعيين وغير عقلانيين فماذا أنجزتم أنتم العقلانيون والواقعيون؟ وإن كنا ... وتوقف أحمد عن الاستطراد عندما طلب الربان من الركاب ربط الأحزمة استعداداً للهبوط ، فاتفقا على لقاء قريب ولو عبر الهاتف لمواصلة الحديث في سياق حوار وليس جدالا ومجادلة عسى ولعل أن نُقرِب من وجهات نظرنا ......
إبراهيم أبراش
جمعة عبد الله: قراءة في رواية (الليل في نعمائه) للاديب زيد الشهيد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: جمعة عبد الله
يضعنا الاديب زيد الشهيد (الروائي والشاعر) أمام نص روائي لم يلتزم بالقواعد الكلاسيكية في الفن الروائي، فهو يحمل اسلوبية متفردة في المتن الروائي وتقنياته المتنوعة. في صياغة اللغة. في خلق الفكرة الروائية، في تجسيد الرؤية الفكرية في المعنى الدال من خلال الحدث الروائي. ففي اللغة ينتهج اسلوبية المزج بين السرد النثري والشعري، يمزجهما ويصبهما في وعاء واحد، ويسكبهما في المنظور الروائي، في غاية الفخامة والتشويق، في ان يمتلك السرد لغة صافية في رشاقتها في الثراء اللغوي، حتى تكون مغناطيس لجذب القارئ بالشد والاهتمام ومتابعة بشغف تبعيات سرديات الاحداث الجارية في النص، هذا يدل على القدرة المتمكنة بعلم اللغة في وتوظيفها في الحبكة الفنية بمهارة، أضافة الى براعته في توظيف تقنيات متعددة قد تكون غير مألوفة، منها مزج الاسترجاع الزمني (فلاش باك) وجعله في زمن واحد. اضافة الى فن الوصف والتصوير في المشهد السردي، والاهم هو خلق حدث داخل حدث في النص الروائي، وبالاحرى حدث يخلق حدثاً آخر من رحمه أو من صلبه، يربطهما في نسق هرموني واحد على عتبات النص، ليضع القارئ في حالة اندهاش ان يقرأ حدثين في حدث واحد. ففي الحدث السردي الاول يتطرق الى مرحلة مختلفة عن مرحلة الحدث الثاني، الفرق الزمني بينهما خمسة عشر عاماً، في الجانب السياسي وهو المحرك الاساسي للحدث السردي، بتناول الفترات السياسية المظلمة التي مرت على تاريخ العراق، قديماً وحديثاً، يجمعهما مشتركات واحدة، لا فرق بين الاثنين، في الظلم والحرمان والحيف، يجمعهما مشتركات واحدة وجوهر واحد، لكن بأساليب مختلفة، ففي زمن الطاغية ينتهج نهج الارهاب المنفلت في البطش والتنكيل، وفي عهد الاحتلال الامريكي وتسليم مقاليد الحكم الى الاحزاب الدينية، تمثلت بالامن المنفلت بالفوضى السلاح المنفلت. حتى في الكثير من الاحيان، يلعلع الرصاص بينهم على حصص المغانم والفرهود والسلطة والنفوذ. هذا التعامل مع الشعب واحد لكليهما، لكنهما يختلفان في القشور فقط، في عهد النظام الدكتاتوري، كانت النساء يتبرجن في الزي والملبس (كان جميع من الفتيات مراهقات يلبسن البنطلونات الجينز والقمصان المشجرة) ص11. وفي عهد حكم الاحزاب الدينية في فرض الحجاب والزي الاسود (توجهت نحو غرفتها، رمت العباءة على السرير الخشبي، وخلعت عن رأسها شالاً لم ترَّ حاجة له بل أجباراً على ارتدائه منذ تولت الاحزاب الدينية مقاليد تسيير البلد) ص20. نجد بين الحدثين، أن الليل هو الفاعل في بث لواعج القهر والحزن ومواساة الجراح الداخلية باللوعة في نارها المشتعلة في الصدور، بأن الليل خير مواسي للاحزان. وهذه الرواية هي الجزء الاول من رباعيات الليل (الليل في نعمائه. الليل في عليائه. الليل في بهائه. الليل في نقائه) حكايات الحزن العراق بالوجع والالم الجاثم بثقله على صدور العراقيين في اشجانه المستعرة بالنار الملتهبة، أو ان الرباعيات تمثل تراجيدية الحزن العراقي، قديماً وحديثاً. كما نجد ايضاً في الحدث السردي مشتركات بين ابطال الرواية أو الشخوص المحورية، ففي الحدث الاول يجمع بين (مريم) والشاعر (وليد) حب الادب والشعر والتشوق الطاغي اليه، كما ايضاً نفس المشترك بين (حمامة) والشاعر (حزين) في التشوق الى الادب والشعر. وياخذنا المتن الروائي (الليل في نعمائه) بكل شغف الى حكاية (حمامة) الفتاة الجميلة والشاعر (حزين) في مجيئها من مدينة البصرة الى مدينة (السماوة) لتنزل في نفس الزقاق ونفس البيت الذي سكنته (مريم) قبل خمسة عشر عاماً، واطلق أسم الزقاق بأسمها زقاق العمة، ولا أحد اعترض على التسمية (الزقاق الذي اطلقوا عليه قبل خمسة عشر عاماً (زقاق بيت العمة) وظل مقروناً بالاسم، لا أحد من المدينة تنكر له في أستبداله) ص9. لفت نظره الشاعر (حزين) لفتاة رشيقة القوام والجمال (حمامة) تتجه بخطواتها المتعثرة في مشيتها صوب البيت،كأن اصابتها وعكة صحية مفاجئة، تطلع الى جمالها وخفق قلبه بخفقات الشوق متصاعدة في اللهفة لهذا الوجه الفاتن، وقال وهو يدردم مع نفسه (أنها فتاة مموهة بالوان الطيف، فهي الالق وقال هي غيمة بيضاء تعوم في بهاء شذري ناصع، فهي بسمة من بسمات الله في لحظة رضائه) ص9. لكنه استغرب في اندهاش وحيرة، لماذا هي وحدها تركت مدينتها مدينة البصرة، وجاءت هنا الى مدينة (السماوة) وتسكن هذا الزقاق وفي البيت المنزوي القديم. وراح يتسأل بلهفة وهو في حالة بعثرة حواسه بالاضطراب لهذا الجسم الرشيق (حمامة)، ولكنه يعود ويقرض نفسه بالحزن بأن الشعراء يملكون قلوب حزينة وهذا دأبهم في ذلك (هكذا هم الشعراء، ألم في ألم، وجزع يليه جزع، وليست للسعادة رقعة في خارطة حياتهم) ص15،، وراح يلاحقها من بعيد وقريب يطلب العلاقة والتواصل معها، وعرف انها تهوى الشعر وتحضر ندواته الشعرية وتقرأ قصائده وتشتري دواوينه الشعرية من المكتبات، فتعلق بها اكثر. في معرفة سر قدومها، وسكنها وحدها في وحشة الليل، وفي بيت العمة (مريم) هذا البيت المنزوي في الزقاق، لابد وان هناك سبب وجيه للمجيء هنا ؟. ويعود الحدث السردي (فلاش باك) الى خمسة عشر عاماً الى الوراء، عندما جاءت (مريم) أمرأة ذات ثلاثين عاماً جاءت من البصرة الى هنا لتسكن هذا البيت المنزوي بصحبة مختار المحلة وهو يسلمها مفاتيح الدار ويطمئن هواجسها. بأن الناس في المحلة والزقاق يملكون الطيبة والتواضع والمحبة والشرف والشهامة والنخوة والتآلف الاجتماعي. ووجدت (مريم) عمل في معمل الخياطة النسوية، وحين تعود من عملها تكون محملة بالحلوى وتوزعها على أطفال الزقاق في فرح وابتهاج، حتى نالت احترام الناس ومحبتهم، واصبحت واحدة منهم. لذلك لم يتجرأ أحداً لمعرفة سبب مجيئها الى هنا، أو ما تحمل من مأساة في داخلها، وكذلك في رفضها الزواج من الذين تكاثروا في الرغبة بطلب يدها، لكن الحزن واللوعة لم تفارقها في شدها الى الماضي والى مدينتها. فكانت تحمل قصة حب وعشق مأساوية غارقة بالحزن والمعاناة، فقد أحبت الشاعر (وليد) هامت به بالعشقً والهيام، وهو بادلها نفس الشعور بالهوى والهيام حتى تكلل الحب بالزواج، ورأت السماء تفتح اسايرها لهذا العشق النقي والصافي، ولكن لم يمضِ على زواجهما شهرين فقط حتى اغتال النظام زوجها الشاعر (وليد) لانه كان مناوئ للنظام ورفضه الشديد لاشعال الحرب ضد ايران واستهجان ممارساته الارهابية ضد الناس، فكان عقابه بالاغتيال الوحشي والبشع (كان وليد مهشم الرأس، مقطوع الانفاس،جيء به متقطع الاوصال، متهتك الاعضاء..... وسيارته محطمة بشكل كلي و كأنها رميت من قمة جبل الى وادٍ سحيق) ص111. وبعدها شن النظام حملة اعتقالات ضد اصدقاء وليد واقاربه، وحتى شقيقه هرب من الاعتقال، وزوجته (مريم) هربت من بطش النظام خوفاً من سجنها وقتلها، لذلك جاءت الى السماوة هاربة من رعب وبطش النظام، وسكنت في هذا الزقاق الذي اطلق عليه اسمها، وفي هذا البيت المنزوي تداوي جراحها الحزينة في عتمة الليل. وحين اشتد عليها المرض وانهكها تماماً، حتى اصبح ليس في مقدورها ان تطعم نفسها، فتطوع الجيران في عنايتها واطعامها والرعاية بها، لكنها شعرت بأن أن اجلها المحتوم اقتربت ساعته، فصرحت للجيران برغبتها، بأنها تريد ان تموت في مدينتها وقرب قبر (وليد) وسكان المحلة لا يعرفون من هذا (وليد) الذي تعلقت به اشتياقاً وتردد اسمه على الدوام في غيبوبتها، ولم يسألها أحداً بما تحمل من قصة حزينة ومأساوية، فكانت تردد (أريد العودة الى وليد. وليد من يشفيني، ولم نكن نعرف من هو وليد، ولا هي افشت بسرها) ص92 و فحملوها الى كراج السيارات وهناك انطلقت بها السيارة الى البصرة. هذه التراجيدية المأساوية سببها النظام الطاغي بالبطش والارهاب. ومجيء (حمامة) الى هذا الزقاق والبيت، من اجل استخراج السر الدفين في احدى جدران البيت،وهو مذكراتها اليومية عن حبها المفجوع، سجلته على الاوراق واشرطة الكاسيت. وحين وجدت (حمامة) بأن الشاعر (حزين) لايكف عن ملاحقتها بالسؤال، وبما أنه يملك نوايا صادقة، وكان في كل مرة يردد بإصرار حين يراها (ردي حمامة..... ارجوكِ) ص60. فوقفت أمامه وقد رضخت له فقالت (أحقاً تريد الجواب.. يا حزين ؟ أمستعد لما ستكتشف؟
فقال لها (نعم.. بكل جوارحي
- بكل جوارحك ؟ أهذا عهد لا تراجع عنه ؟
- نعم : قالها باصرار)ص61.
عندها سمحت له بالدخول الى البيت والى غرفتها وطلبت منه الاطلاع على الاوراق وشريط المسجل، وذهبت هي تعد له القهوة. وانخرط في قرائتها والاطلاع عليها. واصابه الحزن والالم وهو يطلع على السر الدفين، بقصة حب حزينة جداً التي انتهت الى مأساة، قصة حب (مريم) واغتيال زوجها (وليد)، وخرج من بيت (حمامة) في حالة الذهول والحيرة والحزن (خرج حزين تاركاً بيت حمامة كالمسحور ذاهلاً، ومتذبدباً، ومشوشاً، خرج والصورة التي ألتقطتها عينه، قبل خروجه تستقر على المسجل والاوراق والمنضدة واكواب القهوة وحزن حمامة) ص92. واتفق مع (حمامة) بعد ذلك على طبع ونشر قصة الحب الحزينة ليطلع الناس عليها، وعلى بطش النظام الساقط بأن (وليد لم يمت. بل لن يموت. وليد يعيش في ذاكرة الاجيال. يعود الى جيل جديد يتخذ من كلماته هداية ليومهم ومسيرتهم، يرون فيه الرجل الذي لم يهادن على المبادئ، ولم يتخلَّ يوماً عن البصرة والعراق..... يستذكرون قوله : الاقدام صفة من صفات الشجعان، شرط أن يتحلوا برجاحة العقل، وإلا كانوا حمقى. كان وليد راجح العقل قوي الشكيمة) ص119. لهؤلاء الشجعان هم شهداء العراق ونجومه المضيئة، هم نوارس الحرية في ساحة التحرير. والحياة تؤكد بديهية ناصعة البياض وبيقين الحقيقة، أن البطش لن يدوم، والطغاة مصيرهم مزبلة التاريخ.
جمعة عبدالله
عبد الحسين الطائي: "الخاتون" أسهمت بتأسيس الدولة العراقية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الحسين الطائي
قرن على تأسيس الدولة العراقية (6)
أطلق العراقيون على المستشارة البريطانية في الإدارة المدنية وعالمة الآثار "غيرترود بيل" (Gertrude Bell)، لقب "الخاتون"، بمعنى السيدة عالية المقام. تخرجت من اوكسفورد، كانت معربة اللسان، لها معرفة وإطلاع بالواقع العراقي. عملت مع المندوب السامي البريطاني "بيرسي كوكس" في عشرينيات القرن الماضي. امرأة استثنائية بنفوذها وتأثيرها وبما تميزت به من عقلية متفتحة مقرونة بمواهب ومهارات متعددة. يكمن سر نجاحها في قدرتها على تحمل المشاق ومواجهة الصعاب وتفهمها لظروف الناس.
تجلى نشاطها في العراق منذُ 1909، حينما باشرت بعملية مسح وتنقيب للآثار في مناطق العراق الشمالية والجنوبية. اطلعت على الأماكن الأثرية في كل المناطق التي جالت بها. جالست الأهالي ودونت المعلومات. تجولت ببعض دول الشرق الأوسط، وعادت إلى العراق في 1914. عُينت في إدارة المخابرات السرية في القاهرة خريف 1915، بصفة مترجمة وخبيرة. أرسلها المكتب العربي في القاهرة إلى العراق في سنة 1916. بعد إحتلال بغداد عام 1917، اشتهرت بلقب الخاتون.
عندما قررت بريطانيا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تغيير سياستها في العراق، وتأسيس حكومة ذات واجهة عربية، تدار حسب قول المس بيل، بأيادي عراقية وأدمغة بريطانية. إعتمدت عليها المخابرات البريطانية، فأجادت مهمتها السياسية بإمتياز في هندسة خارطة العراق الحديث الذي تأسس من "ثلاث ولايات بغداد البصرة الموصل". صاغت مستقبله السياسي في إطار الخارطة الكبرى للشرق الأوسط. رسمت خريطته على الورق في ربيع 1918، لكنها لم تستقر في الواقع إلا عقب نجاحها في تنصيب فيصل ملكاً على العراق عام 1921، حسب ما جاء في مذكراتها بتاريخ 4/12/1921.
لجأ البريطانيون إلى سياسة إرضاء الثوار من خلال التشاور معهم وتنفيذ بعض مطاليبهم بعد أحداث ثورة العشرين، منها إلغاء الإدارة المدنية وإنشاء وزارة مؤقتة تشرف على إنشاء مجلس تاسيسي مهمته انتخاب ملك للعراق وصياغة الدستور والشروع بإنشاء بعض المؤسسات الهامة. أعدت الخاتون تقريرها "استعراض الإدارة الملكية في ما بين النهرين"، الذي اقرته الإدارة البريطانية وطبعته في كانون الاول 1920، عُرف حسب مذكراتها، بـالكتاب الأبيض.
الخاتون من الشخصيات المهمة التي حضرت مؤتمر القاهرة عام 1921، بحضور وزير المستعمرات البريطاني "وينستون تشرتشل" للتشاور حول مخطط تقسيم الشرق الأوسط ورسم حدود الدول القومية في المنطقة بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية. كانت الخاتون من المندفعين بقوة بتأييد فكرة إعطاء الاستقلال للعراق، بعدما تداولت مع زميلها "لورنس العرب"، وتوصلت إلى قناعة بضرورة قيام مجلس تأسيسي للدولة العراقية، بعدما كانت تؤيد الإنتداب البريطاني، ولا تقيم أي حساب لأي كيان وطني يصبوا إليه العراق.
مارست نفوذاً واسعاً في تأسيس الإدارة الجديدة، شاركت في نشاطات الحياة السياسية، دخلت رحاب المجتمع الرجالي وخالطت الشخصيات السياسية البارزة من العراقيين والبريطانيين. إهتمت بسلالات القبائل وزعاماتها، زارت بعض شيوخ العشائر من العرب والأكراد، وتعرفت على رجال الدين السنة والشيعة، والوجوه البارزة في المجتمع من الموالين والمعارضين لسلطة الإحتلال. فتمكنت من تجاوز الكثير من التحديات التي وقفت بالضد من تنصيب الملك فيصل ملكاً على عرش العراق.
ظهرت قوتها وبرزت شخصيتها وتمكنت من إسقاط المرشحين المنافسين للملك فيصل. لجأت إلى شيوخ العشائر، ورجال الدين، واستعانت بزعماء المدن والأحياء من أجل توسيع حملتها الداعية لتنصيب فيصل ملكاً. لجأت إلى أساليب متعددة في إقناع الخصوم بالإنسحاب، أمثال: عبد الرحمن النقيب نقيب أشراف بغداد الذي كان له نصيباً وافراً لإعتلاء العرش. ولجأت إلى اسلوب القوة والمراوغة في إبعاد طالب النقيب، أبرز زعماء البصرة، لأنه شكل خطورة كبيرة على ترشيح فيصل. وبعد تجاوزها للإشكاليات المتعلقة بعدم إمتلاك فيصل الأول جذور قبلية تعطيه بعضاً من الشرعية، قالت كلمتها: "لقد قمنا بتنصيب ملكنا". ورتبت إجراءات حفل التتويج في 23/08/1921.
درست الواقع الإجتماعي وتعرفت على طباع الناس، تجولت في أسواق بغداد وشوارعها وأزقتها، فحظيت باهتمامهم وإعجابهم. كان لها حضوراً متميزاً بمناسبات الأفراح والأحزان. أقامت الولائم وحفلات الشاي، فتعرفت على الكثير من الشخصيات العراقية، تبادلت معهم الزيارات. كانت تتباهى بعلاقاتها الإجتماعية مع أفراد العشائر والبيوتات البغدادية، وتعتبر تلك العلاقات دليلاً على حصولها لقب "خاتون".
اعتقدت بأنها على صواب فيما تكتب وترسم وتخطط، وهي في ذروة تألقها السياسي، مارست عملها المهني الأكاديمي الآثاري وأبدعت فيه. تتوج عملها بإنشاء نواة لمتحف عراقي ظل حافظاً لأهم الآثار التي وجدتها والآثار العراقية البابلية القديمة والمخطوطات والتحف التي حفظت الذاكرة العراقية المتخمة برموز الحضارات القديمة. سمي المتحف لاحقاً بالمتحف الوطني العراقي بعدما كان يعرف بــمتحف بغداد للآثار، تولت الرئاسة الفخرية لدائرة الآثار. وكانت على رأس لجنة مكتبة السلام التي تحولت فيما بعد إلى المكتبة الوطنية.
حياتها مليئة بالأحداث المثيرة على الصعيدين السياسي والإجتماعي، شاءت أن تسجلها على شكل مذكرات للفترة 1917-1926، إلى أبيها السير "هيو بيل"، وزوجة أبيها "فلونس". ورغم إحتواء بعض رسائلها على آراء ونظرات غير سديدة، إلا أن الدكتورعلى الوردي اعتمدها وفضلها على الوثائق البريطانية، لأنها نادرة ومليئة بالحيوية عكست الصورة النفسية والإجتماعية بمصداقية عالية. تعتبر في مضامينها أحد المصادر الأساسية لتاريخ العراق السياسي الحديث، لتفردها بتسجيل ما لم يسجله مصدر آخر، كانت شاهد عيان في مواجهة الواقع السياسي الذي ساد العراق قبل ثورة العشرين وخلالها وبعدها.
الملاحظ في رسائلها إنها لم تستقر على رأي، فهي تمدح في وقت معين، وتشتم في وقت آخر. لم يسلم من شتمها الكثير من السياسين وشيوخ العشائر الموالين وغير الموالين لسلطة الإحتلال، ورؤساء تحرير الصحف الوطنية. فمن المثالب الواضحة في رسائلها التشكيك بقدرة العراقيين على حكم أنفسهم تبريراً للوجود البريطاني. أكدت في موضع آخر بانه "لابد من اسكات القوى الوطنية من قوى سياسية وعسكرية وعشائرية التي تقود الرأي العام العراقي التواق للتحرر والمناهض للهيمنة البريطانية". اتبعت أساليب عديدة في زرع الخلافات الطائفية بين السنة والشيعة ضماناً للمصالح البريطانية. ولكنها في 1920، نقضت رأيها بالقول: ليست لنا مصلحة في أن نحول دون رغبة العراقيين في إختيار أميرهم.
مجمل ما كتبته "الخاتون" عن العراق، يُعد من المرتكزات الأساسية للسياسة البريطانية، فهي كانت تشير في جميع ممارساتها ووثائقها على وجود إختلاف بارز بين السنة والشيعة في العراق. وظل هذا الخطاب قيد الاهتمام لدى السلطات البريطانية حتى بعد إحتلال العراق 2003.
المهتمون بشأنها قسموا مراحل حياتها في العراق إلى ثلاث مراحل، الأولى 1917-1918، مرحلة جمع المعلومات التي اعتمدت عليها سلطة الإحتلال. والفترة الثانية 1918-1923، إمتازت بفعالياتها السياسية وتأسيس الحكم الوطني. والفترة الثالثة 1924-1926، حالة التدهور الصحي وإنعزالها عن الناس.
شخصية الخاتون ومآثرها الكثيرة، مثيرة للجدل، أثارت الروائي عبد الرحمن منيف، فاستلهمها في صورة بطلة من أبطال ثلاثيته "أرض السواد".
أحبت "الخاتون" بغداد وأهلها وأعلنت في مذكراتها بأن جذورها تأصلت في بغداد وأصبح العراق موطنها الثاني. امتدت حياتها في العراق حتى يوم وفاتها بتاريخ 12/7/1926، في بيتها البغدادي عن (58) سنة، ودفنت في المقبرة القريبة من ساحة الطيران ببغداد بناء على وصيتها.
د. عبدالحسين الطائي
أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا
..................
المراجع:
- العراق في رسائل المس بيل 1917-1926، ترجمة جعفر الخياط، تقديم المؤرخ عبدالحميد العلوجي، الدار العربية للموسوعات، ط1، بيروت 2003.
- د. علي الوردي: لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج5، دار كوفان للنشر، لندن 1992.
- سيف صلاح الهيتي، مس بيل صانعة الملوك ومهندسة خارطة العراق الحديث، موقع الجزيرة.
- صحيفة القدس العربي، الخاتون: مس بيل في العراق، بتاريخ 19/01/2006.
- د. نعيم جاسم محمد: الاحتلال البريطاني للعراق وطبيعة الادارة البريطانية 1914-1920.
رابط المقالة الأولى:
- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953410
رابط المقالة الثانية:
- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953571
رابط المقالة الثالثة:
- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953761
- رابط المقالة الرابعة:
https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953922
- المقالة الخامسة:
- https://www.almothaqaf.com/a/opinions/954251
عمرالصالح يحاور: القاصّة والروائية علياء عبدالباري: التنوير بالثقافة جاء بعد سنوات الظلام
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عمر الصالح
اتساع المشهد الثقافي الموصلي بعد التحرير...
يولد الإبداع من أنين المعاناة ولعنات الحروب، ولايقتصر على فئة أو أخرى، من حقبة الظلام وركام المنازل المدمرة والتشريد، استطاعت الكاتبة والروائية الموصلية علياء عبد الباري الحاصلة على شهادة البكالوريوس من كلية الهندسة جامعة الموصل، من اصدار مجموعة قصصية بعنوان (العلياء) عام 2018 وتلتها رواية بعنوان (لعنة اسراء) عام 2021.
* البدايات دائماً تبهر الكل سواء كتّاب او أناس عاديون. حديثنا عن بداياتكِ؟
** بداياتي كانت منذ الطفولة حيث اني اتمتع بخيال صاخب والقابلية على تأليف السيناريوهات، فقد تكون مجرد جملة قالتها معلمتي او مجرد رسمه صغيرة على حائط احدي البيانات تثير مشاعري وتلهب حواسي وتحفزني للكتابة.
كنت حريصة على أن يكون لي دفتر مذكرات وأكتب فيه مختلف المواقف والمشاهد الحقيقية التي حصلت لي او لغيري حتى تطور الأمر في أن أمزج ما بين الواقع والخيال والقدرة على السرد في صفحات متعاقبة حتى صقلت موهبتي بالقراءة في مختلف العلوم حتى تكون لكتاباتي رسالة عميقة مفيدة للقارئ، الى ان وصلت مرحلة التأليف والنشر.
* بمن تأثرتِ من الأدباء في بداياتكِ؟
** تأثرت بالمفكر والأديب اللبناني "ميخائيل نعيمة" والكاتبة السورية غادة السمان اضافة الي الدكتور مصطفى محمود والدكتور علي الوردي والكاتب البرازيلي باولو كايلو .
* لكل كاتب قضية يحاول الوصول اليها من خلال نتاجاته؟ فما هي قضيتك ِالأولى؟
** تبنيت في كتاباتي مختلف القضايا، فمجموعتي القصصية (العلياء) تحتوي على ثمان قصص لكل قصة تتبنى قضايا منها قضية عمالة الاطفال في قصة "النجم الثاقب" وضحايا الحرب في قصة "الخوف من المطر" وقيمة الثقة بالنفس وتقبل الذات في قصة "البنت المتذمرة والبالونات" وقصة "اليرقة الخضراء " و"ملكة جمال" وقضية مساعدة الفقراء والمحتاجين في قصة "ندى والفئران" وقيم اخرى كالصبر والاجتهاد في قصتي "بائع المصابيح" و"الباب السحري".
أما في رواية لعنة اسراء فالأمر مختلف فكانت تجسيداً لقضايا الوطن وركزت على الوحدة والترابط بين أبناء الشعب وقضايا الخير والشر والحب اضافة كنت فيها كالمؤرخة الحقبة الزمنية ما بين 2003 الى 2017 بعد التحرير من تنظيم داعش فالبعض عندما سيقرأها خصوصاً القارئ العراقي سيتذكر معي مراحل وأمور كثيرة مماثلة حصلت في حياته وسيشعر بشخصيات الرواية!.
* الكتابة عالم فيه من التشويق والآثار والمتعة، كيف يمكن للكاتب ان يجعل القارئ يبحر في هذا العالم؟
** أعتقد أن هذا يعتمد على أسلوب الكاتب في الكتابة وكيف يمكن أن يوصل أفكاره للقارئ، وكلما كان أسلوب الكاتب حقيقي غير متصنع وغير مقلد لغيره من الكتاب ممكن أن يجعل القارئ يشعر بالتشويق وسيتأثر بكتاباته، اضافة الى الثقة بالنفس والقدرة على اتقان المحاورة والمناورة بين شخصيات الرواية بمهارة وفن والتحدي والاستمرار، عن نفسي عندما أكتب أكتب من كل قلبي حيث أستطيع أن انقل المشاعر الإنسانية المختلفة للقارئ ففي نفس الرواية سيشعر بالحب والكراهية واليأس والأمل وغيرها من المشاعر.
أغلب القراء أخبروني أن مجموعتي القصصية (العلياء) ورواية (لعنة إسراء) تحمل افكار جديدة لم يسبق لهم أن وجودها في أي عمل ادبي أخر.
* في عام 2018 صدرت مجموعتك القصصية الأولى (العلياء)، ماذا أرادت ان تقول علياء عبد الباري عبر مجموعتها؟
** مجموعتي القصصية كانت تجربتي الاولى في عالم النشر، تحتوي المجموعة ثمان قصص كل قصة تقول رسالة مختلفة ففي قصة "بائع المصابيح "نجدها تحث الشباب على الابداع والصبر من أجل التميز في اعمالهم، اما في قصة "اليرقة الخضراء "و"البنت المتذمرة والبالونات" و"ملكة جمال "توضح اهمية الجمال الداخلي والثقة بالنفس بأسلوب خيالي ابداعي، اما قصة "الباب السحري "فهي قصة نابعه من الخيال تجعل القارئ يسافر عبر سطورها الى عالم ثان واحداث شيقة، اما قصة "النجم الثاقب "و"الخوف من المطر" ففيها رسالة أمل للأطفال الذين فقدوا احباءهم واجبرتهم الحروب والارهاب على ترك الدراسة وشردوا ودمرت مدنهم، أما قصة "ندى والفئران "فهي قصة طريفة وخيالية توضح وراء كل شيء يحصل رسائل ربانية خفيه.
* أيهما الأقرب إليكِ القصة ام الرواية ولماذا؟
** القصة القصيرة، لأننا في عصر السرعة وعالمنا يركض مسرعاً في اتجاهات مختلفة، وهناك أسرار كثيرة في هذا العالم والاحداث المتسارعة فيه فمن الرائع تجسيد كل حدث بقصة قصيرة مع رسائل جوهرية.
* ترفض الكاتبة المصرية إيمان البكري فكرة أن الكتابة كانت ذكورية في الأساس، برأيك ما الذي اضافته المرأة الكاتبة للمجتمع في كتاباتها؟
** أعتقد أن المرأة والرجل وتران لسمفونية واحده وكلاهما يكملان الاخر في عالم الكتابة والثقافة، المرأة الكاتبة ممكن تضيف للمجتمع الجمال والحب والرحمة والصبر عندما تتحدث عن قضايا الوطن والمجتمع والوجود.
* (لعنة اسراء) الرواية التي صدرت في عام 2021، إلى أين تأخذنا هذه الرواية، وهل هي وليدت الحروب والدمار؟
** فكرة رواية (لعنة إسراء) كيف ممكن ان يتحول الظلم الذي يتعرض له الانسان الى لعنة تلاحق الظالمين وفيها خيال خصب قد يأخذكم الى الميتافيزيقية والواقعية، كانت أوراقها بمثابة مساحة لسرد الذكريات والصدمات لشخصيات مختلفة حتى نظمت في فصول ابتدأت بالبصرة وصولاً الى نينوى ومن تاريخ 2003 م الى 2017 م سيعيش معها القارئ الموت والقتل والتعذيب والحب والفرح والأمل والعدالة والظلم.
* ماذا عن الموصل ومشهدها الثقافي بعد تحريرها؟ وهل اتساع المشهد الثقافي المرأة الموصلية واتاح وسائل الدعم والمشاركة؟.
** الموصل تشهد تطور ثقافي متجدد وواسع بعد التحرير، حيث كثرت منتديات القراءة واقبال الناس لاقتناء الكتب والكتابة، فبعد سنوات ظلام جاء التنوير بالثقافة.
سأتحدث لك عن اتساع المشهد الثقافي للمرأة العراقية بصورة عامة، هناك العديد من الاقلام الشابة العراقية التي تنتج اعمال ادبية رائعة سواء تتعلق بالشعر والخواطر او فن القصة القصيرة والرواية التي اقف احياناً عندها مذهولة من روعة سردها وابجديتها المنتظمة.
* الكاتب او الشاعر مترجم الكلمات، ماذا تترجم علياء عبد الباري هذه الكلمات (الايام، الام، الموصل، ألم، الفراق، الكتابة)
الايام : هي مساحتنا لعيش ادوارنا المختلفة في هذهِ الحياة.
الام: هي مصدر طاقتي الايجابية ومعلمتي الاولى لكيف اعيش بسلام بهذا العالم المعقد!
الموصل: سأكون صريحة معك بالرغم من اني ولدت في البصرة وزرت وعشت في مدن مختلفة حتى استقريت بالموصل. الراحة التي اشعر بها عند دخولي لحدود مدينة الموصل لا يمكن وصفها اعتقد السبب ان للموصل سحراً واسراراً تجعلها مختلفة وغير قابلة للترجمة!.
ألم: هو ذلك الصوت الذي يجعلني أستيقظ من عالم الوهم لأكون أكثر قوة!
الفراق: كابوس واسوء ما يمكن ان يوجهنا بهذه الحياة !
الكتابة: وسيلة للوصول الى حالة النقاء والسلام الداخلي وترجمة افكاري ونقلها للعالم.
حاورها: عمرالصالح
عدنان أبوزيد: جيل شبابي جديد يتحدى النظام الأبوي السياسي والاجتماعي ولا يعترف به
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان ابو زيد
أصبح من الضروري، الاشتغال على البحث الأكاديمي المتعلّق بحركات الاحتجاج في العراق، وفهم بواعث اندلاعها، ونكوصها، واحتمالات اشتعال جذوتها من جديد، أو ربما تكتسب اشكالا أخرى جديدة في المستقبل او تؤول الى تظاهرات نمطية كتلك التي تحدث في دول العالم المختلفة، وفيما اذا هي ثورة اجتماعية أم حركة سياسية.
تخمّن تحليلات بان الانسجام الاحتجاجي الذي ظهر في ساحات التظاهر وانسحب على الشارع، سوف لن يتطور الى حراك قابل للحياة، لأسباب تتعلق بطبيعة النظام الاجتماعي والسياسي في العراق، وهو ما حدث في النهاية، اذ تلاشى الزخم مقارنة بالعام 2019، وربما يتبعثر بشكل نهائي.
لكن من نتائج الحراك الاحتجاجي، رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات العامة، انه رسم خارطة جديدة لديناميكيات العلاقات لنظام أقل سلطوية، منفتح على المعارضة، ويمكنه استيعاب الصوت الآخر، بعدما أدرك الجميع ان الصِدام لن يثمر عن مفاعيل، وان الجزافية والعفوية والعواطف الثورية الانقلابية التي تتبنى الأنماط الطوباوية للتغيير، سوف تقود الى الهاوية، مثلما حصل في بعض دول الربيع العربي بسبب تعقيدات الصراع الداخلي والخارجي على ارض العراق.
ومثلما تعاني القوى السياسية التقليدية المؤسِّسة للنظام في العراق من الانقسام، فان الاحتجاجات العراقية منشطرة على نفسها، وتتحكّم فيها تيارات واتجاهات متضادة، وقد أدى ذلك الى عدم الاستطاعة على توضيح مراماتها.
لكن الذي يُحسب لها انها اجتازت الكثير من ثوابت المجتمع التقليدي، وأثمرت عن رسم شخصية شبابية تسعى الى إدارة الصراع مع النظام السياسي، مستندة الى قيم انفتاح سياسي وثقافي لا يعترف بالنظام الأبوي السياسي والاجتماعي.
جرّت بعض جيوب الاحتجاج العراقي نفسها الى فخ العنف السياسي، بقوالبه النمطية الدموية، فيما رُصِدت مبررات لذلك تحت ذريعة معاقبة النظام السياسي على الفشل في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، او تحت ذريعة انّ لا حلّ سوى البطش المسلح، لكن ذلك لم يتجاوز حدود حرق وتخريب ممتلكات عامة ومقرات حزبية وحكومية، لكن وبعد اشهر من مخاض التجربة، يلمس المراقب ان الاختيار العقلاني هو الذي فرض نفسه في النهاية.
وفي حين لا يمكن فصل ما حدث في العراق عمّا حدث من انتفاضات مماثلة بدأت في تونس في ديسمبر 2010
والتظاهرات في مصر التي تناهت الى نظام عسكري، والحراك الاحتجاجي في اليمن وليبيا الذي حوّل البلدان الى دول فاشلة وساحة حروب إقليمية، والمعارضات في سوريا التي أقحمت البلاد في حرب مروعة، فان الحالة العراقية تبدو أقل ضررا على النظام السياسي والدولة بشكل عام، وهو امر يدفع الى التأسيس لحوار ايجابي.
يبقى تحدي اشتعال فتيل الاحتجاجات مستمرا، مهما كان الحكم على الحركات الشعبية بانها ناجحة او فاشلة، لان هذه الآلية لا تفيد في فهم جدليات الصراع المستمرة، وليكن المطلوب اليوم هو التركيز على الحوار، و "الانفتاح"، ودمقرطة الحياة السياسية، واستيعاب الجميع تحت مظلة نظام ديمقراطي حقيقي، يستطيع كبح جماح الفساد، ولا يتكأ على حالات الإخفاق في الحقب السابقة، لان هناك نجاحات، يمكن البناء عليها وتطويرها.
عدنان أبوزيد
حسن الياسري: القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون (2)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. حسن الياسري
كنَّا قد عرضنا في الجزء الأول من هذا القسم الحجَّة الأولى التي يستند إليها الفريق القائل بعدم جواز دخول فقهاء القانون وخبراء الفقه الاسلامي في المحكمة الاتحادية العليا، وهي قولهم إنَّ الدستور أطلق اسم (المحكمة) عليها. وفي معرض الرد على هذه الحجَّة قلنا إنها لا أساس لها من الدستور والقانون .وقد عرضنا الردَّ الأول ومفاده إنَّ للدستور الحاكمية، وهو الذي يُحدِّد المصطلح وأبعاده. وسنكملُ في هذا الجزء عرض الدليلين الثاني والثالث .
ثانياً: الدليل الثاني:
الحقُّ إنَّ إطلاق اسم (المحكمة) على هذه الهيئة لا يتعارض مع خصوصية تأليفها من الناحية الدستورية ؛ ذلك أنَّ الغاية من الإطلاق، بحسب الفقه الدستوري، أنها تمارس وظيفةً قضائيةً بالمحصِّلة ؛ لأنَّ لها الولاية العامة من جهةٍ، ولأنَّ قراراتها تحوز قوة الشيء المقضي فيه وتكون حجةً على الكافة من جهةٍ أخرى.
ولذلك تُطلق الدساتير الدولية اسم (المحكمة) على هذه الهيئة، وتصفها بالـ (الهيئة القضائية المستقلة) رغم أنها قد لا تضمُّ قاضياً واحداً في تجارب دستوريةٍ مرموقةٍ. بل إنَّ الدساتير، بحسب التجربة الدولية، تُطلق على أعضاء المحكمة الدستورية كافةً صفة (القاضي) رغم أنَّ أغلبيتهم ليسوا من القضاة، كما سيتبيَّن ذلك كله عند الحديث لاحقاً في القسم الرابع عن التجارب الدولية في إنشاء المحاكم الدستورية.
وأكثر من ذلك إنَّ تجربة المجلس الدستوري، وهو مجلسٌ تكون المسحة السياسية فيه أكثر بروزاً، هي أيضاً تُطلق اسم (المحكمة) أو (الهيئة القضائية) على عمل المجلس. ويكاد الفقه الدستوري في فرنسا وفي لبنان يُجمع على أنَّ المجلس الدستوري يمارس "وظيفةً قضائيةً".
فلا إشكال لديهم في ممارسة الوظيفة أوالعمل القضائي ـ من الناحية الدستورية ـ من أعضاءٍ ليسوا قضاةً ؛ ولذا سنجد أنَّ المحاكم الدستورية الدولية تُطلق على أعضاء المحكمة صفة (القاضي) حتى وإنْ كان أغلب أعضائها من غير القضاة ؛ لأنَّ المحكمة ذات طبيعةٍ دستوريةٍ خاصةٍ تمارس القضاء الدستوري، وليست محكمةً عاديةً تابعةً للقضاء العادي تمارس القضاء العادي، والفرق بين الاثنين واضحٌ لدى المتخصِّصين.وسنفصِّلُ القول في ذلك في الجزء الثالث من هذا القسم عند الحديث عن الفرق بين القضاء الدستوري والقضاء العادي .
ثالثاً: الدليل الثالث:
كما أنَّ الدستور لا يمانع من ممارسة الوظيفة أو العمل القضائي من أعضاء ليسوا بقضاةٍ، بل ويُطلق عليهم (قضاة) وعلى الهيئة (محكمة)، فكذا القانون لا يمانع من إطلاق اسم (المحكمة) على الهيئة، وممارسة الوظيفة القضائية من أعضاءٍ ليسوا قضاةً.
وفي الحقيقة ينتابني العجب من استغراقنا في سرد هذه الأمور التي ينبغي أن تكون بديهيةً لمن يملك أدنى مستوىً قانوني. وعموماً سأذكر لمحةً موجزةً عن بعض المحاكم التي تنعقد بحضور الأعضاء من غير القضاة ويمارسون الوظيفة القضائية رغم أنهم ليسوا بقضاةٍ، وهي: المحكمة الادارية العليا ومحكمة القضاء الاداري ومحكمة قضاء الموظفين ومحكمة الكمارك والهيئة التمييزية للكمارك ومحكمة الأحداث ومحكمة الاحداث المركزية والمحكمة الإدارية المختصة بالعقود الحكومية.
وسنتناول تأليف هذه المحاكم تباعاً إن شاء الله:
1- المحكمة الادارية العليا ومحكمة القضاء الاداري ومحكمة قضاء الموظفين:
إنَّ كلَّ هذه الهيئات يُطلق عليها اسم (المحكمة) مع أنها لا قاضي واحداً فيها، وإنَّ جلَّ مَن فيها هم من أساتذة الجامعة القانونيِّين أو بعض الموظفين القانونيِّين. فإطلاق اسم (المحكمة) وعلى العمل (الوظيفة القضائية) هو بحسب طبيعة العمل ؛ إذ إنها تُصدر قراراتٍ على وفق القانون كما يصدرها القضاء، وتقبل الطعن، ومن ثم تحوز حجيَّة الشيء المقضي فيه.
2 ـ محكمة الكمارك:
وتتألف من قاضيين وموظف من الكمارك حائز الشهادة الجامعية الأولية في القانون لا تقل درجته عن الثالثة يسميه وزير المالية (المادة 245 من قانون الكمارك لعام 1984 النافذ). وبحسب النص الأصلي قبل التعديل كانت المحكمة تتألف من قاضٍ واحدٍ وموظفين قانونيين اثنين من الكمارك.
فهي محكمةٌ رغم أنَّ أحد أعضائها الثلاثة موظفٌ من الكمارك.
3 ـ الهيئة التمييزية للكمارك:
وتتألف من قاضيين وأحد المديرين العامين في وزارة المالية.(المادة 250 من قانون الكمارك لعام 1984 النافذ).
4 ـ محكمة الأحداث:
وتتألف من ثلاثة أعضاء، أحدهم من القضاة والثاني من القانونيِّين والثالث من المختصين في العلوم ذات الصلة بشؤون الأحداث، كعلم النفس وعلم الاجتماع.(المادة 545 من قانون رعاية الأحداث رقم 76 لسنة 1983 النافذ).فهي محكمةٌ ثلاثيةٌ أحدهم قاضٍ والثاني قانونيٌ والثالث إما مختصٌ في علم النفس أو علم الاجتماع، ولا علاقة للثاني والثالث بالقضاء بحسب التخصُّص كما هو واضح.
5 ـ محكمة الاحداث المركزية:
وهي تتألف بالطريقة ذاتها التي يتم فيها تأليف محاكم الأحداث في مراكز المحافظات، أي من قاضٍ وقانونيٍ ومختصٍ في علمٍ النفس أو علم الاجتماع.
6- المحكمة الإدارية المختصة بالعقود الحكومية:
لقد كانت المادة (8) من تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم (1) لسنة 2007 -الملغاة بالتعليمات رقم (1) لسنة 2008 - تنص على تأليف محكمةٍ إداريةٍ تختص بالعقود الحكومية، تكون برئاسة قاضٍ يُنسَّب من مجلس القضاء الأعلى وعضوية ممثلٍ عن وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي لا تقل درجته الوظيفية عن مديرٍ عامٍ وممثلٍ عن اتحاد المقاولين العراقيين.
7- منح سلطة قاضي جنح إلى ضابط المرور ومفوض المرور:
تمنح المادة (8) من قانون المرور رقم (8) لسنة 2019 النافذ ضابط المرور سلطة قاضي جنح في فرض الغرامات.بل أكثر من ذلك إنَّ الفقرة (ب) من هذه المادة تعطي هذه السلطة -قاضي جنح- لمفوض المرور.
فإذا كان مفوض المرور يُمنح سلطة قاضي جنح، وهي سلطةٌ أصيلةٌ لا يتمتع بها سوى القاضي، فما بالك بتفسير الدستور من قبل المتخصصين من فقهاء القانون أو من بعض الشخصيات العامة، وهم أقدرُ على هذه المهمة من القاضي، والتي يمنعها البعضُ متذرِّعين بأنَّ المحكمة الدستورية هي محكمةٌ ويجب أنْ لا يكون فيها إلا القضاة !!
إنَّ كل المحاكم المذكورة في أعلاه، وغيرها مما يشبهها، هي محاكمٌ بكل معنى الكلمة، وقد يُصدِر بعضها قراراتٍ سالبةً للحرية، توقع عقوباتٍ بالحبس أو السجن، ومع ذلك فبعض أعضائها ليسوا بقضاةٍ. كما أنَّ محكمة القضاء الإداري ومِن فوقها المحكمة الادارية العليا، هي في غاية الأهمية والاعتبار، ولعلها تأتي بعد المحكمة الاتحادية العليا - الدستورية- في الأهمية من هذه الناحية - لا نعني المقارنة مع عمل المحاكم العادية الخاضعة لإشراف مجلس القضاء الاعلى-.فلقد قضت مثلاً في بعض قرارتها ببطلان إقالة محافظٍ ما سبقَ أن أقالهُ مجلس المحافظة، وأَعادتهُ للمنصب. وقد قضت في قراراتٍ أخرى بصحة إقالتهِ من المجلس، ولم تسمح له بالعودة إلى منصبهِ. وهكذا أصدرت قراراتٍ في غاية الأهمية والخطورة مما يتعلق بتغيير المراكز القانونية لوزراء ووكلاء ومديرين عامين، وغيرهم، والتي بدورها أحدثت تأثيراً كبيراً في مسار الدولة -سلباً أو ايجاباً-، ومع ذلك فليس فيهم قاضٍ واحد.
فإذا كانت محاكمُ بهذه الخطورة، وإذا كان بعضها يصدرُ قراراتٍ سالبةً للحرية ينبغي أنْ لا تصدر إلا عن الجهاز القضائي، ومع ذلك أصدرها بعض الأفراد الذين لا علاقة لهم بالقضاء. فكيف تستكثرون أن يقوم فقيهُ القانون، ونحوه، بتفسير نصوص الدستور، مع أنَّ المنطق الدستوري في العالم يؤكد أنَّ هذا الفقيه هو الأقدرُ والأفضلُ في تفسير الدستور من القاضي ؛ لأنها صنعتهُ، وليست هي صنعة القاضي!!
ومع ذلك فالدستور العراقي لم يستبعد القضاة، لأن لهم دوراً تخصصياً أكثر من غيرهم ورد في بعض الاختصاصات في المادة (93) من الدستور، مثل الفصل في المنازعات التي تنشأ بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات، إذ القاضي يكون هنا أقدر من فقيه القانون، وكذا يكون الخبيرُ في الفقه الاسلامي أقدر من القاضي ومن فقيه القانون في تفسير ثوابت الاسلام، وهكذا.
وسنكملُ عرض الدليل الرابع في الجزء الثالث إن شاء الله، والمتعلق ببيان الفرق بين القضاء الدستوري والقضاء العادي ..
د. حسن الياسري - بغداد
صادق السامرائي: التراث وخطيئة المفكرين!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
المفكرون ومنذ القرن التاسع عشر ولا يزالون، يعزفون ذات الإسطوانة التي ما أوصلت الأمة إلى بر الأمان، وما أدخلتها في عصرها الفتان.
ومعظمهم يقتربون من التراث يآليات غير متوافقة مع الواقع الذي يعيشونه، ومتأثرون بمستشرقين وبمفكرين وفلاسفة أجانب، ومن خلالهم يقرأون التأريخ، ومنهم مَن إطلع على جزء من التراث، وبإنتقائية مقصودة لتعزيز ما يذهب إليه ويطرحه من التصورات والمشاريع البائدة البائسة، التي تشترك بإعتبار أمة العرب لوحدها ذات دين، ونقد العقل ولا تعرف أي عقل يقصدون، ويتوحلون بالدين والنص وكيف يتحقق تأويله، ومنهم مَن يرى أن الأمة قد توقفت بعد إبن رشد، وآخرون يتوهمون بأنه المنقذ، ولا فرق بينهم بين الذين يرفعون شعار الإسلام هو الحل، و تجديد الخطاب الديني.
ولا تجد في طروحاتهم ومشاريعهم ما يتفاعل مع الحاضر والمستقبل، ويتناول الظواهر القائمة والتحديات المتواكبة بعين الجد والإستبصار، وإنما يمتلكون الأجوبة الجاهزة الموجودة في كتب الأولين، ويحيلون كل معضلة إلى الذي مضى وما إنقضى.
وتتعجب من طرحهم وآليات إقترابهم، وكل منهم يهلل لمشروعه، وما أسهموا بصناعة تيار قادر على التغيير.
ولا تجد فرقا بين طروحات الذين تناولوا التراث في القرن التاسع عشر، والذين يتناولونه في القرن الحادي والعشرين، وتتساءل لماذا يكررون ما لا جدوى منه؟
فلكل أمة تراثها، وفيه السلبي والإيجابي، ولا يوجد تراث مثالي، والأمم تأخذ بالإيجابي وتتعلم من السلبي، وتنطلق في مسيرتها نحو المستقبل، وتعتمد التفكير العلمي الذي يمنحها قدرات الوصول إلى حلول متناسبة مع التحديات التي تواجهها.
ومفكرونا منغمسون بالداجيات، ويوهمون الأجيال بقدراتهم على إيقاد مشاعل الحياة، وهم من أكثر المساهمين بإطفاء أنوارها!!
يتحدثون عن التراث بإقترابات ومنطلقات جامدة، وما تناولوا موضوع البحث العلمي، ولماذا لا تخصص ميزانيات ذات قيمة للبحوث، ولا نعلّم الإنسان التفكير العلمي منذ الإبتدائية، فالمشكلة في تصورهم تراثية ماضوية، وهكذا عليهم أن يختصروا أبعاد الزمن بالذي كان!!
إن الذي يريد علاج مشاكل الأمة عليه أن ينتبه إلى ما يقوم به مفكروها، وما يطرحونه من تصورات إقناطية إخمادية لتنويم الأجيال، وغرس روح الإستسلام وفقدان الإندفاع، وإعتبارها عالة على البشرية، والسبب في تفسيراتهم وتحليلاتهم تكمن في التراث، ولكل منهم مشروعه النظري للتعامل مع التراث!!
فأية محنة يشارك في صناعتها مفكرون، لا يتفكرون ؟!!
د. صادق السامرائي
عبد الجبار الرفاعي: مشكلة الشرّ في العدد الجديد 73-74 لمجلة قضايا اسلامية معاصرة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار الرفاعي
بعد 24 عاما من عملها على بناء فضاءٍ للتفكير النقدي والنقاش والبحث في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، والخروج من تكرار الشروح والكتابات الوعظية والتبجيلية المكرّرة، استطاعت مجلة قضايا إسلامية معاصرة تخصيص 72 عددا من أعدادها الصادرة في سنواتها الماضية لدراسة الموضوعات المحورية في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد.
يصدر في بيروت هذا الأسبوع العدد الجديد 73-74 من مجلة قضايا إسلامية معاصرة. تخصّص المجلة هذا العدد للقسم الأول من دراسة: (مشكلة الشر – 1)، وتعمل على أن تستكمل البحث والنقاش في هذا الموضوع في العدد القادم، وربما في عدد ثالث يليه إن وجدت إسهامات جادّة بالعربية، أو موضوعات مترجمة من اللغات الأخرى.
تقدّم هذه الدورية منجزَها هذا للأساتذة والباحثين وطلاب الدرسات العليا في الجامعات ومعاهد التعليم الديني والحوزات، وكلّ المهتمين بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، عسى أن يتنبه الخبراء لدراسة هذا الموضوع، الحاضر على الدوام في الكلام حول وجود الله وعلمه وقدرته وإرادته وأفعاله وعدالته.
كانت مشكة الشرّ ومازالت من القضايا التي لم يتعطّل فيها التفكر، يتساءل الناس عن الكوارث الطبيعية والزلازل والأعاصير والأوبئة وغيرها، يتساءل عن ذلك الناس بمختلف درجات وعيهم، وهكذا يتساءلون عن الظلم والعنف الذي يصدر عن الإنسان، واعتداء الإنسان على أخيه الإنسان، واعتداء الإنسان على الكائنات الأخرى في الأرض، واعتداء الإنسان على الطبيعة وتخريبها.
على الرغم من شدّة الحاجة لدراسة مشكة الشرّ، وفرض سؤال الشرّ لحضوره كسؤال ميتافيزيقي إنكاري معلن في أحاديث وكتابات بعض الباحثين والأساتذة والتلامذة، ومختبئ أحيانا لدى غيرهم من البشر. طالما أعلن السؤالُ الإنكاري عن الشرّ حضورَه بكلمات وعبارات لا تخلو من استغاثة وعتب واحتجاج على لسان الأمهات والآباء الذين يفجعون يفقدان أبنائهم، والناس الذين يتعرضون لمصائب ونكبات شتّى في كلّ المجتمعات.
التأليف والبحث في موضوع الشرّ مازل فقيرا باللغة العربية، فلم نقرأ دورية فلسفية أو دينية عربية أفردت عددا لـ"مشكلة الشر"، ولم نقرأ كتابات جادّة تتناول الأسئلة الكبرى في هذا الموضوع الأبدي، ولم نعرف تخصيصَ ساعات في الدراسات العليا تهتم بدراسته فلسفيا ولاهوتيا وكلاميا. ظلّ هذا الموضوع للأسف مهملا في الدراسات العليا في كليات الفلسفة والكليات اللاهوتية والدينية، وغفل عنه أغلبُ التلامذة والأساتذة.
من هنا بادرت قضايا إسلامية معاصرة لدراسة هذا الموضوع، وانشغلت بالإعداد له منذ سنوات، كانت الصعوبةُ في ندرة الخبرة البحثية في مشكلة الشرّ بالعربية، لذلك هاتفت المجلة وراسلت باحثات وباحثين تحترم تكوينَهم الأكاديمي وخبرتَهم العلمية والبحثية في الفلسفة واللاهوت والأديان، وترجمت مادة وفيرة من لغات أخرى، ولم تصدر هذا العدد إلا بعد أن تراكمت لديها مادة وفيرة تغطي أكثر من عدد. بادرت قضايا إسلامية معاصرة لدراسة "مشكلة الشر"، بمداخل متنوعة: فلسفية، ولاهوتية، وكلامية، وأخلاقية، ودينية مقارنة، عسى أن نستمع لصوت يتحدّث لغة بديلة تحدّثنا بما لم نقرؤه من قبل. تعرب مجلة قضايا إسلامية معاصر عن امتنانها لكلّ المشاركين فيها من الكتّاب والمترجمين، ولكلّ من دعمها ووقف معها في مسيرتها الطويلة، وكلّ من اهتم بها وقرأها ونقدها.
كما تعرب عن امتنانها لعائلة صبورة أنفقت جهودا منهكة، وكافحت لسنوات طويلة من أجل أن تفرض مجلة قضايا إسلامية معاصرة حضورَها النوعي للانتقال بالاجتهاد والتجديد لآفاق بديلة للتفكير الديني، تنتزعه من ركام الكلام المكرّر منذ قرون، والانسداد الذي أرهقه الأزمنة السابقة. وقد استطاعت أن تنجز شيئا من أحلامها في بناء حقل دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية الذي دشّنته منذ ربع قرن تقريبا. قضايا إسلامية معاصرة نجحت في تدشين فضاء رحب للتفكير الديني، وسمحت لكتّابها بالبحث والنقاش بحرية في كلّ موضوع يتناولونه في الدين والدنيا، وإن كان ذلك الموضوع من الممنوع التفكير فيه.
تحية وامتنانا للأستاذة انتزال الجبوري، الأم، سكرتيرة التحرير، ومحرّرة النصوص الذكية.
تحية وامتنانا للدكتور محمد حسين الرفاعي، الابن، مدير التحرير، واستاذ علم الاجتماع والفلسفة اليوم في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية ببروت، والذي لولا جهوده منذ وقت مبكر من حياته لم تصدر هذه المجلة، ولولا إصراره على المضي في الطريق، لم تواصل مسيرتَها كلّ هذه السنوات الطويلة.كنا كلّما تعبنا من العمل المنهك وقرّرنا التوقف يرفض محمد حسين ذلك بشدّة، ويصرّ على المضي في الطريق مهما كانت العوائق.
د. عبد الجبار الرفاعي
سامي عبد العال: لِماذا الصِراعُ على الجَسدِ؟!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سامي عبد العال
"الصيام أحد أشكال التأويل لطبيعة الجسد وجذوره في الحياة.."
"تدرك السياسة جيداً ما هو الجسد عارفةً تراثه وصراعه الوجودي.."
الجسد هو "التجلِّي الحي" بما يشحن طاقاتَّ الإنسان صوبَ ما هو مرغوب أو ممنوع. واستعمال الجسد في الممارسات العامة يوضح إلى أي مدى تصبح علاماته خطاباً له أبعاد تأويلية. السؤال بناء على ذلك: هل الصيام عملية تحكُّم رمزي في هذه الطاقات؟ هل من تفسير إشكالي لقضايا الروح والجسد بهذا التكوين؟ في هذا الإطار، يعدُّ الصيام إدارةً ميتافيزيقيةً للجسد تحقيقاً لاعتقاد في أصل الحياة. وسيحاول المقال طرح تلك المسألة بقدر ما يستحضر خلفياتها الدينية والفلسفية.
صحيح أنَّ إدارةُ الجسد بهذا المعنى ترتبط بفكرة المقدس (الإله والايمان)، لكنها تبلغ درجة الفعل الوجودي في الأديان بدوافع وغايات متفرقة. لأنَّ هناك من الدوافع والغايات ما هو ماضٍ وما هو مستقبل، خلال لحظةٍ (حاضرة) لا تحتملُ التقاءهما (الآن) إلاَّ بضرورة تأويل مقولات الإله والإنسان والحقيقة (من قبل). أي لن يلتقي قطبا الزمن (الماضي والمستقبل) حول الجسد دون كشف لمعاني المقولات المذكورة وتحولاتها لدى البشر.
إذن بوجود الصيام واختلاف طُقوسه في الأديان الإبراهيمية وقبلها (الزرادشتية والبوذية والهندوسية وحتى الديانة الفرعونية...)، هل سيُمثل – ارتباطاً بالجسد- مشكلةً فلسفيةً؟ أي.. هل تُقدم الفلسفةُ قولاً ذا بالٍ حول (كائن صائم) يُعلِّق بعضاً من رغباته في شكل طقسٍ يومي؟! بحيث تفتح مساراً فكرياً عاماً للإنسان تجاه نفسه، وتعطي دلالة لفعل الصيام ضمن التاريخ الإنساني. على الأقل تجاه ما هو وارد بالدين والسياسة من رؤى بالنسبة لأحداث هذا التاريخ وآثاره (وعليه سيرتبط الصيام بالسلطة والمجتمع).
حساب الجسد
يبدو أنَّ حال الكائن الإنساني يثيرُ جدلاً بمعناه السابق. لأنَّ كائناً إنسانياً– بمجرد ذكر اسمه- ينخرط بالمقام الأول في وجوده الحي، فلا يفتأ مستغرقاً في أوجه حياته المختلطة بالرغبات والغرائز والأهواء، لدرجة أنَّ جميع أفعاله هي نتاج مباشر لذلك التكوين. بالمقابل قد لا نتصور أنْ يُسقِط الإنسان جزءاً من كينونته لصالح قوة أخرى (سلطة عليا) إلاَّ إذا استطاعت القوة تعويض الجزء المرفُوع من الكينونة. ولا يُنظر إليها دون حسابٍ ميتافيزيقيٍّ metaphysical calculation يدَّخر وجوداً مغايراً، ثم يغدو متحولاً إلى جانب الإيمان والاعتقاد (الأخرة: الجنة والنار). وهي أشياء تُحرِّك (تُغري – تُوهم) من زاوية رغبات الكائن قُوى اجتماعية أخرى (مترقبة – متلصصة) في إطار سياسات الجسد.
المسألة تحديداً أنَّ الكائن الإنساني يشكل "مجالَ إغراء" (1) field of seduction ليس من جهة غرائزه فقط (تلك المستعملة في أداء الصيام والتفاعل الاجتماعي)، إنما أيضاً من كونَّه جسداً محاطاً بصراعٍ لكيفية إدارته مرتهناً بعملية الخلق ضمن أفقها اللاهوتي، إضافة إلى محاولات اشغال هذه المساحة بواسطة الأنظمة السياسية والأهداف الساعية إليها.
يحدد الصيامُ - موروثاته وآفاقه - اقتصاداً سياسياً من نوع خاصٍ، الجانب الادخاري فيه ينطوي على تراكم لاهوتي تستثمره الحداثة عندما يصبح جسدُ الصائم سلعةً وسُوقاً ورمزاً، حيث تزيح القوى الرأسمالية- باسم الليبرالية- دلالاته الميتافيزيقية جانباً كي تستعرض حضورها المهيمن. وكينونة الإنسان عندئذ تغدو كالدودة المنهمكة في عبور غصن ملتف الأوراق معتبرة ًإياه كلَّ عالمها، بينما تغفل أنَّ الغصن هو لشجرة عملاقة داخل غابات تخبو خلالها الأضواء.
ثمة مستويات لخلفية الصراع على الجسد كالتالي:
1- اللاهوت: إذ كانت عملية خلقْ الإنسان عملية جسديةً (الخلق من أديم الأرض، طين الأرض وهو معنى كلمة آدم كما وردت في العبرية). وما تبع ذلك من زمن الخلق ومستقبله اللذين سينتجان إمكانية الحياة بأغلب ملابساتها تعويضاً عن الأصل (المفقود- أي السقوط من الجنة)، وسيمثل الأصل ذاكرةً حيةً ترمي إلى الأزمنة الآتية بفعل الماضي السحيق. والصيام يمس كل هذه المعطيات لأنه فعل متكرر في جميع مراحل الديانات (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
2- الميتافيزيقا: أي المبادئ التي تشدُ كيانَ الإنسان إلى أعلى تجاه قيم تندرج خلف الفكرة السالفة. وبالتالي سيكُّون الجسد" وشماً انطولوجيا " في الحياة حاملاً لبصمات المقدس والمبادئ المفسرة للطبيعة والعالم والحياة. والجسد يحتمل أن يكون مرآة تنعكس عليه هذه البصمات نتيجة قوته الذاتية وخلاصه الروحي.
3- الاجتماع: فالجسد ليس فردياً، لكنه في لحظات السلطة والقوة والهيمنة هو جسد اجتماعي. تغمره الثقافة من أعلاه إلى أدناه، الوجوه والوشوم والهيئة والأزياء والحركات وحتى السمات العامة تعد بمثابة بورتريهات ثقافية حتى النخاع.
4- السياسة: الجسد كتلة سياسية متحركة، أنفاسه ورغباته وآثاره لا تخلو برهة واحدة من تسييس المضامين. حتى أنَّ أشكال الأجساد وأنماطها وعلاقاتها الحيوية في الفضاء العام هي موضوعات لم تفلتها السلطة هباءً. وبالتالي يمكن أن تجد السلطة لنفسها موطئ قدم في فضاء الجسد شريطة أن تأخذه كوسيط وحركة. والسياسة صيام من نوع آخر، صيام الجسد عن غرائز التجمهر والتمرد وانتظامه وفقاً لآلياتها وأهدافها.
5- العلامات: الصوم يصبغ الجسد مبدياً ذلك على معالمه وحركته، وهو في المجتمعات العربية يتخذ كنقش للتدين أمام الآخرين (إذ يتفرس الأشخاص عادة في وجوه الآخرين بحثاً عما إذا كانوا صائمين أم لا). وقد عبر الموروث الإسلامي عن تغيرات الصائم بعبارة رمزية كما جاء في أحد الأحاديث النبوية (لخلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).
6- التأويل: الجسد هو الصورة المؤولة لوضعيات الإيمان والاعتقاد، ليس ينفصل هذا عن ذاك إلاَّ بقدر ما يكون الشكلُّ هو المعنى لما يؤول إليه الأصل المرتهن بقصة الخلق اللاهوتي (حرمان الجسد من النعيم وهو وسيط الخطيئة). لأنَّ الجسد هو مادة الاتصال التاريخي بين عملية الخلق القديمة وحضور المعاني العميقة الآن ضامناً استمراريتها إلى الغد.
لأنَّ الصيام كما أشرت يومئ إلى الأثر الرجعي الكامن فيه كبناء نحو الأمام لحل لغز المعصية التي قام بها آدم قديماً وأكله من الشجرة المحرمة. وبما أنَّ الجسد هو آدم (العاصي لأمر الرب) فإن جسد آدم هو المسؤول عن الصيام الآن وأي آن. وهذا يضمر افتراضاً أنَّ اجساد أبناء آدم (البشر جميعاً) يؤولون جسد أبيهم بطقوس الصيام وعلاماته.
7- التاريخ: يثبت الصوم أن الجسد وسيلة تصفية لتاريخ العالم، لكونه عائداً إلى مصدره الخالق طالما لم يتدارك أدم خطيئته فعلياً، وهو وسيلة اعتراف وخطاب جسدي وروحي يطلب الغفران عن تاريخ قديم وقع بطريقة ما ونحن جزء من مسؤولياته. والصيام من ثم مشاركة بالجسد في محاولة لرتق الانقطاع الزمني عن الأمر الإلهي (أي الأمر بعدم الاقتراب من شجرة الجنة)، لكنه يلجأ إلى مصالحة مع الذات حتى يصالح الآخر وكل آخر سواه.
مَحْبرة الحروف
أمَّا الإيماءة الثرية في هذا السياق، فلا تنقطع عن كون وحدة الجسد البشري احتمالاً قائماً، فالبَون شاسع جداً بما يصعب تخيله بين بداية الخلق والحال الراهن. لكن تكرار الصيام يمثل (عودة وانطلاقاً) في الوقت نفسه، تكرار حفري على سطح الزمن بما يتيحه الجسد من توثيقٍ للخلفية اللاهوتية بشكل جمعي. وكأنَّ أجسادنا هي حصيلة جسد تاريخي كان به حوار أنطولوجي على مستوى الحياة الأولى ثم له تحولاته (الامر الإلهي – الجسد- الخطيئة- السقوط من الجنة). وكما لو أنَّ الجسد التاريخي متوزع كشيء مشترك على صعيد قصتنا التي نعيشها (في الحب – التعلق بالآخر- التفاعل والتواصل اليومي). وهذا الجسد قد ورثناه نحن أبناء آدم وحواء وكان الصوم أحد وجوه وجوده للشعور بهذا التراث وممارسة التقوى التيس تشعرنا بوجود الخالق وأوامره السارية.
هنا سؤال وجيه: هل يعدُّ الصيام رغبة أم أمراً أم قضاءً وقدراً أم طقساً بُناءً على حضور المتعالي؟ لتُّوضح الفلسفة بأيَّة دلالة يمتنع الكائن عن ألته الجسدية (وملحقاتها) لصالح معانٍ داخل ذاته وخارجها. الامتناع نفسه الذي لا يتم دون وجود صراع حقيقي حول الألة العتيقة (الجسد) منذ المدونات القديمة والأساطير وأنظمة السلطة والمِلْكيَّة وأدبيات المتعة واللذة والجوع والألم والموت والحياة. وبالتالي فالإجابة عن السؤال بالأعلى ليست محسومةً (على افتراض أننا لا نعرفها)، لكن ستظل موضوعاً للتفكير كعمليةٍ متواصلةٍ لها تداعياتها غير المنتهية، ومن الصعوبة بمكان إقرار كل ما في جوفها إلاَّ بتتبع تحول الفكرة داخلها على نطاق بعيد.
فالأمر ليس بسيطاً كما نظن، إن الخطيئة التي وردت في نصوص الكتب السماوية (التوراة والعهد الجديد والقرآن) استندت إلى قضية الخلق من جهةٍ، وإلى أمر الخالق بعدم الاقتراب من الشجرة المحرمة ثم الخطيئة التي اقترفها آدم وحواء من جهةٍ أخرى. فجميع ذلك يعتمد على الجسد كسردٍ منصوص عليه خلال المدونات الدينية، لأنَّه المادة الخام ليس لكائن جديد اسمُه الإنسان، لكن لمستقبل الكينونة ولوجود عالم تالٍّ (جميع الديانات الإبراهيمية تشمل علاقة: الإله + الإنسان× الشيطان/ الخطيئة). أي سيناريو الدراما الكونية التي يلعب فيها جسد الإنسان دور البطولة، سواء أكان خَلْقاً أم معصيةً أم خُروجاً من الجنة وهبوطاً إلى الأرض أم ثواباً وعقاباً. كل ذلك يعني إمكانية الصوم فوق هذه المعالم التاريخية وداخل أجوائها القابلة للتأويل. أي أنَّها عملية لا تتم إلاَّ بتحريك وجودها الساري في تاريخ الإنسانية.
لقد كان الجسد " محبرة الحروف" التي (كُتبت وستُكتب) بها الأحداث اللاحقة للخلْق الأول (سيناريو الحياة البشرية والأديان). فالخلْق كان مصدره من تراب كما ورد سواء برمزيته في اليهودية والمسيحية أو بأطواره في الإسلام. وكيف مثل إمكانية حسية مليئة بالرغبات والشهوات (العُري والرغبة والسوءة: فبدت لهما سواءتهما بتعبير القرآن) أو حضور الآخر غريزياً (حواء) كشكل مماثل لجسد نظيره (آدم). وحين يحجب الإنسان رغباته طعاماً وشراباً وجنساً وفُحشاً، فهو مازال يعزف على الآلة الطينية المخلوقة (كما تُوصف). وعلية لم لا نقول إنَّ الامتناع عن ذلك كان متعلقاً بسرد عملية الخلق في النصوص المقدسة وهو عودة تأويلية نحو جذورنا الوجودية البعيدة؟!
إنَّ الصيام هو جملة اعتراضية مستقبلية تعود إلى الأصل على نحو مزدوج، والنهي عن الرغبة تجاه الشجرة المحرمة مازال نهياً متصلاً حتى الآن وبعده. لكن ذلك في صورة طقس وجودي وديني يرد الاعتبار للنهي الإلهي الأول ويعيد تأويله تطبيقاً لطاعة الفريضة تباعاً.
إثباتاً لذلك كان الصيامُ في اليهودية مُرتبطاً بأيام معينة ومناسبات خاصة تعبيراً عن الاستغفار والخطيئة أكثر منه ارتباطاً بمواعيد محددة. ومن الأيام المشهور صيامها عند اليهود يوم الغفران (2) وهو صيام خمسة وعشرين ساعة متواصلة. فيبدأ الصائم قبل غروب الشمس بحوالي الربع ساعة وينتهي في يوم الغفران بعد غروب الشمس بربع ساعة. وهذا يدلل على كون الصيام اليهودي نوع من التكفير عن ذنوبٍ ليست وليدة اللحظة. فالصيام كان ارتباطاً بتاريخ من الجسد الجمعي collective body في موروثات اليهود، ليس هو الخطيئة بمعناها الفردي فقط، لأن يوم الغفران يتم التعامل كطقس جماعي، ثم يستعمل كفترة زمنيةٍ يشعرُ شعب الرب فيها بقدرتهم على ممارسة العلاقة اللاهوتية السياسية معه.
هكذا اصبح الغفران تقنية جسدية سياسية قائمة على الجذور اللاهوتية، ومع وجود الدولة اليهودية (اسرائيل) جاء الجسد كجزء من الخريطة المحددة لوجود الشعب. إنَّ خريطة اسرائيل هي خريطة الجسد اليهودي مع تفاصيل الشتات والتيه والعودة والدولة أخيراً. وفي قلب المعادلة تقع فكرة الخلق وارتباطها بالرب على الأرض، ولذلك كان الجسد (وصيامه) ذاكرة جيوسياسية تسرد علاقة السماء والأرض. بكلمات أخرى، يعد الصيام منشطّاً لذاكرة تحافظ على حدود شعب ما.
لقد تعامل شعب بني إسرائيل مع الرب تعاملاً جسدياً، فهو على ارتباط مباشر معه، وللرب كل السلطة والاختيار في تكوينهم وتفريقهم وعقابهم وإرشادهم، يراهم ويقابلهم وجهاً لوجه، يتجلى ويتجسد لهم فوق الأرض دون سواهم من البشر. يحارب معهم ويعد جيوشهم من عصر إلى آخر لدحر الأعداء ساهراً على تمكينهم من الأرض وتاركاً آثاراً حيث وطأتها أقدامهم من أو هناك.
المدهش أنَّ الدولة الإسرائيلية تعاملت مع حدود جغرافيتها باعتبارها جسداً حياً أيضاً، جسد غير قابل للمس ولا للضرر المباشر. حتى إذا تمَّ المساس بها تستنفر الجماعات اليهودية كل قوتها كأنَّ الجسد كله قد وقع عليه مكروه، لتجند الدولة له جميع القوى دفاعاً عن جسدها. لدرجة أنَّ الأموات اليهود في دول متفرقة ينظر إليهم اليهود باعتبارهم جزءاً من جسدهم الذي يشعر ويقوى ويدافع عن نفسه.
أيضاً يصوم اليهود في ذكري هيكل سليمان، ويصومون في يوم وفاة نبي الله موسى، وكذلك صيام الأسابيع الثلاث الحداد والتي قام فيها الرومان بهدم الهيكل واحتلال أورشليم من السابع عشر من تموز وحتى التاسع من آب. كما كان اليهود يصومون قبل الحروب والقتال. والمماثلة لا تخطئها العين، فالصوم تراث يحضر عن طريق الجسد، أو هو الجسد موروثاً بطريقة سياسية. إنَّ كل ما ينتمي إلى طقوس الديانة اليهودية لا تغيب عنه السياسة لحظة واحدة، حتى مصطلح بني اسرائيل، والعبرانيين، اسرائيل، اليهود،.. جميعها كلمات تاريخية لا تخلو مما هو سياسي. فالعبور يحتوي على الحدود التي هي جسد الواقع والموروثات معاً.
وفي المسيحية يمثل الصيام خضوعاً للرب، ولا يوجد موعد بعينه للصيام لدى المسيحيين وإنْ كانت تقاليد الكنسية قد قالت بالصيام قبل أربعين يوماً من عيد الفصح ثم زيدت لتصبح ستة أسابيع بما يسمى الصيام الأكبر. لكن اللافت أنَّ الصيام يمنع أكل لحوم الحيوان ومنتجاته كالألبان ومشتقاتها. بيد أنَّ الأمر يرتهن بتعاليم الكنيسة، فالكنيسة الروسية مثلاً تمنع أكل اللحوم والسمك، أما الكنيسة الكاثوليكية في انجلترا فسمحت بأكل اللحوم والأسماك أثناء أيام الصيام بخلاف أيام معدودة مثل الأربعاء والخميس والجمعة، بينما الأرثوذوكس يمتنعون عن اللحوم والألبان ومنتجاتها مع السماح بأكل الأسماك.
ليس يخفى علينا أن الصيام يؤكد على إبقاء الحياة في شكل الامتناع عن أكل اللحوم. ونعرف أنَّ اللحم هو الجانب الذي يشكل الجسد الذي هو الحيوان فينا، وبالتوازي ستقول المسيحية يجب النظر إلى الحيوان خارجنا بعين الرحمة. إذن لن يحافظ على الحياة إلاَّ صوم الحيوان البشري (الآثم) داخلنا عن التهام الحيوان بالخارج. والحيوانان لا يأتيان اعتباطاً، لأنهما جزء من منظومة الخَلْق لاستمرارية العالم، فالخضوع للرب ليس وليد اللحظة ولا بناء على إدراك هذا الحيوان أو ذاك لأهمية نظيره، بل لأن هناك خطيئة أصلية سابقة بنيت عليها الحياة.
إن صياماً مسيحياً عن اللحوم الحية هو تذكير متواصل بماهية الحياة التي تحددت مبكراً بصورة آثمة (خطيئة آدم – الإنسان)، وبالتالي سيكون الصيام في المسيحية حفاظاً على الحياة تحديداً والإشارة إليها. في وضع يحتاج إليه الإنسان من جهة أنَّ الحياة لا ينبغي أن تكون قرباناً لشيء أخر. وإذا كانت الحيوانات قرابين قديمة للآلهة، فإن الامتناع عن أكلها هو قربان بالمثل. وتلك إشارة لطيفة إلى وجود قرابين بالمعنى المقصود هنا وهي تصفية للاعتقاد بأن الحياة قائمة على إراقة الدماء.
وهذا أعطى المسيحية فرصة للحديث غير اليهودي عن الحب، فالصيام هو محبة بلا عنف إزاء الطبيعة. وليس أقرب من كون المسيح كابن الرب هو الجسد المتألم لغفران خطايا البشر. غفران مقلوب، فالآلهة منذ القدم كانت تفرض التألُّم على البشر من أجل غفران خطاياهم في حين أنَّ المسيح ابن الرب في المسيحية هو من يصلب ويتوجع لغفران خطايا البشر.
بصيغة أخرى، يتحول الجسد إلى حب، فلا الإله يترك البشر كما هم وكذلك لا تسري الآلام في أجسادهم وأجساد الحيوانات المُضَّحى بها. من ثم كان الصيام في المسيحية من جنس الحياة طالما يحول دون النيل منها داخل كائنات أخرى. والطبيعة تعود إلى جسد المخلوق الأول وقدرتنا على الشعور به رغم زمنه السحيق وقدرته على السريان في الأجساد الآدمية. ولذلك سيظل طقس أكل الخبز المقدس ورمزية لحم المسيح ودمائه طقساً في ماهية الحياة.
ولأن الجسد واحد لدى البشر جميعاً، فلا يتم فقط التنكر لما يكون عليه الحيوان داخلنا و خارجنا، بل بمعرفة المتصل الذي يقع عنده جسد المسيح الحي داخل الاثنين معاً. والتوحيد في طقس كهذا الصيام نوع من شعور الإنسانية بوجودها الممتد.
أما الإسلام فقد قال صراحة: (كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)، وقد أشار القرآن بهذا إلى طبيعة المداد (الحبر) الذي كتب به. فالوضع معروف منذ آدم والرسالات السابقة توحيدية وسردياتها تتشابه في قصة الخطيئة واستعجال الغفران. والكتابة الإلهية هنا تبدو بموجب الجسد في ضوء العلاقة التاريخية بين الرغبة والوجود والحياة. وسيكون الصيام مطلوباً بالطريقة نفسها رغم وجود درجات له ترتبط النقطة السابقة (مثل صوم الجوارح وصوم الخاطر وصوم النفس عن النوازع والاشتهاء والكلام كما يقول المتصوفة).
كما يرتبط الصيام في الإسلام بالخالق رأساً، حتى جاء بالأثر على لسان الله تعالى:" أنَّ جميع عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، لأن قضايا الخلق تخص الله في الإسلام وهو من باب اثبات تلك الخصوصية، فالجزاء من جنس العمل إعمالاً لوثيقة الجسد منذ وجودها الأول حتى اللحظة. وعقب الصيام بنهاية شهر رمضان، قيل إنه سيظل هذا الطقس معلقاً غير مقبول إلا بإخراج زكاة الفطر، والشيء الدال أنها تسمى" زكاة الأبدان"، مصيرها وعلاقتها بالخالق وصحتها وخلاصها من العذاب الأخروي. وكأن نهاية فترة الصيام اعتراف واضح بتلك المسؤولية التاريخية غير المباشرة بين آدم وأبنائه الذين هم نحن.
إلى هذا النقطة يرتبط الوضع بأسئلة أخرى: هل وجود المقدس خلف الصيام يحُول دون التساؤل حول جانبه الإنساني؟ هل التقوى (لعلَّكم تتقون: غاية الصوم) في الديانة الاسلامية بمثابة التعلق بما هو آت (الآخرة) فقط؟ أي هل التقوى فاعل لصائم ما أم هي مفعول لشيء آخر (سلطة المقدس)؟ وبالتالي: أليست الرغبات تنقسم ما بين الخوف والإقبال طلباً للمزيد؟ ولماذا يتم ترجمة الجانبين اجتماعياً في صورة شهوات، انكشاف، نهم تجاه المغريات؟
جُوع العين
الفرضية المفصلية أنَّه لا يوجد جانب شهوي إلاَّ وتسكنه السلطة وتحاول إدارته لأجل التحكم في الجسد (الفردي– الاجتماعي). خاصة أنَّ الصوم– في المجتمعات العربية الإسلامية- ليس فاعلاً على المستوى الفردي، أي بالنسبة لجسد هذا أو ذاك من المؤمنين، لكنه يتعامل مع الاجساد كـ" شاشة عرضٍ" بصيغة الجمع (كُتب عليكم الصيام) و (لعلَّكم تتقون). فهناك هاجس الجمع وهو المتصل الذي نمارس فيه الإيمان زمناً معيناً. إذن الصيام كتابة صادرة من سلطة إلهية بناء على أقدار تخص عمومية الناس. وتلك النقطة تُفرِّغ مجال الكتابة من الجوانب الإنسانية بحكم أن الوازع يعتمد الإيمان معياراً وليس ثمة مرجعية إنسانية أخرى، لأن الله في الاسلام هو الذي فرض الصيام امتداداً لخط الزمن مع السابقين.
وعلى الجانب الآخر ، ربما الامتناع عن الطعام كان ديدن النساك والزهاد والفلاسفة. وربما لم يكن ثمة فيلسوف يرى بطنه أكثر مما يتسع إدراكه للعالم. وإلاَّ لكان البطن هو مقبرة العقل ولضاع منطق الفكر لصالح منطق النهم الحسي. وربما كانت الفلسفة تاريخياً نوع من النحافة المقصودة لرغبات عليا تركزت على ما هو ضروري في الحياة. وربما قبل الأديان لم تكن المعدة حاوية لرغبات منتقاة، بل كانت " بيت الداء " و" بيت القصيد"، فالمعنى كان في بطن الشاعر – كما يقال في الثقافة العربية- كمجال لخفاءٍ رمزي من نوع ما. وهي تستطيع أن تهضم أية مرجعية وتعيد إفرازها في شكل غرائز ونوازع وملذات. والبِطنَّة (أو السمنة وظهور البطن) تُذهِب الفطنة لكنها تجمع الشهوات، أي هي القوة المرغوبة التي تراكمت تحت جلد الكائن، وتقوده بالوقت نفسه نحو مصيره، نحو حياته الأخرى (نعيما أوعقاباً).
هكذا إذا كان الصيام كفاً عن الطعام (شهوات الجسد)، فماذا لو كان امتناعاً عن التفكير؟ وهل صيغة السؤال تواصل دلالتها بهذا المعنى؟ كيف يتحول الصيام من تقشف الكائن إلى اطلاق غرائز القطيع (النهم الجسدي)؟ وذلك كما يحدث في تسييس هذا الشهر بالأنظمة الاجتماعية وانتاج المسلسلات وانتشار مظاهر الركود والتداعي.
تبدو السلطة هاهنا والجسد هناك... تلك هي المسافة القصيرة التي لا تلبث أن تتلاشى عبر تاريخ المجتمعات وأنظمتها السياسية. حيث يلتقيان معاً في المجال العام، فالسلطة تعاملت تاريخياً مع مواطنيها بمنطق الوجود الواقع بين الرهبة والرغبة. والجانبان تتحكم فيهما الدول بطريقة الخلق اللاهوتي القديم كما أسلفت. لقد كانت هي الوريث غير الشرعي لكل دلالات الإله وحضوره وغيابه الحداثي أيضاً. فالحداثة قالت بموت الإله واعتبرت الدولة هي القوة الكبرى المسئولة عن الحياة والموت في المجتمعات عبر القوانين والصحة والطب والاخلاقيات كما ظهرت في أوروبا. وبالتالي كان منطقياً أن تعيد السلطة تشكيل أجساد البشر وفقاً لمعطياتها الثقافية السائدة.
كأنَّ السلطة تكتسب المعادلة التاريخية من اللاهوت: الإله – الخلْق – الإنسان (المخلوق –الجسد- الخطيئة). وتفسيرها كالتالي: أنَّ السلطة هي التحول الأخير لمكانة الإله في أفق الحداثة الغربية ومنها إلى المجتمعات التي تنشد تُزامنها. وليس أمراً عارضاً أن تنبني مفاهيم السلطة وحالاتها على اشاعة ثقافة الخوف. ورغم وجودها الواضح إلاَّ أنها تكمن لدى مستويات الصمت اللامفكر فيه. كل سلطة تهجس داخل المجتمع بحضورها دون أن تظهر وجها لوجه، غايتها المثلى أنْ تتخفى بقدر ما تتجلى. هي ثنائية استعارية تسبق السلطة بمعناها الحداثي في يد دولة مركزية إزاء مواطنين لهم مواصفات عمومية.
الفارق أنَّ سردية الإله معروفة وحياً في الأديان، بينما تؤسس السلطة وجودها بين السماء والأرض بواسطة " ميتافيزيقا الجسد". فالواضح أن كل سلطة لها تصورات بعينها حول ما هيته وقوالبه وتنظيمه وإعادة تخطيطه، وهذا ميراث " لاهوت الخلق" بينما عبر خفائها تخزن (تراكم) تصورات حول نمطه الممتثل لأوامرها كما تراه. ومن خلال العنف المضمر في هذه الأوامر ينشط الخوف الضمني كألية ضبط جماعي تحت رحمة السياسات.
تحل الأنماط العامة للحياة السياسية في ذهنية المواطنين محل اللاهوت بمضمون الاعتقاد الديني نفسه تجاه إله مفارق. إذ ظلت هذه السمة سارية المعنى حتى اللحظة في حواشي الدول الحديثة، لدرجة أنه ليس بين المواطن والسلطة سوى خوف يجسد فكرة الموت بكل ثقلها. وأيُّ بناءٍ سياسي على السلطة يضرب جذوره في تلك الميتافيزيقا، لأنَّ ميتافيزيقا السياسة هي الافتراض المتضخم إلى حد التجاوز بالنسبة لهيمنة هذه السلطة السائدة.
وإذا كانت السلطة السياسية قد ورثت أفق الإله بشكل مدني، فلا تنسى من حين لآخر أن تمارس وثنيتها بمنطق القوة والعنف كذلك. إذ حاولت – في الأنظمة الاستبدادية- ادعاء الألوهية ومارست قدرات عنيفة تنتهك كل ميتافيزيقا ممكنة.
لكن الجانب الآخر أنَّ السلطة تتناسى موقعها الإنساني لتعيد ممارسة اللاهوت بقضايا الجسد. فهي تؤكد بواسطة هندسة المجتمع ضرورة التزام الناس أفراداً وجماعات بالصور الرسمية لحركة الشوارع والميادين والمؤسسات. فإذا خرج المواطنون عن لوائح العمل بهذه الصور، وقعوا تحت طائلة القانون. الجسد هو آخر معاقل اللاهوت السياسي بالنسبة لتحرر المجتمعات. وقد رأينا في حراك الربيع العربي كيف شكل الجسد مسرحاً سياسياً لنفض غبار الديكتاتوريات ومجابهة الأنظمة المستبدة. شعرت تلك الأنظمة بأنها مؤقتة على قارعة الحياة بمجرد تمرد الأجساد في مظاهرات حاشدة. وربما لم يكن الجسد سوى سكين حي لقطع أوردة السلطة بميتافيزيقاها المورثة. وقد تقلصت الأخيرة مع هتاف الجماهير (الشعب يريد اسقاط النظام) إلى درجة التبخُر.
ولذلك فإنَّ حركة السلطة تتكيف تماماً مع حركة الجسد، إدارته هي آليات الدولة الحديثة مثل: الاعتقال، الحجز، التتبُع، السجن، المنع، الحجر، والتعذيب والسحل والعقاب... وهي ممارسات مقررة وفق تكوين الجسد الإنساني. فالاعتقال يفترض تزمين أوقات الجسد ووضعه داخل حدود مكانية بعينها، أي استغلال الحركة الملموسة في النيل منه ومساءلته بطريقة حياتية، وما يجري على الاعتقال والسجن يجري على باقي الأشياء.
بالتبعية تحركت الثقافة الشائعة نحو استهلاك الجسد (الشهوات)، فالسلطة لا تغفل انهاكه وتخييل وجوده لاستنفاد الطاقات الحيوية واعادة توجيه ميتافيزيقاه. دوماً بالمجتمعات التي تنخفض فيها إنسانية الإنسان، تشتغل السلطة على فضح الجسد. في إشارة إلى التناظر القديم بين الخالق والمخلوق، فعقاب السلطة هو نبذ مواطنيها من جنة الدولة واقعين باجسادهم تحت المراقّبة!!
اللافت للنظر أنَّ فترات الصيام (شهر رمضان) في المجتمعات الإسلامية هي زمن الاحتفاء بالجسد حتى الثمالة. شهر الهوس بالطعام لا الحرمان المؤقت وتوزيع الوجبات بشكل متقارب. والإيعاز لا يحتاج تفسيراً في زيادة النهم المادي وتقليص التطلع نحو غد أفضل وإقرار حقوق المواطنة. خلال هذا الشهر يكون الإنسان معروضاً في الأسواق حيث ركضه المتواصل نحو سد احتياجاته البسيطة من طعام وشراب وملبس. وتفريغ الجسد من روحانياته نحو السماء.
هذا الأمر مرتهن بفكرة الخطيئة، لأنَّ الامتلاء بأفكار التراث الإبراهيمي جعل آلة الخطيئة (الجسد) تستنفد قدراتها حين تتعرى جمعياً (الكل يرغب فيما يسد جوعه اللامتناهي وشرابه اللامتوقف والعودة إلى الظهور المرغوب في شهر الصيام). لنتأمل اعلام الطهي والبرامج التي تقدمه في صور فائقة الجودة والاشتهاء، نجدها لوناً من التعرية اللاواعية للروح وحصرها بملذات تستنفد طاقات الإنسان. وفي مداها البعيد تقلل من أي اهتمام آخر. المجتمعات الإسلامية أكثر المجتمعات استهلاكاً في شهر الصيام للمواد الشهوية (التي تثير الغرائز).
ليس هذا فقط بل تنتشر الأفعال الخارجة عن القوانين تحت ضغط استهلاك الجسد، ولا سيما أن استهلاكاً كهذا يجعل الرغبات ملتهبة، فالرغبة بحسب جاك لا كان دالٌ يواصل دلالته دون توقف. قد تبدأ بالشهوة المادية المتمثلة في الطعام (الإشباع الحسي) لكنها تطلق العنان للخيال بما لا يَشبع. ويغدو المزيد هو النطاق المؤجل الذي يلتهم كل مجهود آخر. حتى أن السلطة – في البلاد العربية- تجعل المجال العام نطاقاً للتعري الجسدي، لكنها بالوقت نفسه نطاقاً لغلق تطلعات الشعوب للحرية والعدالة والمساواة. هذه لا تنفصل عن تلك: لماذا زيادة الرغبات الحسية، بينما الحياة الكريمة وممارسة الحرية تكاد تكون معدومة؟!
الجشع هو ممارسة الإفراغ والامتلاء الجسدي في هذا السياق (3). لأن حرمان الصائم من جوانب إنسانيته- بوصفه مواطناً- يجعله أداة للأنظمة السياسية، ويلقى قهراً بجوانب حياته في السياسة والدين تبعاً لعلاقة الأعلى بالأدنى. ويغدو الجسد مشوهاً لأنه لا يلبي متطلباته الحياتية التي تزيد بوقتٍ تعاق فيه حركته سياسياً.
الحاصل هو "صوم البطن وإطعام العين" دون رحمةٍ، أي إثارة النظر إلى مداه الأخير. من يشاهد الإعلانات (فقرات الاشهار) في رمضان سيجدها ذات سمات تمثيلية تلتزم بالأداء المُنجز سلفاً. وهو أداء يشتغل على اشعال الغرائز الهامشية، أي نتيجة الجوع قد يمتلئ البطن، لكن لابد للنظر من إثارة لا تُبقي ولا تذر. إنَّ الاعلانات التليفزيونية هي جوع العيون التي تصبح بحجم المجتمعات المحرومة إنسانياً. والانفصام يكشف الهوة السحيقة بين الواقع المعيش والمأمول، تحول الواقع إلى مادة وهمية قابلة للإدمان والاجترار. على حين يكون الأفق غير متطور محصوراً على الغرائز المباشرة.
ويمثل السقوط من الجنة بخلفياته اللاهوتية هو المعنى الخفي للسقوط من الحياة العامة باسم الإشباع الحسي المباشر. من ثمَّ كانت سيطرة الأنظمة السياسية على الجسد وإلهاب طاقاته الغرائزية هو إعلان التأله المزعوم لحاكم لا يمل من تقزيم المجتمعات وإضاعة فرص الحياة الحقيقية.
ينبغي على أي فكر فلسفي ينظر للجسد أنْ يعطِّل توظيف شقي الرحى بين اللاهوت والسياسة، لا بد من قطيعة نقدية تدعم الفعل الإنساني وتؤكد تجارب الحرية بموجب ابداع الحياة السياسية والاجتماعية بثرائها المفترض إلى مالا نهاية. أي ضرورة انتاج تاريخ جديد لا يأخذ مراحله المتقدمة فقط، بل عليه أنْ يشكل صورة الماضي- رغم انقضاؤه- واعياً بمصادرها وتحولاتها غير المرئية. فالجسد هي الوثيقة الكونية التي تعكس ما كتب عليها سواء صوماً أم غيره، ومع ذلك تبقي مفاجئات التكوين والآثار أكثر إدهاشاً.
د. سامي عبد العال
..............................
(1) حيث يوجد إنسان، يوجد هناك نوع من الأغراء بالمعنى الثقافي، لأن ما يتحدث عنه الإنسان ويمارسه هو أمر قائم على رغبة الآخر قلت أو كثرت. فالكلام مجال اغراء للتحدث والوجود معاً عبر الحوارات وحتى عمليات البيع والشراء وأطر العلاقات العامة لا تتم دون حضور الآخر المغري من خلال الأوزان النوعية للأفراد في المجتمع.
(2) يوم كيپبور، يوم هاكيپبوريم أو عيد الغفران (بالعبرية יוֹם כִּפּוּר أو יוֹם הַכִּפּוּרִים)، هو اليوم العاشر من شهر (تشريه)، الشهر الأول في التقويم العبري، وهو يوم مقدس عند اليهود مخصص للصلاة والصيام فقط. ويوم كيبور هو اليوم المتمم لأيام التوبة العشرة والتي تبدأ بيومي رأس السنة، أو كما يطلق عليه بالعبرية روش هاشناه، وحسب التراث اليهودي هذا اليوم هو الفرصة الأخيرة لتغيير المصير الشخصي أو مصير العالم في السنة الآتية.
يبدأ يوم كيبور بحسب التقويم العبري في ليلة اليوم التاسع من شهر تيشريه في السنة العبرية ويستمر حتى بداية الليلة التالية. يعتبر يوم كيبور في الشريعة اليهودية يوم عطلة كاملة يحظر فيه كل ما يحظر على اليهود في أيام السبت أو الأعياد الرئيسية مثل الشغل، إشعال النار، الكتابة بقلم، تشغيل السيارات وغيرها، ولكنه توجد كذلك أعمال تحظر في يوم كيبور بشكل خاص مثل تناول الطعام والشرب، الاغتسال والاستحمام، المشي بالأحذية الجلدية، ممارسة الجنس وأعمال أخرى بهدف التمتع. وبينما تعتبر أيام السبت والأعياد الأخرى فرص للامتناع عن الكد وللتمتع إلى جانب العبادة، يعتبر يوم كيبور فرصة للعبادة والاستغفار فقط. يوم كيبور هو من المناسبات الدينية التي يتبعها اليهود غير المتدينين أيضا، خاصة في إسرائيل حيث تحترم الأغلبية الساحقة من اليهود العلمانيين الحظر على القيادة والسفر بسيارات في هذا اليوم (مع أنهم لا يلتزمون بهذا الحظر الديني في أيام السبت والأعياد الأخرى). عدم الصيام في يوم كيبور هو أحد الدلائل الرئيسية على ترك الدين تماماً أو على الانتماء إلى اليهود العلمانيين، إذ كانت هذه الوصية الدينية ذات أهمية كبيرة في نظر اليهود " التقليديين"، أي اليهود الذين يتبعون وصايا الدين جزئياً. بحسب الحسابات التي يستند التقويم العبري إليها، فإنَّ يوم كيبور قد صادف أو سوف يصادف في الأيام التالية حسب التقويم الميلادي.
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%8A%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86
(3) تثير بعض الممارسات السياسية– مثل تزوير الانتخابات وأعمال الفساد - جشعاً لدى الناس العاديين. فالفكرة هنا أن الصيام حرمان بقدر ما يعيش حياة قاحلة هو لا يستطيع خروجاً منها. وبالتالي كما كان قبول القربان من عدمه بين قابيل وهابيل هو الدافع وراء قتل الأول للأخير، فالجشع بنية مفروضة بسياسات الجسد تتجلي لدى الصائم لاحقاً. وتؤكد أمامه هذا النهم للاشتغال على نفسه بشكل محسوس شريطة ألا يقترب من انتزاع السلطة أو يتمتع حتى ببعض منها.
محمد لمعمر: ما المواطنة؟.. دومنيك شنابر وكريستيان باشولييه
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد لمعمر
"ففي الدولة يظهر المواطن مشخصا بكل مقوماته الذاتية، وله مكان فيها يبدوا وكأنه خلية في بناء هذا الجسد الكبير لا تعرف له ذاتية، فهو خيط من الخيوط الكثيرة المتلاحمة التي تكون منها هذا الجسد[...] إذا؛ كل من المواطن والدولة مكمل للآخر، فلا تكتمل حقيقة المواطنة لدى المواطن بدون دولة ولا تتشكل دولة بدون تواجد المواطنين الذين هم لبها الحقيقي". روسو: في العقد الاجتماعي، ص 85.
الومضة الأولى: استهلال
يمثل الباحثان دومنيك شنابر وكريستيان باشولييه امتدادا نوعيا للمفكرين الحقوقيين الذين عملوا على القيام بحفر جينيالوجي لمفهوم المواطنة، بحيث فككا مفهوم المواطنة، بوضعها في سياقها التاريخي، ووصلها بالفكر الديموقراطي الحديث المميز للحداثة السياسية والقانونية. فأسسا قولا حول أصول وأسس المواطنة، ومبادئ الحداثة السياسية والفردانية الديموقراطية، حيث الربط الجدلي بين التقدم الاجتماعي والاقتصادي والحقوقي والقانون وميلاد الحداثة السياسية كفكر وممارسة، حداثة معبرة عن قوة العقل، في انتشال النفوس الآدمية من عالم الاحتراب والصراع إلى عالم التعايش والمواطنة العالمية. فالدعوة إلى إرساء ثقافة المواطنة يتطلب من وجهة نظر الباحثان ديموقراطية تربوية وتعليما ناجعا وفعالا، يأخذ بعين الاعتبار مختلف الوضعيات التي يوجد عليها المواطن، وضعية يجب بالضرورة أن تكون موشومة بالوعي والإرادة والقدرة على الاختيار، في أفق تعزيز ثقافة الانتماء. فالديموقراطية والمواطنة وحقوق الانسان بمختلف اشكالها، تشكل وحدة منسجمة ومتكاملة لا تقبل التجزيء، وتلك نظيمة فكرهما وأنسوجة نظرهما، حيث الرؤية العميقة في الطرح والمعالجة، والميل إلى التريث وعدم التسرع في إصدار الأحكام وتوزيع الفهومات، منبهان، إلى أن المواطنة ليس مجرد أحلام طوباوية من فعل المخيلة، ولكنها ممارسة واقعية معها يتبدى الفعل والسلوك والتصرف وحيازة الحقوق في العالم المعيش، كالحق في التنقل والتعبير الحر عن الرأي، بدون قمع أو تعذيب أو تعنيف أو اعتقال. تعزز ذلك بالحقوق الذاتية كالحق في السكن، والحق في السعادة.
إن الباحثان يتقمصان دور الرائي الذي يستشرف مسار وصيرورة المواطنة من الاغريق إلى الأزمنة الحديثة، مؤكدان على أن المواطنة رغم تأسيسها على مبادئ الديموقراطية، إلا أنها سهلة الانعطاب بسبب غباء نظام سياسي، وظلم استبداد حاكم. معنى ذلك؛ أن المواطنة معرضة لعدة شوائب، وأمامها غياهب وغياهم ومهامه، تمس جذورها نتيجة أفعال لا إنسانية، كالعنصرية والعنف، لذلك، فالمواطنة لا تتأسس على فكر ماضوي مضى، ولا على الخيالي والطوباوي، وإنما على فكر واقعي، مؤسس على صخور صلبة، وليس على رمال هشة ومتحركة، مع ضرورة تجذير ثقافة المواطنة في المقررات التعلمية وصياغة القوانين الصارمة، والتعاقدات المعقولة، الخالية من الميولات الإيديولوجية النفعية.
وكأني بالباحثان يلهجان بضرورة إرساء دعائم ثقافة ديموقراطية حقانية تؤمن بالتعددية السياسية، وتحفظ الكرامة الإنسانية، وتنهل من فكر التسامح الأسس والمبادئ. وتحقيق ذلك، يتطلب الجمع بين تربية واعية وسلطة حاكمة وعادلة، وقوانين تحقق المساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص. وعليه، فصاحبا الكتاب- قيد الدراسة- أسسا رؤيتهما بالانفتاح على روافد معرفية متعددة، كالانفتاح على علم السياسية والفكر الفلسفي النقدي خاصة مع الماركسية، والمقاربة الاجتماعية خاصة مع اميل دوركايم، لفهم عمق ثنائية الأفراد والمجتمع. بهدف تعميق النظر حول المواطنة كمفهوم مركزي في أطروحتهما مستحضران المفاهيم المجاورة والضرورية كالسياسة، والحقوق، والدولة، والديموقراطية، والمجتمع، والأفراد، والأمة، والتعددية الثقافية.
فما أحوجنا نحن العرب والمسلمين إلى أطروحة الكتاب حول مفهوم المواطنة، خصوصا في زمن التوترات السياسية، وبروز الطائفية والعشائرية خاصة في العراق ولبنان واليمن، والاعتقالات اللاقانونية لرجال الصحافة، وتلفيق التهم المجانية والتشهير بمن يخالف السلطوية سياستها، فمن الواجب إعادة النظر في مفهوم المواطنة. ولا عيب في ذلك، مادام الحديث عنها يدخل في باب المتاح للبشرية بلغة عبد الله العروي، ولأننا لسنا بدعا من الأمم والشعوب والحضارات، فمن حق العقل العربي أن يؤسس قولا حول المواطنة يتماشى والهوية والتاريخ والواقع، شريطة عدم الانغلاق على مفهوم الهوية، وفي نفس الوقت يكون منفتحا على الكوني والعالمي، لخلق منظومة فكرية عربية، لترسيخ ماهية الحقوق وكينونة المواطنة. نحتاج إلى التفكير الحقوقي الجماعي في أسس وشروط ومقومات المواطنة المغربية في ظل أزمة كوفيد 19، حيث صار الحق في الحياة مقدم وبقوة على جميع الحقوق، ففهم المواطنة لحظة تاريخية للوقوف على أعطابنا وأمراضنا الاجتماعية والسياسية والحقوقية والقانونية، والوعي العميق بعلاقة الدولة بالمواطن، والمواطنة بالتراث، والعلمانية بالمواطنة، والمواطنة وجدل الدين والدولة، الدين والسياسة.
الومضة الثانية: ماذا عن الكتاب؟
إن الناظر الممعن في كتاب ما المواطنة؟ يلف نفسه أمام كنز سياسي وحقوقي من 365 صفحة مقسم إلى أربعة فصول كبرى، خصص الفصل الأول للحديث عن الحداثة السياسية في الزمن الحديث وعلاقتها بالمواطنة، والفصل الثاني تطرق لأهم الانتقادات التي وجهت للثورة الفرنسية والفكر الثوري المتطلع لبناء المواطنة على مبدأ سيادة الفرد واستقلاله فكرا وعملا، على حساب المجتمع. بينما الفصل الثالث عالج مسألة المؤسسات الضامنة للمواطنة، وقضية الدولة الحامية ومسألة الشرعية السياسية وأصل السلطات. والفصل الرابع تم فيه النظر لمسألة الفردانية الديموقراطية. وكيف أن تضخم الحقوق الفردانية، يؤدي إلى إعادة ترتيب دور المؤسسات وتفكك الروابط الاجتماعية. وأخيرا الفصل الخامس الذي اثار قضية المواطنة في علاقتها بالأمة والحقوق الثقافية للفرد والجماعة. لهذه المعطيات يمكن القول إن الباحثان حاولا معالجة القضايا الآنية:
- في الأزمنة الحديثة صارت الأمة هي مصدر السلطات، ومعها تجذرت المواطنة فكرا وحقوقا وحريات. فمبدأ الشرعية السياسية مستمد من الأمة عن طريق الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية، بهدف ترسيخ مواطنة على أسس قانونية وعقلية وتعاقدية، بعيدا عن شوائب الطائفية والعشائرية.
- المواطنة الحديثة تتأسس على ضرورة حياد الدولة تجاه الطوائف والمعتقدات الدينية، فالمواطنة تنبني على مبادئ لا دينية ولا عرقية. خصوصا وأن المواطنة أنواع متعددة، فهناك المواطنة الإنجليزية التي تختلف عن المواطنة الفرنسية، اختلاف الديموقراطية التعددية عن الديموقراطية الأحادية، واختلاف الشروط والظروف الاجتماعية والتاريخية ومكانة التراث الموروث، وعلاقة الفرد بالمجتمع.
- جذور المواطنة فلسفي حيث النقاش حول أصل الحقوق، طبيعية أم تعاقدية، بموجب ذلك صارت المواطنة حقوق وواجبات وانفتاح المواطنين على بعضهم البعض، لذلك، يتم الحذر الشديد من الفردانية المتطرفة التي هي بنت الثورة الفرنسية.
- المواطنة تتجلى في الديموقراطية التمثيلية والمؤسسات السياسية والاجتماعية، والحقوق الثقافية، ووجود الدولة الحامية، والقوانين العادلة الضامنة لحق كل مواطن في التصويت والاختيار الحر. مع ضرورة الفصل التام بين السلط، تبعا لنظرية مونتسكيو.
لا شك أن المقاربة المنهجية ضرورية لفهم المحتوى الفكري والمضمون المعرفي لأي عمل، والكشف عن المسالك المنطقية التي طبقت في الكتاب وعبر مختلف الفصول، ومن يقرأ الكتاب بوعي وتبصر، يجد نفسه أمام كتابة شديدة الاتساق، عظيمة التنسيق، تفكيكها يتطلب التوسل برؤية معينة للكشف عن المعاني والدلالات الثاوية خلف الألفاظ، حيث يظهر الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي والشواهد التاريخية الكثيرة من الإغريق إلى العصور الحديثة، لتدعيم الرؤية وتقوية التصور، ولا شك في ذلك، لأن قضية المواطنة مشوبة بشوائب التبدل والتغير، توسيما واعتبارا واستشكالا. لذلك، فتفكيك المواطنة يتطلب التوسل بمقاربات فلسفية واجتماعية وسياسية، ولا نبتذل القول هنا، إن قلنا إن الباحثان نهلا من العلوم الرياضية بعض القواعد وعملا على تطبيقها تصريحا وتلميحان مثل الاستنباط الفرضي، الذي يتجلى في الانتقال من العام إلى الخاص، فهما يفككان المواطنة بشكل تدريجي ليصلا إلى إثبات فكرة تتجلى في ضرورة وجود ديموقراطية سياسية ودولة حامية وثقافة قانونية رصينة. وعليه، فالرؤية المنهجية يمكن تقسيمها إلى عدة ابعاد:
1-البعد الفلسفي- الاجتماعي، يتمثل في الحضور المكثف لمجموعة من المفاهيم الفلسفية والاجتماعية، كالحرية والحداثة والمجتمع والدولة والأفراد والمواطن... في أفق فك الاشتباك بينها.
2-البعد النقدي: (الهدم والتقويض)، يتبدى ذلك في عرضهما للنقد الماركسي حول الدولة البرجوازية، المستغلة للدولة والعمال، وعلاقة ذلك بنشوء المواطنة البرجوازية حيث التمييز بين من يملك ومن لا يملك، وعدم إحداث تماهي بين العامل والمواطن. فماهي انعكاسات الحداثة السياسية على مفهوم المواطنة في الأزمنة الحديثة؟ وما هي أسس ومبادئ الشرعية السياسية والمواطنة؟ وما مصدر السلطات؟ الملك كذات مستقلة أم سلطة لاهوتية أم مجموع المواطنين؟ وإذا كانت المواطنة تتحدد بثنائية الحق والواجب، فماهية ضمانة حيازة المواطنين لحقوقهم؟ وما الروابط بين المواطنة والدولة والديموقراطية والأفراد والمجتمع؟ وهل المواطنة كفيلة بتحقيق التوازن بين متطلبات الذات المستقلة ومطلب الاندماج في المجتمع احترام الفضاء العام؟ وماهي انعكاسات الفردانية الديموقراطية على المؤسسات التقليدية والقوانين العامة والحقوق الثقافية؟
فخذ بنا إلى المضامين الفكرية والمحتويات المعرفية.
المحور الأول: الحداثة السياسية، والأراضي البكر للمواطنة
يتحدث الفصل الأول عن الحداثة السياسية التي هي سمة الأزمنة الحديثة، بعبارة هيغل، حداثة تجلت في التغيرات السياسية والاجتماعية والحقوقية، التي رافقت الثورة الأمريكية حيث ميلاد الديموقراطية التمثيلية، والثورة الفرنسية التي أحدثت تغييرا بموجبه تم التمييز بين العصر القديم والحديث، رغم استمرارية حضور القديم في الحديث، فنشأة الحداثة أفضت إلى تشكل مجتمع جديد، سمته، المواطن والمواطنة. هذه الاخيرة صارت هي أساس ومناط الشرعية السياسية، تنظيرا وعملا، تبدى ذلك في المادة الثالثة من إعلان حقوق الانسان، حيث الأمة هي مصدر كل سلطة [1]. ففي في السابق خاصة في العصور الوسطى كانت السلطة تستمد من شخص الملك، كذات مطلقة في مقابل الشعب أو الجمهور الذي هو عبارة عن موضوع، هذا المنطق تبدل وتغير ببزوغ الفجر الرائع لشمس الحداثة السياسية.
صارت الأمة هي مصدر السلطة، والاعلان العالمي لحقوق الانسان، ما هو إلا شعارات لترسيخ مبدأ سيادة الشعب، وأنه مصدر السلطات، حيث أصبح بالإمكان أن يعبر الشعب عن حريته وحقوقه، ويحتج على الظلم الذي يتعرض له، ويصوغ العرائض للمطالبة بحقه، فالحداثة السياسية إعلان عن ميلاد جديد لجملة من المفاهيم السياسية، كالمواطن والمواطنة، والشعب، وتجذير الدور المركزي للشعب باعتباره أصل ومنبع السلطة، رغم ميل بعض الأنظمة إلى المحافظة عن سلطتها التقليدية، وجعل الممارسة السياسية للسلطة من صميم عمل الحكومة. (لا يوجد دستور وإنما حكومة... فكل سلطة مصدرها الأمة... وكل السلطات مصدرها الشعب) [2].
إن الحداثة السياسية أدت الى إعادة النظر في طبيعة الحياة السياسية، فأساس الشرعية ليس الملك أو سلطة متعالية بعيدة عن الانسان، وانما أساسها الفرد، الأمر الذي افضى إلى نقاشات سياسية حادة وعميقة حول أصل السلطة. هل مصدرها الفرد المستقل أم الملك كمصدر تقليدي لكل سلطة أم أن مصدرها مجموع الأفراد؟ وما مكانة مفهوم المواطنة من كل تلك التغيرات؟
يؤكد الباحثان أنه رغم ظهور مفهوم المواطن كفاعل سياسي واجتماعي مشارك في إدارة الشأن العام، الا أن ميراث الملكية لم يختفي من الحياة السياسية، خصوصا في ظل إعادة تأسيس الهيئات السياسية عام 1789، وجعلها مستقلة في عملها، وترسيخ عملها عن طريق منهج سياسي محكم وممنهج، معنى ذلك أن العالم السياسي الجديد جعل الملوك في أوروبا خاصة في فرنسا، يعيدون ترتيب علاقة الإداري بالسياسي عن طريق تدعيم فكرة استقلالية الهيئة السياسية، بعيدا عن شخص الملك، بما في ذلك ضرب عرض الحائط امتيازات كبار الاقطاعيين و وسطوة الكنيسة[3]. وما ساعد على ذلك تأسيس رجال القانون لهيئتي الملك، وهي هيئة مستوحاة من التركيبة الوجودية للسيد المسيح، وبموجبها يقال بحق الملوك الإلهي، هذه التصورات خضعت لنقاش عميق وتم تجاوزها، بناء على شعار: مات الملك، يحيا الملك، غير أن الملك أقر استمرارية تلك الهيئة، وفي هذه الحالة فمصدر السلطة هو الملك، تصورات لم تعد مؤثرة في زمن الثورات والحداثة السياسية، التي أدت إلى تغيرات جذرية على مستوى الفهم والممارسة، وإعادة توطين مفهومي المواطن والمواطنة، وفق أسس سياسية جديدة.
الأمة/ الشعب/ مجموع المواطنين هي مصدر السلطة، ذلك هو شعار الحداثة السياسية وما ترتب عنه من ممارسات سياسية كتجاوز المصالح الخاصة، بحيث لم يعد المواطنين مجرد أفراد ملموسين متسمين بأصولهم التاريخية ومعتقداتهم الدينية وانتماءاتهم الاجتماعية، والتي تحدث التمايز والتفاضل في بعض الأحيان، وإنما أصبحوا مواطنين متساوين في المواطنة. هذه الأخيرة هي المبدأ الذي ينصهر فيه الكل، إنها المساواة المدنية والقانونية والسياسية، فالمواطن ليس ذات منغلقة ومتمركزة على ذاتها، وإنما ذات منفتحة داخل في علاقات تواصل مع الأخرين. انتماءه لفضاء اجتماعي ليس على أساس العرق أو الدين أو التاريخ وإنما المواطنة [4]. فالمواطن له خصائصه وخصوصيته التي تميزه، لكنه أيضا مندمج في المجتمع، غايته تكوين مجتمع المواطنين، في أفق بناء حياة سياسية واجتماعية وحقوقية مشتركة.
المواطنة الحديثة مرتبطة بالنظام الاجتماعي الجديد، الذي هو الأخر انعكاس للنظام السياسي، والمحدد سياسيا بمجموع المواطنين الذين يكونونه، معنى ذلك، أن ثنائية الخاص/ حياة المواطن الخاصة، والعام/ المجتمع، صارت الميسم البارز للحداثة السياسية وللمواطنة كفعل جماعي، وكل حديث عن المواطن في ثوبه السياسي والحقوقي يقتضي بالضرورة الحديث عن ثنائية الخاص والعام، علما أن الخاص يشير إلى حرية الأفراد في حالة اختلاف، بينما العام فهو التساوي في حقوق المواطنين [5]. بدون تفضيل أو تمييز، فجميع المصالح كانت تابعة للمصالح الخاصة، وفي ذلك انغماس في ذاتية الانسان، واعتبار الذاتية أساس الحق والفعل والحركة وبموجبه، نال بعض المواطنين حقوقهم بوصفهم مواطنين وحرمت البقية من ذلك، لكون بعض ليسوا مواطني المواطنة التامة، لأن المواطنة محددة بالمواطنين النشطاء، وعلى الجميع أن يبذل جهدا عقليا واجتماعيا للوصول إلى المواطنة وحيازتها حقيقة لا وهما [6]. فماذا عن الشخص الغير القادر على الوصول إلى درجة المواطنين النشطاء؟ هل تسلب منه المواطنة؟ وما علاقة ذلك بالشرعية السياسية؟
1- المواطنة والشرعية السياسية
إن مبدأ الشرعية السياسية مستمد من الامة ومن الشعب ومجموع المواطنين النشطاء، وهو مبدأ رسخ ضرورة الفصل بين الكنيسة/الدين والسلطة السياسية، أو ما يمكن الاصطلاح عليه بالفصل بين السلطتين الروحية ممثلة في الكنيسة، والزمنية المتجلية في الدولة، فصل تم نتيجة قيام البشر بتأسيس وتنظيم أنفسهم كسلطة سياسية، وصاروا مصدر السلطة لا الكنيسة[7]، علما أن مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة ليس جديدا هنا، فقد سبق لجون لوك أن قال بذلك داعيا إلى جعل الدولة محايدة بغاية ترسيخ ثقافة التسامح حيال جميع الأديان والمعتقدات، والخروج من عالم الاحتراب والتقاتل حول من يملك الحقيقة الدينية والدخول إلى عالم الاحترام والتسامح واستضافة الأخر في الوجود. فالمواطنة تقتضي توطيد دعائم ثقافة التسامح والحوار والايمان بالاختلاف، وفصل الكنيسة/ الدين عن الدولة، والاحتكام إلى العقل لا على المعتقدات الدينية التي تؤدي على الاحتراب، وادعاء حيازة الحقيقة والفهم الصحيح لقضايا الدين.
أساس المواطنة الحديثة يجد نقطة ارتكازه في حياد الدولة تجاه جميع الطوائف والمعتقدات الدينية، بغية خلق عالم التسامح، وعليه فمبدأ فصل الكنيسة/ الدين عن الدولة، يعني في الصميم حديث عن ثنائية الديني والسياسي، ثنائية تشي بوجود واقع مريب موشوم بتداخل الديني والسياسي في أفق إعادة تنظيم الحقل الديني بتنظيم الكنائس/ الدين، وتحديد أدوراها الدينية والدعوية والأخلاقية وإبعادها عن السياسية، هذه الأمور ضرورية (لإدارة المجتمع الديموقراطي) [8]. ولا شك أن الحداثة السياسية لعبت دورا كبيرا في التأسيس لمواطنة حديثة، لأنها خطاب فكري عقلاني غايته الفصل بين النظامين الديني والسياسي. لكن، هل يستطيع الأفراد الذين لا يتأطرون ضمن دين واحد أو أكثر، الاجتماع وتنظيم وجودهم السياسي والاجتماعي والحقوقي بناء على أسس أخرى غير الدين؟ علما أن الدين في جوهره وسيلة لخلق روابط عقدية وأخلاقية تمتد إلى ما هو اجتماعي؟ بمعنى أخر أكثر وضوحا، هل يمكن قيام المواطنة على أسس لا دينية ولا لاهوتية؟
إن التساؤلات السابقة مرتبطة بالإقرار بسيادة المواطن، ومدى قدرة الأفراد على تحقيق المواءمة بين الاستقلال الذاتي للفرد والفروض والالتزامات الجماعية، خصوصا في ظل الضغوط الجديدة الملتصقة بالمجتمع الحديث، حيث كانت المناداة بتحرر الفرد. وهناك توجه ثان يرى بضرورة تقوية الجبهة الاجتماعية والجمعية لمواجهة المخاطر الناتجة عن ازدهار استقلالية الفرد لتدعيم الأعراف الاجتماعية وتماسك المجتمع [9]. نقاش سياسي عميق تم داخل المجالس الثورية ووفق حلقات (حيث تمحورت الأولى حول حقوق الانسان والمواطن أو بعبارة أخرى حول الحقوق الطبيعية والسياسية، والثانية الحقوق والواجبات. أما الثالثة، فدارت حول تنظيم المؤسسات السياسية والتمثيل) [10].
الاقتصار على القول باستقلالية الفرد، لإنشاء قول حول المواطنة، معناه، الانتصار للحقوق الطبيعية السابقة عن الوجود الاجتماعي المنظم بالقوانين، وذلك هو موقف أنصار الحق الطبيعي كجون لوك، وبالنسبة لهم الطبيعي يسبق المدني إلى درجة القول بأن حقوق المواطن تستنبط من حقوق الانسان باعتباره بشرا. وعلى الضد من ذلك يرى أنصار الحق المدني أن الحقوق الطبيعية هي النتيجة المترتبة منطقيا على الحقوق المدنية [11]. فالمسألة هنا، دائرة حول التأسيس والأسبقية، هل الطبيعي سابق عن المدني ويجب التأسيس عليه أم العكس؟ والملاحظ، أن مفهوم المواطنة أفضى إلى الحديث عن مفهوم المواطن الذي هو بالضرورة ذات طبيعية يجب التفكير فيها أولا، وذلك بمعرفة حقوقها الطبيعية التي كانت تتمتع بها قبل بزوغ فجر المجتمع المدني المنظم.
بناء على ما سبق يمكن القول، أن فكرة المواطنة لها جذور فلسفية وسياسية، تمت في إطار نقاش عقلاني حول أصل الحقوق الإنسانية، هنا يرى روسو أن حقوق المواطن هي التي تؤسس حقوق الانسان، بمعنى أن تحديد المواطن كذات طبيعية مندمج داخل المجتمع يؤدي إلى تشكل الحقوق، لأن الانسان لا وجود و لا قيمة له كإنسان، خارج المجتمع، فهذا الأخير هو الذي يمنح للمواطن حقوقه، ويحدد وضعيته السياسية والاجتماعية، عكس انصار القانون الطبيعي، فبتأكيدهم على الأسبقية الانطولوجية للإنسان، على المواطن، يرسخون مبدأ حرية الفرد وأسبقيته على المدني والاجتماعي[12]. بحيث تتقدم المبادئ على التنظيم الاجتماعي للسلطات عكس التيار الذي يقول بالحقوق المدنية والانتصار لفكرة التنظيمات الاجتماعية، وفكرة أن لا حرية بدون قانون يؤطرها. هنا تبرز لدينا مشكلة أخرى، متمثلة في القوانين في حد ذاتها. خاصة القوانين النازية مثلا التي تتنافى مع حقوق الانسان؟ بمعنى أخر، هل كل القوانين يمكن الاستناد عليها لإنشاء فكر سياسي وحقوقي؟ وأيضا ماذا عن اللاجئين والمقيمين بطريقة غير شرعية؟ كيف يتم التعامل معهم؟ هل بناء على مفهوم حقوق الانسان باعتبارهم ذوات إنسانية أم يتم نفيهم وتهميشهم؟ وهل إعلان حقوق الانسان، هو إعلان حول الانسان كإنسان أم إعلان خاص بإنسان معين ومحدد في الزمان والمكان؟
إن السير في اتجاه تحديد حقوق إنسانية محددة لمواطنة يتطلب الايمان بقدرة العقل على صياغة المبادئ التي تحدد الحقوق والواجبات، فلا معنى للحق في غياب الواجب، خصوصا في ظل الدولة المدنية الحديثة، (فكل ما هو حقي، هو أيضا حق للآخر، بحيث لا يمكنني المطالبة لصالحي بما لا يمكنني منحه للآخرين) [13]. إن الواجبات تظهر بشكل تلقائي عند الحديث عن حقوق الانسان، خصوصا وأن مفهوم المواطنة يحيل على انفتاح الفرد على محيطه الاجتماعي، حيث العلاقات المتبادلة مع المواطنين والآخرين. والتي تقتضي بالضرورة معرفة مجال وحدود وكيفية التصرف والانضباط لما هو قانوني، فواجبات كل مواطن مرتبطة بواجبات الآخرين، لذا، يجب توثيق الروابط الاجتماعية، كي لا تتسل الفردانية المتطرفة والمدمرة، مع ترسيخ فكرة أن قيمة المواطن لا تتحدد بمعرفته ونيله لحقوقه، وإنما بإدراكه لواجباته تجاه مجتمعه. وهذا ما أكده دستور 1839 الإنجليزي، حيث التأكيد على ضرورة تكاتف الجهود بين أعضاء المجتمع، ويجب على هذا الأخير أن يزود المواطنين بالحاجيات الضرورية، وفي ذلك تأكيد على أهمية الحقوق الاجتماعية الناشئة عن مبادئ الحداثة السياسية [14]. وعليه، فأسس المواطنة الحقيقية، حتمية الوعي بثنائية الحق والواجب، وتزويد المواطنين بالوسائل الضرورية كالتعليم والحماية والعمل، على اعتبار الحماية الاجتماعية قضية مهمة، تفترض من حيث المبدأ وجود مؤسسات، لجعل المواطن يمارس سيادته، فبدون المؤسسات يبقى المواطن مجرد فرد صوري مجرد. وهنا تظهر المؤسسات التي تنقل الانسان من وضع الفرد الصوري المنغلق على كينونته إلى وضع المواطن، ومن ثمة ضرورة التساؤل عن كيفية تنظيم عملية الانتقال من الفرد-المواطن إلى تنظيم المؤسسات السياسية؟ فما ألية الانتقال؟
2- القارات الثلاث للحداثة السياسية: المواطن والديموقراطية والمؤسسات السياسية
إن الديموقراطية كنظام سياسي واجتماعي ليست وليدة اليوم وإنما قديمة قدم النظر الإنساني في قضايا الوجود الاجتماعي، غير أنها ديموقراطية مباشرة، متسمة بغياب فكرة توكيل الغير، لأن المواطن كان يعبر ويمارس حقوقه بشكل مباشر، قد يكون هو الحاكم والمحكوم في نفس الآن، بحيث يحدد طبيعة ونوعية العقاب الذي يجب إنزاله على الآخرين [15]. بل حتى اعلان حقوق الانسان أحدث نوعا من التوازي بين الديموقراطية التمثيلية والنسق السياسي داخل المجتمع. (وأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة. لكل المواطنين الحق في أن يساهموا بشخوصهم أو بمن يمثلونه في صياغته) [16]. فالغاية من الديموقراطية التمثيلية تحقيق الانسجام والتوازي بين الحقوق والواجبات داخل المجتمع، شريطة أن تكون القوانين واحدة وتسري على الجميع حماية وعقابا. هذا الانتقال من وضع الفرد- المواطن إلى وضع المؤسسات السياسية، تطلب جملة من التحولات السياسية والاجتماعية، والقانونية بالخصوص، لأن المؤسسة هي التي تسهر على تطبيق القانون وضمان سريانه لتوزيع الحقوق بشكل عادل ومتساو. وتلك هي سمات الحداثة السياسية التي ابتكرت فكرة التفويض والتمثيل، وأصبحت الجمهورية بموجبها نظاما سياسيا.
الديموقراطيون ابتكروا المؤسسات السياسية الضامنة لحق التمثيل كالانتخابات والبرلمان، فأصبح هناك من يمثل المواطنين مؤسساتيا، ولم يعد من المنطقي أن يأخذ الفرد حقه بيده، وإنما عن طريق من فوض له فعل ذلك مؤسساتيا وقانونيا. فالتفويض ألية ديموقراطية تمثيلية تقتضي من الفاعل السياسي عدم الانفصال عن الشعب، وضرورة البقاء على مقربة من الناخبين [17]. من أجل النقاش حول الصالح العام، هذا النقاش الشعبي هو الذي نقل الأمريكيون خلال عشر سنوات من الديموقراطية المباشرة التي مارسها الإغريق إلى الديموقراطية التمثيلية، وهو في الحقيقة انتقال من فكر العصور القديمة إلى عالم الحداثة السياسية التي هي بنت الأزمنة الحديثة. عكس فرنسا حيث وجدت صعوبات في عملية الانتقال من سيادة الفرد الذي اعتبر منبع الشرعية السياسية إلى تنظيم المؤسسات السياسية التمثيلية [18].
إن الديموقراطية التمثيلية، ألية سياسية لمأسسة العمل السياسي وعقلنته، رغم الصعوبات التي تعترضها والمتمثلة في عدم استيعاب بعض الثوار للتمييز الحاصل بين الحكومة والمجتمع، تمييز يشكل لبنة أساسية للنظام الديموقراطي الموجب للمواطنة الجماعية، فقد صارت السيادة للشعب وتلك هي قمة المواطنة. بمعنى أن الديموقراطية التمثيلية التي كانت في السابق مجرد فكرة فلسفية تمظهرت حديثا في الإرادة العامة لدى روسو. فقد كان هناك خلط واضح بين عمل الحكومة والمجالس النيابية المنتخبة مباشرة من الشعب، والتي أدت إلى شخصنة السلطة. لكن، دوام الحال من المحال، فقد تبدل ذلك الوضع السياسي وصارت الطاعة والولاء للقوانين، وعدم الانصياع لشخص بعينه. فحوى ذلك، إن ترسيخ المواطنة الحقة يتطلب وجود سلطة تستمد شرعيتها من الشعب كمواطنين قادرين على اختيار من يمثلهم في المجالس النيابية، ووجود قوانين من الواجب على الجميع الالتزام بها، فكل الأنظمة السياسية بما في ذلك الليبرالية عندما تشخصن السلطة تصبح هشة ومعرضة للزوال، وقد عصفت بأكثرها الثورات بسهولة وخير مثال على ذلك الملكية في فرنسا. فالنظام التمثيلي الحقيقي هو الكفيل بتوطيد دعائم المجتمع المؤسساتي في أفق ترسيخ المواطنة، فكرا وممارسة، وفي ذلك تجاوز للمجتمعات القائمة على الحكم الذاتي الفردي، حيث الملك أو من يمثله هو المصدر الوحيد للسلطة [19].
الحداثة السياسية المتجلية في الديموقراطية التمثيلية أحدثت توازنا بين إرادة المواطنين في الاختيار والمطالبة بالحقوق، وبين (ضرورة تنظيم المؤسسات السياسية لإدارة المجتمعات المعقدة) [20]. فالمواطنة الحقة هي سمة المجتمع السياسي الحديث، حيث المساواة وتمثيل الشعب بجميع طوائفه وفئاته، مادامت الديموقراطية التمثيلية هي أداة جعل المؤسسات السياسية مرآة المجتمع الحديث، وهنا نتساءل: هل الديموقراطية التمثيلية نظام سياسي واقعي تبدى في المجتمعات الحديثة أم أنه مجرد فكر سياسي صوري وطوباوي؟ وما علاقة الديموقراطية التمثيلية بمفهومي المواطن والمواطنة؟
3- المواطنة والديموقراطية التمثيلية
إن المواطنة مرتبطة بوجود نظام سياسي معين، موشوم بالديموقراطية التمثيلية حيث يصير الشعب هو مصدر السلطات والفصل والتوازن بينها، وفق تصور مونتسكيو ووجود الإرادة العامة من خلال انصهار الفرد والمجتمع. وهنا يمكن أن نستحضر نموذجين للمواطن: المواطن على الطريقة الإنجليزية، والمواطن وفق الطريقة الفرنسية.
الطريقة الإنجليزية تنبني على فكرة التعددية السياسية وفتح المجال للأنظمة والهيئات والطبقات والجماعات الخاصة لمواجهة النزعة الأحادية التي تعلي من شأن المواطن الفرد والمفروضة بالعنف في فرنسا. فالديموقراطية الليبرالية أشكال وأنواع والمواطنة أحد مياسمها، التي تعكس خصائصها الجوهري التي تميزها [21]. النموذج الإنجليزي يتأسس على ضرورة احترام تنوع الانتماءات والارتباطات الخاصة، التي نص عليها الميثاق الأعظم سنة 1215 حيث الحرص على مراقبة عمل الملك نفسه من قبل وفد من البارونات لمعرفة مدى التزامه بالتعهدات [22]. وفي ذلك تأكيد على أهمية الرقابة الشعبية/ المواطنة بمعنى أوضح، أن الملك ليس له صلاحية مطلقة، وإنما مراقب من طرف البارونات، الذين يفرضون شروطا على الملك، والتي تعد إعلانا عن نهاية الاستبداد الملكي، وترجيح كفة البرلمان. فسيادة الملك صارت مؤطرة ومحدودة بحقوق البرلمان، وهي ممارسة سياسية سمحت بإجراء إصلاحات سياسية ودستورية كبرى، حيث إقامة المؤسسات الديموقراطية السياسية والتمثيلية، لزيادة ترسيخ المواطنة، ودعم تماسك النسيج الاجتماعي [23].
يعتبر الباحثان أن المواطنة تقتضي دمقرطة النظام البرلماني بالتدريج، ومنح حق التصويت لفئات جديدة وبمراقبة الشعب، حيث انتقلت السلطة من الهيئات التي توارثها الملك ومجلس اللوردات إلى مجلس عموم المواطنين، فتحول البرلمان وفق الديموقراطية التمثيلية إلى مكان لتأسيس الحريات وقيم المواطنة الحقة والتعبير عنها قانونيا، بدون اللجوء إلى الثورة، وهي المبادئ والمتغيرات التي استحسنها العقل السياسي الأوروبي الحديث القائم على فكرة الضوابط والتوازنات والمكابح، خاصة في بريطانيا، توازن بين سلطة الملك وسلطة البرلمان، بين الملك والشعب، وهو ما سماه دفيد هيوم بالميزان العادل بين جزأي الدستور الملكي والجمهوري[24].
وما يميز التجربة السياسية الإنجليزية في علاقتها بمفهوم المواطنة، سيادة القانون العام ووجود محاكم العدالة العليا وتكييف القانون ليتماشى مع الحالات الخاصة والاستثنائية لمسايرة الوقائع الاجتماعية والسياسية الطارئة، والتي تقتضي رؤية قانونية جديدة، وهو ما يفسر توجس رجال القانون من القواعد القانونية المستمدة من القانون الروماني العام والمجرد، وتلك ميزة الديموقراطية التمثيلية الانجليزية حيث ابتكار سلطات ناشئة ومضادة للقوى السياسية الرسمية والمؤسساتية لخلق التوازنات، وكبح جماح السلطات التقليدية كي لا تتحول إلى تعسف وشطط، وهو ما اوجب ضرورة احترام تنوع الانتماءات والارتباطات الخاصة، وترسيخ ثقافة المواطنة في جميع الفضاءات الاجتماعية والتربوية، علما أن للإنسان ميول سياسية تبدأ من الأسرة، لأن للروابط العائلية دور في توطيد العمل وحب الوطن وغرس قيم ومبادئ المواطنة لدى الناشئة، ومن الأسرة إلى الجيران إلى العلاقات الاجتماعية الشخصية الممتدة في المكان[25].
فالنموذج الإنجليزي يجد أساسه في فكر جون لوك ومونتسكيو، حيث تتبدى الحداثة السياسية الموجبة لضرورة حياد الدولة الديني، وأن مبدأ التسامح تجاه العقائد هو الذي يسمح بالتعايش بين مختلف الأديان والمعتقدات. ويضفي على الروابط الاجتماعية شيئا من التماسك. لذلك، تم اضفاء الشرعية على تعدد العقائد وبالنسبة لمونتسكيو المعجب بالتقليد الإنجليزي، يرى أن دستور الانجليز يضمن حرية البشر، ليس لكونهم قادرون على فعل ما يرغبون، ولكن، لأن لهم حق عمل كل ما تسمح به القوانين [26].
بينما النموذج الفرنسي يتسم بسيادة المواطن كفرد ظهر في المجال السياسي عن طريق الثورات التي تحولت إلى عنف. سيادة المواطن المستقل المستلهم من روح فكر روسو، حيث اعتبار التبعية للبشر مصدر لعدم تحقق المساواة وأن وجود أية هيئة وسطى بين الفرد والدولة، يفضي إلى التعسف وعدم جعل الفرد يستمتع بحريته، فالمواطن هو التعبير المباشر عن الإرادة العامة، بمعنى أنه حر ومستقل ومتحرر من الروابط والوسائط التي تجعله خاضعا للدولة، عكس بريطانيا. لذا، فالنموذج الفرنسي يعبر عن الديموقراطية الأحادية المناهضة للتعددية، فمصلحة المواطن لا تتماهى مع المصلحة العامة، وأن هذه الأخيرة ليست نتاج مصالح جميع الأفراد الحقيقيين، الأمر الذي ينعكس على مفهوم المواطنة [27]. (التي هي كيان غير قابل للتقسيم، يجب تنظيمها وضمانها بواسطة دولة مركزية تعبر عن الإرادة العامة التي توجد المجتمع) [28].
وعليه، فالمواطنة، ليست مجرد تصورات طوباوية لا تبرح مملكة الذهن، وإنما هي ممارسة واقعية، مرتبطة بتجربة سياسية لمجتمع ما، تتجلى المواطنة في الحرية التي هي احترام القوانين المفضية لاحترام الأشخاص، وضمانة ذلك، ضرورة الفصل بين السلط والحرص على توزيعها بشكل عادل، وعدم فعل ذلك، معناه، ظهور التعسف والاستقلال والمغالاة أو الشطط في استعمال السلطة. وكل سلطة يجب أن تتوفر على الأليات والوسائل القانونية الضرورية لعملها ومجال اشتغالها، فمثلا، يجب أن تكون السلطة القضائية مستقلة تماما عن باقي السلط، وأن التوازن بين السلط يتفق مع الروح العامة لأمة ما، وتلك هي نظرية توازن السلط والتعددية المنظمة. بحيث لم يعد العنف كقوة فيزيائية إلى جانب معطيات طبيعية أخرى هما أساس السلطة الشرعية، وإنما عن طريق الاتفاق كميثاق اجتماعي [29]. لكن، هل تم قبول هذه التصورات بشكل مطلق من طرف الفكر الثوري أم أن هناك انتقادات؟
المحور الثاني: المواطنة، وجدل الفرد والمجتمع والدولة الحامية
عالجا الباحثان في الفصل الثاني مسألة الانتقادات، التي رافقت اعلان سيادة المواطن، والتي طرحت مشكلات على مستوى تنظيم السلطات، فالقول بأن الأمة هي مصدر السلطة، معناه، أن الشرعية السياسية الحديثة عملت على زحزحة وخلخلت جميع التصورات التاريخية والدينية والاجتماعية التي كانت سمة المواطن الفرد، لأن المجتمع القائم على المواطنة والمساواة المدنية والقانونية يتعارض مع بعض المبادئ التاريخية والدينية والتي تتطلب معطيات أخرى للحديث عن المواطنة. فأساس المواطنة الحديثة ليس التاريخ أو العرق أو الطائفة أو الدين، وإنما المساواة أمام القانون، لذلك وجهت انتقادات للنزعة الفردانية والتي عملت على تذويب الفرد في المواطن في أفق التأسيس لمجتمع يرتكز على الفرد لا على المجتمع، وكان هناك تمييز بين الفرد والمواطن، والحاصل أن كل فرد هو مواطن بالضرورة، شريطة الحديث عن التساوي في الحقوق الموجودة في الواقع [30]. الأمر الذي جعل رواد الفكر الماركسي يفضحون زيف الثورة الصناعية المبنية على تضليل الجماهير والتطلع إلى ميلاد مواطنة برجوازية جديدة، وذلك مجرد وهم [31]. فهل حقا، هناك تمييز بين المواطن المعنوي المجرد والفرد التاريخي أم أنهما متماثلان ومتطابقان؟
1- الثورة الفرنسية: إشكالية المواطنة الملموسة والفرد المتطرف
إن الناظر الممعن والمتأمل في نتائج الثورة الفرنسية لسنة 1789، يلحظ حجم الانتقادات الموجهة للثورة الفرنسية، وكذلك المفكرين المعادين للثورة في مختلف البلدان الأوروبية حيث انتقدت العقلانية السياسية وفضح التعصب الإيديولوجي، ونقد التجريد والإرادة السياسية باسم الممارسة والتجربة والموروث، كل ذلك من أجل التأكيد حسب رؤية الباحثان على أن النظام الاجتماعي لا يتأسس على مبدأ الاستقلال الذاتي الليبيرالي للفرد، الذي هو مبدأ رسخته الثورة الفرنسية. فالتاريخ الجمعي مشروع تم لمواجهة الفكر الثوري الفرنسي، بغية إعادة بناء النظام الاجتماعي الواعي والعقلاني [32]. في أفق جعل السياسة مجال ومشروع عقلاني وبشري ليس لمواجهة المواطن المجرد والصوري، وإنما للقيام بعملية الدمج لخلق التنوع وتحقيق الحريات الحقيقية التي وصل إليها الانجليز تدريجيا بفضل ثورة 1688. والتي صارت الحقوق والحريات أعلى ضمانة من مثيلتها الفرنسية، بحكم أن هذه الأخيرة تنحو في اتجاه التجريد الميتافيزيقي والبعد عن الواقع والحياة الاجتماعية، عكس التجربة الإنجليزية التي تجذر معها الفكر الحقوقي المبني على الممارسات والتقاليد الموروثة [33].
إن الحريات المحسوسة تناسب المواطنة، عكسي الحريات المجردة، بمعنى أن مبادئ المواطنة لا تتأسس على التجريد والصورنة، لأن الحرية كمبدأ لتجل المواطنة ليست شرطا كافيا لجعل الجميع يشارك في تدبير الشأن العام، لذا، لا بد من وجود شروط سابقة عن الروابط التي رسخت داخل المجتمع. فالعلاقات الاجتماعية ليست عائقا لتحقيق واكتمال الطبيعة الإنسانية، وإنما هي شرط ضروري للأمن [34].
وفي ذلك نقد للتصورات التي تؤسس المواطنة وما يرافقها من حقوق على مبدأ الفردانية واستقلال الذات، كما حصل في الثورة الفرنسية، فالنزوع إلى الفردانية المطلقة طريق لتدمير التقاليد والمعتقدات ومختلف الروابط الاجتماعية التي تساهم في تحسين وضعية الفراد داخل المجتمع. لذا، يصعب هدم الموروث رغبة في بناء مجتمع جديد على أسس الفردانية المتضخمة. معنى ذلك، ضرورة الوعي بأهمية الظروف والعناصر والشروط التراثية المشكلة للمجتمع، والحرص على تقوية المؤسسات السياسية والاجتماعية والهيئات الوسيطة التي تضمن حق مشاركة الأفراد في الحياة الاجتماعية، وفي ذلك تحقق لمفهوم المواطنة وترسيخ الحريات الملموسة والإقرار بتراتبية اجتماعية. وغياب ذلك في فضاء اجتماعي، يعني حلول الطغيان والظلم الاجتماعي وجعل السلطة مجردة. لذلك، فالتجربة الإنجليزية حسب الباحثان طريق لانتقاد مبادئ الفردانية والسلطة الصورية، وعدم الارتباط بالموروث، فكل ثورة تدعي البدء من الصفر، نافية التراكم التاريخي مصيرها المحتوم، الانتهاء إلى الطغيان [35]. وهذا ما حدث للثورة الفرنسية، حيث وجهت لها انتقادات قاسية، من طرف مجموعة من الفلاسفة، كإيمانويل كانط وهيغل، بسبب تمجيدها للفرد على حساب المجتمع.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول مع الباحثان، أن الشرعية السياسية تتأسس أيضا على التقاليد الموروثة، وليس على المبادئ الفردانية المجردة، وهي شرعية تقتضي التغير الدائم للممارسة السياسية، والتأقلم الحذر مع متغيرات الواقع والفكر، أي أن المواطنة السياسية على الطريقة الإنجليزية تستلهم الدروس والمبادئ من التجارب التاريخية والتراث السياسي الموروث، والاحترام لاستمرارية المؤسسات والقيم الاجتماعية والأخلاقية. (وإذا كان الدستور الإنجليزي بناء رائعا.... فيرجع ذلك إلى أن تأسيسه هو ثمرة عمل دام عدة قرون) [36].
يعتبر الباحثان، أن كل ثورة إلا ولها فكر مضاد، وإذا كانت الثورة الإنجليزية مثلا قد تأسست كما سبق ذلك، على التراتبية الاجتماعية والاستمرارية التاريخية، فإن هناك من يذهب عكس ذلك معتبرا الشرعية السياسية والسلطة والمواطنة تتطلب حضور الإرادة العقلانية، حيث سيطرة العقل على السياسية والانصات للفردانية، واعتبار أنه يوجد نظام طبيعي سابق عن النظام الاجتماعي، وعن طريقه يجب احترام الطبيعة التي هي صنيعة الله، والمجتمع مجرد مرآة تعكس العناية الإلهية. فقوانين الطبيعة هي قوانين الله بحيث تعلو وتسمو فوق القوانين البشرية [37]. مضمون الكلام السابق، يترتب عليه قول سياسي، يتمثل في أن مصدر الشرعية السياسية فوقي ومتعال، حيث تمجيد القوانين الإلهية، والرفع من قيمتها مقارنة مع القوانين الإنسانية. والأنكى من ذلك، أن الحقوق والحريات تصبح تابعة ومرتبطة بما هو إلهي وطبيعي. والنتيجة مواطنة لاهوتية وليست مدنية أو سياسية محضة، وهو أمر يتناقض مع مضمون الحداثة السياسية، حيث سيادة الأرض على حساب السماوي والماورائي.
إن المواطنة الجديدة تقتضي مجتمعا جديدا، مبنيا على أسس وقواعد متفق عليها، وليس الانصات لنداء السماء والطبيعة، فوجود المجتمع، لا تمليه إرادة إلهية، وإنما عقد اجتماعي متوافق عليه بين جميع المواطنين. فإما أن يكون مصدر السلطة الحقيقي مجموع المواطنين، وإما أن يستلهم الملك أو الحاكم حكمه وسلطته من الله. ومن ثم فهو أساس السلطة، علما أن هذه التصورات اللاهوتية حول السلطة كانت حاضرة وبقوة في المجال السياسي، إلى درجة اعتبار أن الحرية هبة إلهية، وأن المجتمع ليس ثمرة عقد وجهد عقلي، وإنما هو إرادة إلهية. عكس ما يطمح إليه الفكر الثوري. فما هي أسس الحقوق الإنسانية؟
2- المواطنة وأسس الحقوق الإنسانية
يؤكد الباحثان، أن الحقوق الإنسانية تتأسس على مبدأ التراتبية، سواء تعلق الأمر بالأنظمة السياسية الديموقراطية أو الأنظمة الفاشية حيث تمجيد القائد أو الزعيم، ومبرر ذلك ضرورة وجود تراتبية طبيعية في المجتمع، هذا الأخير يتطور بشكل طبيعي، وأن النظم السياسية والمؤسسات تستقى من تلقائيتها الواقعية. والنتيجة، أن حقوق الشعوب لا تستمد من يقينيات لاهوتية، وإنما من تنازل الحكام [38]. والمجتمع هو في حد ذاته نوع من التراتبية حسب أرنست رينان حيث الكائنات البشرية غير متساوية، وتنجز عملها وفق قدرات طبيعية. ومن هنا، فهذا التوجه يعتبر الطبيعة كقانون إلهي، وأن نفيه وإنكاره، خطأ جسيم، انزلقت إليه الثورة الفرنسية. وهو ما يفسر معارضة الرومانسيون الألمان للثورة الفرنسية، بحجة البقاء من قرب الطبيعة والحياة وادانتهم الشديدة للكاثوليكية والليبرالية العقلانية والفردانية الأنجلوسكسونية [39].
استنادا إلى الباحثان يعتبر الرومانسيون الألمان، أن لا وجود لفرد في حد ذاته، ولا هو ولا عنصرا من عناصر الأسرة والدولة، فهذه الأخيرة كائن حي متسم بالحياة والوحدة المنسجمة والمثمرة، وأن لها الأولوية على الفرد، لأنها دولة عضوية، حصيلة الوحدة والفيدرالية المتوازنة. تحتفظ للجماعة الوسيطة بين الأفراد والأمة بمكانتها، فالمجتمع بمثابة جسم خاضع لتراتبية طبيعية حسب هيردر Herder، يترتب على ذلك، أن لا وجود لفرد مستقل عن المجتمع، فكل فرد هو عضو بالضرورة ويشغل حيزا اجتماعيا وسياسيا، وله وظيفة مرتبطة بالمجموع مما يستدعي أسبقية الجمعي على الفردي [40]. وعليه لا وجود لفردانية جافة وعقلانية منغلقة، والمواطنة الحديثة ستكون نتيجة تلك التصورات حيث اندماج الفرد في المجتمع ومعرفته لدوره ووظيفته وواجباته، أي أن المواطنة حقوق وواجبات، ومرتبط بالتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية. فالفرد ضئيل وهش خارج المملكة الاجتماعية. والفكر السياسي تطور الثوري، تطور بشكل ملحوظ، خاصة مع ظهور مجموعة من المفاهيم، كالواقعية والبراغماتية والاحتفاء بالمحسوس والتجربة في مواجهة التصورات العقلانية المجردة والجافة، وإحياء التقاليد الفكرية التي تجذر الفرد في الجماعة والانغراس في تاريخ وأرض لمواجهة نزعات اقتلاع المواطن.
إنه النقد الحديث الذي واكب متغيرات العصر، نقد مسألة المساواة المطلقة بين البشر، ونقد المشاريع السياسية القائمة على العقل، دون الارتباط بفكرة التراتبية الطبيعية، ساعد على ذلك بزوغ فجر العلوم الإنسانية والاجتماعية التي كشفت اللاوعي الفردي والجمعي وإبراز حدود العقل، في مقابل التراث الموروث وتأثير اللاوعي الجمعي على سلوكات وتصرفات وأفعال البشر [41]. إن النقد الموجه لمفهوم الفرد المجرد عرف انطلاقة جديدة مع فلاسفة الاجتماع، خاصة مايكل ساندل، وشارلز تايلور، ومايكل والزر، وأن الفصل بين العام والخاص ليس كافيا لتحقيق ديموقراطية حقيقية. لذا، لا بد من الاعتراف بالمواطنة، ليس بهدف الكرامة، وإنما الأصالة والشرعية، فالبشر ليسوا مجرد مواطنين مجردين، وإنما أفراد واشخاص محسوسون وملموسون، مواطنين لتاريخ وثقافة. ومن الضروري الاعتراف بذلك، فتجريد المواطن لا يحقق مواطنة. لأن الانسان لم يعد هو مقياس كل شيء [42].
وعليه، فالمواطنة لا تتأسس على فكر ماضوي فقط، ولا على فكر مثالي وطوباوي بعيد عن المجتمع ومتغيرات الواقع، وإنما استنادا إلى مبادئ الحداثة السياسية، حيث المساواة المدنية والسياسية والقانونية التي ينادي بها كل المواطنين. تعزز ذلك المادة الأولى من إعلان حقوق الانسان والمواطن التي تقول: " يولد الناس ويعيشون أحرارا متساوين في الحقوق، ولا يمتاز بعضهم على بعض، إلا فيما يختص بالمصلحة العمومية) [43].
3- النقد الماركسي: وجدل الديموقراطية والمواطنة
إن المواطنة الحديثة لم تعد مجرد مقولة صورية، وإنما صارت مرتبطة بالظروف المادية والاجتماعية، والتي فرضت حضور النقد الماركسي، حيث فضح الدولة الدستورية الليبيرالية، كألية لترسيخ نوع من الخيال البسيط لتوطيد المواطنة البرجوازية، حيث الغش والتضليل. فالنقد الماركسي يعتبر أنه لا توجد حقوق انسان خارج نطاق حقوق المواطن، على اعتبار انه لا يوجد تمييز بين حقوق الانسان وحقوق المواطن، فالإنسان هو مواطن وعضو داخل المجتمع البرجوازي، حيث يصعب الحديث عن الحرية كحق إنساني. فالفرد الحر داخل المجتمع البرجوازي، هو ذلك المنعزل والمنغلق على ذاته والمستلب عن عمله [44]. فهل يمكن الحديث عن مواطنة متساوية في هذه الحالة؟
وحسب الباحثان، أن كارل ماركس لا يشكك في الديموقراطية، لأنها كنه كل دستور سياسي، منتقدا في نفس الوقت الشكل الذي اتخذته الديموقراطية الازدواجية، بين المجتمع المكون من أفراد حقيقيين، وبين الدولة باعتبارها أداة البرجوازية، لذلك، وضع ماركس مفهوم الانسان التصوري المجرد [45]. فالديموقراطية التي تتحقق عبرها المواطنة، هي تلك التي يتحد فيها العامل والمواطن. بمعنى أن ننظر للمواطن كعامل له حق التمتع بعمله ومنتوجه الخاص، وفي اعتراف بمواطنته. ومن عيوب الثورة الفرنسية، أنها لم تساعد على جعل الانسان يحقق ذاته في داخله كعامل ومواطن، فتحقق ذلك واقعيا، يتم عبر تغيير شروط الاقتصاد والظروف المادية، وليس تحرير الانسان من الوهم الديني. إنها الدعوة للمواطنة الحقيقية المتمثلة في نقد الثورة الفرنسية، وإعطائها معنى حقيقي وواقعي يتماشى ورغبة الانسان كمواطن في إثبات ذاته عن طريق منتوجه. الديموقراطية الحقيقية تتجلى في أن تعطي للظروف المادية للأفراد أهمية قصوى، لجعلهم يتمتعون بحرياتهم. فلا بد من وجود مجتمع ديموقراطي حقيقي يستكمل المواطنة التي ظهرت اثناء الثورة الفرنسية [46].
والحديث عن الديموقراطية في علاقتها بالمواطنة، حديث عن مبادئ وشروط تعبر عن تشكل أنظمة تاريخية متطورة، من الديموقراطية اليونانية المباشرة، إلى الديموقراطية البرجوازية في العصر الحديث، لكنها داخل النظام الرأسمالي تبقى ديموقراطية محدودة ومبتورة ومزيفة وخادعة وجنة للأثرياء على حساب المقهورين في والمعذبون في الأرض، وفخ خادع للذين يتم استغلالهم ومما ساعد على ذلك، نشأة التناقضات بين المساواة الإسمية المجردة [46]. وآلاف القيود المانعة التي تجعل البروليتاريين مجرد عبيد. فعن أية مواطنة وكرامة بشرية يمكن الحديث هنا؟
إن المواطنة الحقيقية تقتضي توفير الدولة للوسائل المادية كرامة الوجود البشري، والحق في التعبير والكتابة، وفي حرية الاختيار السياسي [48]. والتعهد بحماية العامل في عملهن وتوفير العمل لجميع المواطنين، وعلى قدم المساواة، وجعل الكل يتمتع بحق التجمع والاضراب، والمطالبة بالحقوق، أو ما يعبر عنه، بالحقوق- الحريات، التي هي من مكتسبات الثورة الفرنسية، فالحقوق- الحريات تضمن حقوق المواطنين قبل وجود سلطة الدولة كحرية الفكر والتعبير والعقيدة والاجتماع، وهي حقوق تمت تنميتها مع روح الثورة الفرنسية حيث الاعتراض على التعسف الملكي، وصياغة الضمانات القانونية لحماية الحقوق. فالقانون صار هو الر جع والمؤطر نقرأ ذلك في إحدى مواد إعلان حقوق الانسان المادة7: (لا يجوز إلقاء الشبهة على رجل أيا كان ولا القبض عليه ولا سجنه إلا في المسائل التي ينص عليها القانون وبموجب الطرق التي يذكرها) [49]. وأيضا في المادة8: (لا يجوز أن يعاقب القانون إلا العقاب اللازم الضروري). غاية الحقوق- الحريات وفق رؤية الباحثان، الحد من توغل وتدخل الدولة، ومن ثمة فالحقوق هي الشروط والعناصر التي تؤدي إلى الانتقال من المواطنة الصورية والشكلية إلى المواطنة الحقيقية، حيث الممارسة الفعلية في الواقع [50]. لكن ما هي ضمانة أن ينال الناس حقوقهم وتترسخ المواطنة لديهم؟
4- المواطنة والدولة الحامية
الدولة الحامية، دولة مدنية تأسست بغرض حماية الحقوق والحريات بشكل ملموس. وتعمل على تحسين الظروف المادية الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى وضع أسس المساواة السياسية والقانونية التي تفضي حتما إلى وضع أسس الروابط الاجتماعية والشرعية السياسية. بمعنى أخر، أنه بدون الحديث عن الظروف الاقتصادية والانطلاق منها، يصعب تحقيق المساواة، والمواطنة الملموسة والنتيجة صعوبة وجود مواطن سيد نفسه. لذا، فكل حديث عن المواطنة يتطلب الارتكاز على عمليات إنتاج وظروف مادية تضمن الكرامة، علما أن المواطنة الحقيقية تعني أن لكل مواطن الحق في أن تيسر له الدولة الحامية سبل تحقيق الحاجيات الضرورية بشكل لائق، وتجعله يحوز الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية، ونظرا لأهمية ذلك، فالدولة تستعين بجميع الوسائل لإعادة توزيع الثروات بشكل عادل [51]. إن الدولة الحامية هي أساس المواطنة وكل المشاريع السياسية والقانونية، بحيث توائم بين النظام السياسي وعمليات الإنتاج الاقتصادي، حسب أدم سميت، تمزج بين في توليفة عجيبة بديعة بين متطلبات الفعالية الاقتصادية ومتطلبات العدالة الاجتماعية وفي ذلك تحقيق لمتطلبات القيم الديموقراطية [52]. ومن سمات الدولة الحامية، أنها راعية للمواطنين، ليس على طريقة رعاية العصور الوسطى، وإنما رعاية قانونية وسياسية وحقوقية، حيث الأمة هي مصدر السلطات، والديموقراطية هي منطلق أية عملية سياسية واجتماعية، ترسخ وجود المؤسسات نظرا لدورها المحوري، دولة الحماية الاجتماعية وإعادة توزيع أرباح النمو الاقتصادي، تضمن الحقوق الأساسية للمواطنين، وتعطي معنى سياسي واجتماعي وقانوني للمواطنة [53].
فالتغيرات السياسية أدت إلى كثرة التنظيرات حول المواطنة فمثلا عالم الاجتماع الإنجليزي توماس همفري يميز بين ثلاثة أبعاد للمواطنة: فهناك المواطنة المدنية التي هي بنت القرن 18م، وتتلخص في ممارسة المواطن لحقوقه وحرياته خاصة الحرية الشخصية وحرية التعبير وحرية التملك التي تضمنها الدولة الحامية. وهناك المواطنة السياسية التي تأسست في القرن 19م وتعرف بممارسة الحقوق السياسية، كالحق في التصويت والمشاركة في الحياة السياسية. وهناك المواطنة الاجتماعية التي نشأت في القرن 20م وتميزت ببروز الحقوق- الغير المادية، كالحق في الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم والعمل [54]. والملاحظ أن تلك الحقوق المحددة لطبيعة ونوعية المواطنة، ليست تراتبية بشكل ألي، بمعنى ليس دائما أن الحقوق المدنية سابقة عن الحقوق السياسية والاجتماعية، فالمسألة مرتبطة بالظروف الاجتماعية والقانونية لبلد ما، فمثلا في بعض البلدان ونتيجة لوجود نظام سياسي معين، تكون الحقوق الاجتماعية سابقة عن بقية الحقوق، بحيث يتم إهمال منطق التماهي والتمايز بين مختلف الحقوق، غير أن الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صدر سنة 1947 وضع الحقوق- الحريات إلى جانب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتي جعلت فكرة المواطنة المحسوسة ذات محتوى اقتصادي واجتماعي. وعليه، فالمواطنة صيرورة تاريخية وسيرورة اجتماعية تفاعلية، تستوجب تطوير المنظومة القانونية والمؤسساتية لحيازة الأفراد لحقوقهم. فهل للمؤسسات دور في توطيد دعائم المواطنة؟ فخذ بنا للفصل الثالث، لنفصل الكلام تفصيلا.
وفي معرض حديثهما في الفصل الثالث عن دور المؤسسات، يعتبر الباحثان أن المواطنة ليست فكرة جامدة، ولكنها بناء فكري حي، متغير تبعا لتغير السياسي والاجتماعي والحقوقي والتاريخي، تبدل مستمر، سيال وبدال، حيث الصدامات بين الآراء وحدوث توافقات بين القوى الاجتماعية والسياسية، وهذا ما يدل على تعدد أشكال المواطنة تبعا للمبادئ والتقاليد التاريخية الخاصة بكل بلد، وقد سبقت الإشارة في الفصل الأول كيف أن المواطنة الإنجليزية تختلف عن المواطنة الفرنسية، اختلاف الأسس والمرتكزات الفلسفية والسياسية. والحقيقة أن المواطنة لا تؤدي على تنظيم المجتمع إلا إذا تجسدت في شكل قواعد قانونية ومؤسسات اجتماعية، وعدم فعل ذلك، يعني بقاء المواطنة في حدود الصوري والتجريدي [55].
إن المواطنة الحديثة تتميز بكونها تنحو في اتجاه الكونية والعمومية، استنادا على التصويت كعملية وألية لكشف معنى المواطنة حيث يساهم التصويت المؤسساتي في حل الصدامات والنزاعات بين المجموعات السياسية، بدل اللجوء إلى العنف [56]. فغاية التصويت كفعل سياسي، ليس اختيار القادة والفاعلين السياسيين، وإنما هو عملية ترمز للمجتمع السياسي الحديث، المتسم بعمق الروابط الاجتماعية، المحددة لمصير الجماعة، يفتح المجال للتجارب السياسية المتعددة. بحيث يصير كل مواطن مساو للأخر، ويصبح صوت الانسان ألية للفعل وإضفاء الشرعية على النظام السياسي، ويتحقق مبدأ التأسيس الذاتي والفردانية الجماعية والمنظمة، وتتحدد المعالم الكبرى للمجتمع، كنسق ينشأ عن طريق التفاعل بين المواطنين، وليس اعتباره مشروع إلهي أو طبيعي. فالتصويت وسيلة لخلق جماعة المواطنين، وسر من أسرار المساواة الملموسة العاكسة بشكل واضح لمعنى المواطنة [57].
يؤكد الباحثان أن المواطنة الحديثة تجعل كل مواطن مهما كان لونه، يحس بذاته وبوجوده الخاص، فيتحرر تلقائيا من نزعة الخوف الجاثمة على كينونته، ويترسخ في وعيه مبدأ المقاومة، فيستعمل صوته بشكل واع، وتلك إحدى تجليات المواطنة، حيث زوال العنصرية وتحقق مبدأ المساواة. فالتصويت مرآة عاكسة للمواطنة، وبه يتحدد الانتماء إلى مجتمع سياسي. وعليه، لا نستغرب إن سمعنا عن النقاشات الداعية إلى ضرورة منح التصويت للأجانب، لأنه لحظة احتفال سياسي، وما يرافق ذلك من طقوس، كوجود صندوق فارغ ومعزول ومحاط بهالة من التقديس القانوني، يتوسط القاعة مثله مثل المذبح أو الهيكل وسط الكنيسة، هذا التقدم السياسي والحقوقي يدل على قداسة معنى المواطنة بقداسة ألياتها وشروطها ومتغيراتها الانتخابية [58].
زمن الأزمنة الحديثة، زمن المواطنة المتغيرة والمفتوحة لجميع الأفراد وبدون تمييز، بغض النظر عن الاختلافات الثقافية والتاريخية والدينية، فالمواطنة قيمة وجودية لضم الأفراد والشعوب، وجعلها تتجاوز جميع الاختلافات، في أفق تكوين وحدة منسجمة، فهناك فئات كثيرة كانت مهمشة في بعض المجتمعات- اليهود في ألمانيا النازية مثلا- لكن منح التصويت لها، جعلها حائزة للمواطنة. علما أن المواطنة لا تتحقق بشكل كامل، وهذا ما جعل العقل السياسي الثوري يصوغ فكرة المواطنين النشيطين والفاعلين، لتأكيد أن المواطنة مخاض وصيرورة، متدرجة معرضة للانتقادات من أجل تطويرها وتثويرها وتنويرها. فالحق في التصويت لم يكن متاحا للجميع، غير ان الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية جعلته من حق الجميع، لأن ما يؤسسه كوني وعمومي [59]. غير أن المتمعن في مضمون متن الباحثان يلفي نفسه أمام فكرة جديدة مضمونها ان فكرة المواطنة في الزمنة الحديثة والمعاصرة تمر باختبار وامتحان عسيرين خاصة ما يتعلق باستبعاد من ليسوا بمواطنين- كالمقيمين واللاجئين- الأمر الذي يفرض تحديا على العقل السياسي، بغية التفكير في بناء منظومة مفاهيمية جديدة من صميم فكر المواطنة العالمية، وإزالة المفاهيم ذات الحمولة العنصرية والاستبدادية كالشمولية والاستبعاد [60].
إن المجتمعات المؤسسة على المواطنة منفتحة على الأجانب والغرباء، مقارنة مع أشكال التنظيم السياسي الأخرى، إذ يمكن حيازة جنسية البلد الذي يقيم فيه الانسان، شريطة إبعاد المحددات والموجهات الثيوقراطية، بحيث لا يتطلب الأمر اعتناق دين الدولة الرسمي، فمن الصعب مثلا الانتماء إلى الشعب اليهودي بناء على الدين، لكن، من الممكن الانتماء إلى إسرائيل، رغم عدم اعتراف الحاخامات بهم كيهود [61]. لذلك، فتطور المجتمعات والدول رافقه تطور الحقوق السياسية والاجتماعية والقانونية، المر الذي انعكس على الأجانب الموجودين بشكل قانوني داخل بلدان إقامتهم، بحيث صيغت التشريعات القانونية لمنحهم حقوقهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية، ويعد ذلك، تأكيد على فكرة المواطنة العالمية، بموجبها يتمتع الأجانب بجميع الحريات الفردية أو الحقوق المدنية، فلهم حرية التنقل والزواج، والتعبير عن الرأي، معنى ذلك، أن مجمل التشريعات الخاصة بالحقوق الاجتماعية أٌقرت وأصبحت مضمونة قانونيا [62]. لكن ما الطريق لترسيخ ثقافة المواطنة داخل المجتمع؟
إن سيادة المواطن تتطلب نقاشا عميقا يترجم إلى مؤسسات سياسية، وتسبق ذلك وضع برامج تعليمية وتربوية هادفة وناجعة، لغرس مبادئ المواطنة الحقة، على اعتبار أن التعليم هو أساس المشروع الديموقراطي، بحيث يساهم في جعل الأفراد يتمتعون بالقدرات الضرورية المؤهلة للمشاركة في الحياة العامة، فالمدرسة هي النموذج الأمثل لمؤسسة المواطنة، وهذا ما يفسر كون الديموقراطية اليونانية كانت حكرا على الأثرياء من المواطنين بسبب غياب المدرسة، لذا، فالمواطن القادر على ممارسة حقوقه بشكل ملموس مرتبط بالديموقراطية نظرا لتوفر الفضاءات التربوية والتعليمية[63].
مباشرة بعد الثورة الفرنسية صار الحديث عن المعلمين المؤسسين لتأسيس الأمة، كون هذه الأخيرة هي مصدر السلطات والسياسة الشرعية، وكمثال على ذلك، فالمدرسة في فرنسا هي مدرسة المواطن، وأنها أداة سياسية في خدمة الجمهورية. لذلك، ركز عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم على ألأهلية الجوهرية للمدرسة، في التشكل والتكوين المعنوي للبلاد، من أجل أن يترقى الأفراد، ليصبحوا مواطني المستقبل على نحو أفضل. وعليه، فللمدرسة عدة وظائف، فهي تقدم اللغة والثقافة الإيديولوجية للدولة وذاكرة تاريخية مشتركة، وأنها أيضا تساعد على تشكل مساحة خيالية لصورة المجتمع السياسي، فنظام المدرسة مماثل في جوهره لنظام المواطنة [64]. لذلك، ألا يؤدي مبدأ سيادة المواطن إلى فردانية متضخمة قد تعصف بالمؤسسات التقليدية؟
المحور الرابع: الفردانية الديموقراطية وإشكالية المواطنة
يعالج الباحثان في الفصل الرابع قضية الديموقراطية الفردانية ذات الأساس والمنشأ الديموقراطي، بمعنى أن الفردانية بنت الديموقراطية كون هذه الأخيرة ليست مجرد نظام سياسي، السيادة فيه للشعب أو مجموع المواطنين، ولكنها ثقافة تعيد المواطن الفرد إلى ذاته، تجعله في بعض الأحيان يتمركز وينغلق على ذاته، ذلك أن الثورة الفرنسية لم تنتج نظاما سياسيا جديدا وحسب وإنما أفرزت روابط اجتماعية حديثة، حيث حل مفهوم المواطن محل كل المفردات. ظهرت المواطنة المجردة الداعية إلى المساواة، هذا التغيير العنيف أدى إلى تبدل ملحوظ على مستوى التراتبية والدمج الاجتماعي [65].
إن المواطنة هي أصل ومصدر العلاقات الاجتماعية، غير أن السعي في اتجاه تحقيق الموازنة والتوفيق بين الفرد- المواطن ومتطلبات الحياة الاجتماعية عملية صعبة ومعقدة، يتجلى ذلك في علاقة الحق بالفردانية الديموقراطية. فالحق هو ترجمة عملية للقيم الاجتماعية المتعارف عليها، حق افضى إلى البروز الحديث لمفهوم الحق الذاتي على حساب الحقوق الموضوعية الأخرى. خصوصا وأن القانون الأوروبي اعترف بحقوق الأشخاص للمساهمة الفعالة والحقيقية في بناء الشخصية القانونية [66].
ويعتبر الباحثان، أنه رغم سعي بعض الفلسفات إلى نفي الحقوق الذاتية (ليون دوجي) فقد تمت إعادة توطين الحقوق الذاتية والحرص على تنميتها جراء المتغيرات العالمية والمتمثلة في الحرب العالمية الثانية، وأيضا كرد فعل تجاه مآسي ونتائج النازية، حيث ترسخت مجموعة من الحقوق الذاتية الجديدة، كالحق في المبنى محور عقد الايجار، والحق في السكن للأفراد، وترتيب المسؤوليات الناتجة عن حوادث الطريق لضمان الإصلاحات. وأن لكل فرد الحق في احترام شبهة البراءة. وعليه فالحق الذاتي يشمل التعرض للحياة الخاصة والتعرض للحرية وللأسرار المهنية [67]. فمن حق كل فرد اللجوء للعدالة إحقاقا للحق وحيازة الحقوق الذاتية، حيث بالإمكان أيضا الاعتراف للطفل بحقه في التعبير. وقد تطورت الحقوق الذاتية وتضخمت خاصة في الولايات المتحدة الامريكية، حيث تفضيل اللجوء إلى المحاكم في كل القضايا الاجتماعية [68].
إن تضخم القضايا المعروضة على المحاكم قد يضعف النصوص القانونية، ويجعلها هشة، لأنه يصعب بناء على الحقوق الذاتية إعادة تعريف وترتيب حاجات البشر، وفق تراتبية مضبوطة ومحددة المعالم، كالحق في العمل/ والحق في السعادة، والحق في الطفل، والحق في الاجهاض بمعنى تضخم الذاتي والفرداني على حساب الاجتماعي والأسري. لذا، فالحقوق الذاتية، افرغت القانون الموضوعي من محتواه الأمر الذي تطلب نوعا من المواءمة، وتنمية القوانين الخاصة والاستثنائية، والتي تزيد من غرق الحياة الاجتماعية وتعقدها، خصوصا وان أهل الاختصاص هم من يحق لهم الكلام عن مختلف القوانين باعتبارهم أهل الاختصاص والكفاءة وكل مناقشة عامة وعلانية تعلي من سيادة الفرد تبدوا ضبابية [69]. لأنه حسب رؤية الباحثان يصعب وضع حدود متفق عليها حول الحقوق الذاتية، لأن قوة الفردانية مستمرة، إنها كالنهر الجارف، أضف إلى ذلك أن تضخم الفردانية يضعف المؤسسات الوطنية بحيث لم تعد المؤسسات التقليدية كالمدرسة والنقابة تفرض سطوتها وسلطتها على الأفراد بشكل مطلق [70].
إن وجود السلطة يفرض على كل فرد المطالبة بحقوقه الطبيعية والاحتماء بمعتقداته الشخصية، رافضا أية سلطة تقليدية، فالحديث عن أزمة التعليم وأزمة النقابات وأزمة الكنائس مظهر لتجلي العلاقة الجديدة بين الفرد والمؤسسات، إنه الانفجار العنيف للفردانية على حساب المؤسسات وكل اشكال السلطة. فحديث الفرد المناهض للسلطة جعله يبرر سلوكه لجعل شخصيته تزدهر، ليصير صاحب حكم ذاتي مستقل [71].
غياب المعايير الواضحة، أدى إلى تمييع الحياة الاجتماعية الفردانية، حيث تشظت الشرعيات معلنة عن تأثير الفردانية، وأصبح الحوار والتوافق في جميع الفضاءات هما أساسا العلاقات الاجتماعية. فالتفاوض هو أساس الروابط الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب حماية الحقوق الذاتية نظرا لعدم تساوي أطراف التفاوض بين المواطن الأجير وصاحب الكفاءة، فعلى المؤسسات أن تحمي أكثر الناس ضعفا [72]. وأنه من الضروري تدخل الدولة كسلطة وقوة عامة لتأكيد المساواة في الحقوق وتطبيق ذلك بفعالية خاصة في المجتمعات المتباينة، وعدم تدخل الدولة يؤدي إلى ظهور النزعات العنصرية والعرقية وخرق قيم الجماعات. وعليه، يجب صياغة التشريعات الخاصة وتطبيق مبدأ المساواة بين الجميع بشكل فعال داخل الحياة الاجتماعية. لكن، ما علاقة المواطنة بالأمة؟ وما هي شروط حيازة الفرد والجماعة للحقوق الثقافية التي هب بنت الزمن الحديث؟
المحور الخامس: الأمة والمواطنة واشكالية التعددية الثقافية
إن الأمة هي الإطار العام الذي تكونت داخله الشرعية السياسية والممارسة الديموقراطية، ومن تمت فإن هناك علاقة وثيقة بين المواطنة والأمة. فعبر التاريخ اقترنت المواطنة بمطلب الاستقلال الوطني وباسم قيم المواطنة المجسدة لتاريخ الأمة ثارت الشعوب المستعمرة مطالبة بالحق في الاستقلال. لذلك، كثيرا ما يتم الحديث عن المواطنة والقومية وهو ما يفسر مطالبة الشعوب بالحقوق الثقافية الخاصة بالأمة، فنشأت الحركات العمالية المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وترسيخ التعددية الثقافية في ظل المجتمعات الصناعية. 283 ولا شك في ذلك، لأن كل مجتمع متعدد الروافد الثقافية والجماعات، من حيث الجنس والوسط الاجتماعي والدين الممارس. لذلك، لا بد من إدارة جيدة للتعدد الثقافي والاثني والتحكم في جميع العناصر المتباينة داخل المجتمع، بحيث تغدوا المواطنة ألية لإدارة التباينات الثقافية، وتوطيد مبدأ التسامح وحماية النطاق الشخصي المتمثل في الميولات النفسية، والانتماءات الخاصة والمشاركة في ممارسة الدين بحرية واستخدام اللغة الأم.
إن إدارة التباينات تتجسد في ضرورة التمييز بين الخاص والعام، والجمع بين المساواة المدنية والسياسية للمواطنين مع احترام الارتباطات والانتماءات التاريخية والدينية المميزة لجماعة ما، في أفق ضمان وحدة المجتمع المشتركة. فتبعا لمبدأ المواطنة صارت التعددية الثقافية حقا من حقوق الانسان. خصوصا وأن مسألة التعددية الثقافية ظهرت إلى الوجود الغربي بسبب هجرة العاملين من بلدانهم إلى بلدان أخرى أجنبية، الأمر الذي فرض ضرورة الاعتراف بحق الأقليات الثقافي والديني، خاصة تلك الفئات التي اضطهدت بسبب اللون والدين، وقد تعززت الحقوق الثقافية في إطار النقاش العميق الذي فتح حول الاشكال التي ينبغي ان تكون عليا المواطنة الحديثة. فمادامت الجماعات منضوية داخل المجتمع ومشاركة بالفعل في الحياة المشتركة والقيم الجماعية، فيجب الاعتراف لها بجميع الحقوق الثقافية، شريطة احترام النظام العام. فدولة القانون المتسمة بالديموقراطية الحديثة تضمن الحقوق الثقافية.
إن الحقوق الثقافية، جزء لا يتجزأ من الحقوق الفردية والجماعية، التي هي من سمات الحداثة السياسية. علما أن الحقوق الثقافية لا تعني الحق في القراءة والفن والمعرفة، وإنما أن تكون للفرد حياة ثقافية خاصة، يسعى إلى تنميتها بوجود ومعية الأخرين، داخل مجموعة معينة، ويجب على العقل السياسي المدبر إبداع شروط وقواعد التوفيق بين الحرية والمساواة بين جميع المواطنين، بمعنى أن إدارة التنوع الثقافي تتطلب أليات جديدة تختلف عن تلك التي كانت سائدة. فلا بد من وجود ديموقراطية ثقافية حقيقية، تحفظ كرامة المواطن ثقافيا، وتستوعب الجماعات التي لها ثقافة تميزها مع تجاوز العوائق التي تفتح باب العنصرية والتمييز والسلطوية ودمج الجماعات التي تم تهميش عاداتها وتقاليدها والسماح لها باستعمال لغتها الخاصة. ولها الحق في ان تخلد أعيادها ومناسبات وطنها الأصلي.
يؤكد الباحثان أن بعض البلدان الليبيرالية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية لم تستطع تدبير الاختلافات والاعتراف بالتعددية الثقافية والتأقلم معها، لذلك، هناك مخاطر تهدد الحقوق الخاصة والتي يمكن الاصطلاح عليها بالجماعانية، حيث تطرح مشكلة حرية الأفراد، فالتأكيد على حق الفرد الثقافي قد يحصره داخل مجموعة تضيق من حريته الشخصية، خصوصا وأن المجتمع الحديث ينظر للأفراد على أن لهم أدوار اجتماعية متعددة، ومن حقهم الانتماء والتماهي مع مرجعيات يختارونها بأنفسهم. أضف إلى ذلك خطورة الاندماج الاجتماعي المطلق للفرد في جماعة يرسخ لدى الذاتية والمصالح الخاصة على حساب ما يجمع ويوحد المواطنين. بحيث يغدوا الفرد في هذه الحالة منغلقا على ذاته، ولا يتزود من الأخرين بالوسائل الضرورية للانفتاح، علما ان تلك الجماعة ليست أبدية فهي صيرورة متجددة. بمعنى أوضح، أن الاعتراف العلني بالحقوق الثقافية للجماعة ليس دائما إيجابيا، فيمكن أن يقود على التشظي والتجزيء الاجتماعين خصوصا إذا كانت الجماعة منغلقة.
إن غياب الضوابط الديموقراطية الضابطة للتعددية الثقافية يفضي إلى التجزيء الاجتماعي، لذلك، يجب التقريب بين الجماعات حفاظا على وحدة المجتمع ودوام تماسكه، وأن الاعتراف العلني يجب أن يكون مشروطا بانفتاح كل جماعة على المجتمع وليس الانغلاق، لأن بإمكان تلك الشروط أن تساعد على تأسيس وإقامة المواطنة المختلفة والمميزة. ومن شروط الاعتراف بحق الجماعة الثقافي، ألا تفترض سيادة على الأفراد وأن تترك لهم حرية الانضمام والانسحاب، مع تأكيد الباحثان أن الاعتراف يشمل أيضا العناصر الثقافية المتوافقة مع منظومة حقوق الانسان، وأن المعايير الداخلية للجماعة يجب أن تنسجم والقيم الجمالية السائدة في المجتمع، وفي ذلك ضمان للحق المتساوي بين الجماعات دون أن تطغى الواحدة على الأخرى.
محمد لمعمر
أستاذ الفلسفة، وباحث في فلسفة القانون
.................................
الهوامش:
[1] دومنيك شنابر وكريستيان باشولييه، ما المواطنة؟، ترجمة سونيا محمد نجا، الطبعة الأولى (القاهرة، المركز القومي للترجمة 2016)، ص. 27.
[2] مصدر نفسه 28.
[3] نفسه، ص 28.
[4] مصدر نفسه، ص 30.
[5] نفسه، ص 31.
[6] نفسه، ص 31.
[7] مصدر نفسه، ص، 31.
[8] مصدر نفسه، ص 32.
[9] مصدر نفسه، ص 33.
[10] مصدر نفسه، ص 34.
[11] مصدر نفسه، ص 33.
[12] مصدر نفسه، ص 35.
[13] مصدر نفسه، ص 36.
[14] مصدر نفسه، ص 37.
[15] مصدر نفسه، ص، 38.
[16] مصدر نفسه، ص 39.
[17] مصدر نفسه، ص 40.
[18] مصدر نفسه، ص 40.
[19] مصدر نفسه، ص 41.
[20] مصدر نفسه، ص 43.
[21] مصدر نفسه، ص 41.
[22] مصدر نفسه، ص45.
[23] مصدر نفسه، ص46.
[24] مصدر نفسه، ص47.
[25] مصدر نفسه، ص50.
[26] مصدر نفسه، ص51.
[27] مصدر نفسه، ص48.
[28] مصدر نفسه، ص 48.
[29] مصدر نفسه، ص101.
[30] مصدر نفسه، ص102.
[31] مصدر نفسه، ص103.
[32] مصدر نفسه، ص104.
[33] مصدر نفسه، ص106.
[34] مصدر نفسه، ص،107.
[35] مصدر نفسه، ص108.
[36] مصدر نفسه، ص109.
[37] مصدر نفسه، ص109.
[38] مصدر نفسه، ص110.
[39] مصدر نفسه، ص 111.
[40] مصدر نفسه، ص113.
[41] مصدر نفسه، ص115.
[42] مصدر نفسه، ص117.
[43] مصدر نفسه، ص118.
[44] مصدر نفسه، ص119.
[45] مصدر نفسه، ص120.
[46] مصدر نفسه، ص121.
[47] مصدر نفسه، ص 128.
[48] مصدر نفسه، ص123.
[49] مصدر نفسه، ص125.
[50] مصدر نفسه، ص،126.
[51] مصدر نفسه، ص128.
[52] مصدر نفسه، ص129.
[53] مصدر نفسه، ص129.
[54] مصدر نفسه، ص 177.
[55] مصدر نفسه، ص178.
[56] مصدر نفسه، ص179.
[57] مصدر نفسه، ص181.
[58] مصدر نفسه، ص183.
[59] مصدر نفسه، ص185.
[60] مصدر نفسه، ص187.
[61] مصدر نفسه، ص189.
[62] مصدر نفسه، ص190.
[63] مصدر نفسه، ص152.
[64] مصدر نفسه، ص253
[65] نفسه، ص255.
[66] نفسه، ص255.
[67] مصدر نفسه، ص256.
[68] مصدر نفسه، ص257.
[69] مصدر نفسه، ص 258.
[70] مصدر نفسه، ص 159.
[71] مصدر نفسه، ص260.
[72] مصدر نفسه، ص 262.
حاتم حميد محسن: الآلات الذكية والأتمتة في عصر الركود
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حاتم حميد محسن
في العقود الاخيرة أعادت الاجهزة الرقمية تشكيل حياتنا اليومية، حيث ارتفعت اسعار اسهم شركات التكنلوجيا لتضع تلك الشركات في صدارة عالم الأعمال. في هذا النمو المعولم السريع، ترافق الأمل بعصر آلي جديد مع القلق من البطالة المتسارعة بفضل الأشكال الجديدة لأنظمة التشغيل الآلي (الأتمتة). الاقتصاديون نظروا في ما وراء الضجيج التكنلوجي لكي يوضحوا حقائق عن فترة الانحدار الاقتصادي وتضخم الديون: نسب نمو قليلة وزيادة في الوظائف الكثيفة العمالة في أسفل قطاع الخدمات. هم لاحظوا كيف ان زيادة اللامساواة وظروف العمل السيئة قادت الى أشكال جديدة من صراع العمال. لقد وصفوا الموقف بالقول : نحن لسنا في عصر الأتمتة بقدر ما نحن في ركود متداخل مع صراع طبقي.
"الروبوتات قادمة" شكّلت صيحة إستغاثة لإتخاذ فعل ما من جانب المنظمات مثل البنك المركزي الاوربي ومنظمة التجارة العالمية بالاضافة الى شركات الميديا . لكنها ايضا قضية تنال الاهتمام من قطاع الجامعات وبالذات في كليات ادارة الاعمال حيث يتم احتضان الطبقة الادارية.
ان الأمل والخوف صاغا الردود على مشهد الروبوتات في حركتها نحو الافق. التحذيرات من بطالة واسعة تترافق مع أخبار عن الزيادة الكبيرة في الوظائف الجديدة في قطاع التكنلوجيا. دخل اساسي شامل كان أملاً طوباويا للجماهير المستمتعة بأوقاتها تحت الشمس من غنائم فائض القيمة الناتج عن العمل الشاق. في تلك الاثناء، اعتُبرت الطابعة ثلاثية الأبعاد ستبني كل شيء بدءاً من وجبة الغداء وحتى السكن.
الأكاديمي الامريكي جاسون سمث في كتابه (المكائن الذكية والأعمال الخدمية: الأتمتة في عصر الركود، الصادر في ديسمبر 2020)، يقدم فحصا واقعيا لتأثيرات الأتمتة في عصر يشهد ركودا واضحا في الانتاج والاجور. الرسالة الاساسية له تتعلق بالانتاجية كمحرك للرأسمالية، التي شخصها كارل ماركس في رأس المال، وكعقيدة دائمة للعالم الصناعي الاول طوال القرن العشرين. المراجعة التاريخية السريعة للمراحل الطويلة من المفاوضات على الاجور من جانب قوى العمل النقابية، تبيّن الارتباط بين زيادة انتاجية العمل ونسبة الارباح. هذا بدوره قاد الى زيادة الاستهلاك في البضائع المصنعة،وهو ما خلق المزيد من الوظائف في صورة سحرية لحركة دائمة.
المكائن الجديدة تزيد الانتاجية والأرباح تتعاظم، لكن العمال يفقدون الوظائف والاستهلاك يتناقص. بالنسبة لصاحب العمل لكي يحصل على المزيد من الانسان المستثمر، يقوم بزيادة نسبة العمل (عمال يعملون لوقت اطول باجور اقل) الى الاجور الثابتة او المتناقصة وهي المعادلة الرابحة. العولمة مثال جيد لما ذكرنا. اذا كانت قوة عمل العالم النامي زادت من هامش الارباح فان العمال في الولايات المتحدة يشاهدون خفوت الحلم الامريكي. الكاتب سمث يتحدى اليوتوبيا الحالية الموجهة تكنلوجيا بأدلة لأربعين سنة من السير البطيء التدريجي لإنتاجية العالم الاول الى حالة من الأزمات العميقة.
في بريطانيا كان الموقف اكثر سوءاً. يذكر الاقتصادي البريطاني هاورد ديفس ان "الانتاج البريطاني لكل ساعة هو 35% دون المستوى الألماني و 30% دون المستوى في الولايات المتحدة". حتى الان، التكنلوجيا الرقمية "الألعاب وليس الأجهزة" لم تحقق الا تقدما ضئيلا جدا في مؤشر الانتاجية، وان الصناعات التكنلوجية لم تستثمر ملياراتها لأجل القرن القادم.
بدلا من ذلك، أعاد العمال المستبعدون من الادوار الادارية والصناعية تكوين انفسهم لأجل الصناعات الخدمية التي توسعت بشكل هائل، لكن هذه الطبقة الخادمة القليلة الاجور فقدت حيويتها واصبحت(وجودا بلا أمان). الكاتب سمث يلتفت الى ماركس لفحص العديد من التأثيرات الملفتة والضارة لهذه الديناميكية. ان صعود صناعة الخدمات (مدراء،مشرفين،شهادات مدارس الأعمال) كانت وسائل رئيسية لزيادة الانتاجية اثناء الركود. قد يبدو من المفارقة رؤية العديد من المدراء يعودون الى مؤسساتهم التعليمية، ولكن الان يبدو انه مع صعود تكنلوجيا الاشراف فان الماكنة اصبحت في الطريق اليهم.
بما ان عمال الخدمة غير منتجين للقيمة لذاتها "هم كلفة لرأس المال تُدفع من ارباح شركات منتجة اخرى"، فان تأخيرا سيحدث بفعل الفاصل الزمني. هذا يوضح " مفارقة الانتاجية" حيث في الاقتصاد المؤقت gig economy يرتبط العدد الكبير للعمال بالفقر وليس بالثروة.
حاتم حميد محسن
محمود محمد علي: محمد رسول الإرادة.. قراءة نقدية في كتاب الدكتور ميثم الجنابي (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. محمود محمد علي
على خلاف النبوات التى ختمت فى بنى إسرائيل قبل البعثة الإسلامية بنحو تسعة قرون، جاءت النبوة المحمدية نبوة هداية، ليست نبوة استطلاع للغيب ولا إفحام للعقول بالخوارق المفحمة المسكتة، وإنما هى نبوة هداية أراد الله تعالـى لهـا أن تخاطـب وتفتــح "العقول" و"البصائر"، لا أن تفحمها وتقعدها عن النظر والتأمل والتدبر والتفكير والفهـم ـ ليست مهمة النبى أن يعلم الغيب "إِنَمَا الْغَيْبُ لِلهِ» (يونس 20)، وعلمه عند الله، "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَ هُوَ" (الأنعام 59)، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَاعَةِ أَيَانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِى لاَ يُجَلِيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَ هُوَ" (الأعراف 187).. هذا المعنى الفارق لم يكن محض تصور متروك لاستخلاص الناس أصابوا فى ذلك أم أخطأوا، وإنما هو توجيه قرآنى صادر بأمر ربانى صريح إلى النبى أن يبدى للناس أنه ليس إلا بشرا رسولا اصطفاه ربه لحمل وأداء الرسالة .
لذلك أراد الإسلام لنبوة القرآن أن تكون نبوة فهم وهداية تدعو بكتابها المبين إلى النظر والتأمل والتفكير، وليست نبوة استطلاع وتنجيم وخوارق وأهوال.. النبى ليس منجما ولا عالمـا بالغيب، وليست النبوة نبوة سحر أو رؤى أو أحلام أو قراءة طوالع وأفلاك.. «قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعا وَلاَ ضَرا إِلاَ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَنِى السُوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأعراف 188).
لذلك حرص رسول القرآن أن ينحى عن أذهان الناس سمعة المعجزة المسكتة عندما جاءته ميسرة يوم كسفت الشمس وظن الناس أنها كسفت لموت ابنه إبراهيم، فأبى عليهم ذلك، ونبههم إلى أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفـان لمـوت أحد ولا لحياته.. ومع تعدد ما ورد فى المأثورات عن المعجزات والآيات التى صاحبت مولد محمد عليه السلام وطفولته، إلا أن عنايته الكبرى كانت بلفـت انتبـاه الناس إلـى معجـزة القـرآن وما ينطوى عليه من آيات ومدد لا ينقطع (وذلك حسب ما ذكره أستاذي "رجائي عطية" في مقاله بعنوان "النبوة المحمدية أوائل النبوات").
ومن هذا المنطلق وجدنا أن النزعة العقلية تبدو لنا واضحة في حديث "ميثم الجنابي" عن فقدان "المواد الوثائقية" للنبي صلي الله عليه وسلم؛ حيث يقول ميثم الجنابي:" إن فقدان "المواد الوثائقية" عن حياته السابقة للدعوة هو نتاج لانعزاله الفردي. إذ لا تحتوي كتب السير والتاريخ سوى معلومات قليلة عنه، بينما تسهب عن أهله وأسلافه، ابتداء من قصي وانتهاء بعبد المطلب. لا سيما وإن الموقع الاجتماعي لأجداده وأسلافه والأخبار المنقولة عنهم عبر ذاكرة الأجيال، يجعل من الصعب تجاهل قيمة أخبار البيت الهاشمي حتى في مراحل ضعفهم الاقتصادي والاجتماعي. وقد أدى هذا الضعف على خلفية اليتم المبكر والفقر إلى أن تكون العزلة والانعزال ملاذه الأخير. ونعثر في القرآن على دفاع شديد عن الأيتام، بحيث وضع إهمال اليتيم في مصاف الكذب بالدين كما في الآية: "أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم"، أو أن يجعل من إطعام اليتيم إحدى "ضمانات" دخول الجنة كما في قوله "وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. وإطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة" .. الخ (24).
إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي " ميثم الجنابي" وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.
وينهج الدكتور "ميثم الجنابي" في معالجته لقضية منهج الكتاب خلال أقسامه، منهجا نقديا في كل أقسامه، مع استخدام منهج تحليلي تركيبي، بمعني أنه كان معنيا بتحليل أقوال الآخرين فيما يتعلق بالمنهج ووسائله ووسائل التحقق به عند كل الطوائف والأفكار الأخرى.
لقد استطاع المؤلف "ميثم الجنابي" الوصول إلي نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلي درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:
أولاً: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلي المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح للإسلام وحديث المؤلف عن الفهم هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم، ومن الأمثلة علي ذلك قول "ميثم الجنابي" في الإرادة الإلهية:" لكن المنطق يكشف ويبرهن على حقيقة جوهرية ألا وهي أنَّ غلبة الإرادة في التحدي الشامل جعلت من "إرادة الله" الملجأ الأول والأخير لاختيار الفعل بوصفه تحدياً. وبالتالي، فإنَّ "إرادة الله" تعني الإرادة المطلقة، أي إرادة اختيار الفعل بمعايير الحق، التي ستجد منفذها الجلي بالنسبة للوعي الديني والسياسي والأخلاقي في ما يسمى بأسماء الله الحسنى، بوصفها مؤشرات على الفضائل العملية. بينما يشكل اختيار أي منها تحقيقاً للإرادة. وضمن هذا السياق يمكن فهم تنوع واختلاف المواقف من الشدة إلى الرحمة، ومن الهجوم إلى الصبر وكثير غيرها، على وحدة الثبات في التغير. وذلك لأنَّ عدم اقتران الفعل المختار بمعايير الحق يؤدي بالضرورة إلى زعزعة اليقين وخلخلة الإرادة. فالإرادة الحقيقة بلا رغبة. بينما الإرادة المقيدة بالرغبة مجرد أهواء عابرة. ومن ثم ليست قادرة على الصمود أمام التحديات الكبرى. فقد جعل النبي محمد من كل تحد درجة قصوى، وانه لا صغائر في الأمور، انطلاقا من أنَّ الأشياء بالنسبة لله كلها سواء. الأمر الذي يجعل من الأشياء كلها سواء بالنسبة للإرادة المتسامية (25)؛ ثم يؤكد قائلا: ونعثر على هذه الصيغة في شخصية محمد وإرادته حالما تجسدت في حالة "شخصية نبوية وإرادة متسامية". ولعل الحادثة الشهيرة عن رفضه المساومة على نبوته وإرادتها الفاعلة مهما كلفه الأمر بالعبارة الشهيرة "حتى يظهره الله أو اهلك دونه". ففي هذه العبارة والموقف نعثر على باعث اليقين بوصفه جوهر الإرادة المحمدية. فالإرادة المتسامية تعادل على الدوام فكرة اليقين. إذ يتغلغل اليقين في الإرادة ويتماهى معها بالشكل والمضمون، بحيث لا يمكن التفريق بينهما. فقد ظهرت عنده منذ البداية فكرة "حق اليقين" و"عين اليقين". وهو يقين يختلف عن يقين العلم والمعرفة، ويقين التقليد، ويقين البلادة والغباء. فالأول يحتمل الشكوك، بينما الثاني لا يعرف الشك، أما الثالث فهو يقين التقليد بمختلف مظاهره وأشكاله، والذي كان يطغي على تقاليد الوثنية العربية. أما اليقين المحمدي فهـو يقين متفائل، وذلك لأنه يقين النبوة أو حدس الوجدان الخالص. من هنا تداخل التفاؤل بالمعاناة العميقة التي تضعه أحيانا أمام هاوية اليأس والقنوط، ثم تعيده من جديد إلى تفاؤل مغر. فالإنسان الذي يدرك إرادته على أنها الحلقة الرابطة بين الأزل والأبد لا يصاب باليأس والقنوط، أو على الأقل أنَّ هذه الأحوال تظهر وتضمحل بوصفها شفرات القطع الحادة لما هو عالق وعابر، أو حجر المبرد الذي يقطع الشكوك بيقين الإحساس الجديد بنعومة "الأذى"!(26).
ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق التاريخية للنبي، فقد وفق المؤلف في الوصول إلي الحقائق التاريخية للنبي صلوات الله وسلامه عليه وتقديمها في صورة لا يجد القارئ صعوبة في إدراكها والإلمام بها، فقد اختار الوسائل المساعدة لذلك، من عرض نظري لنقد نصوص المؤرخين، إلي مجال تطبيقي معتمدا في ذلك علي نقد جملة من النصوص التاريخية التراثية، والتي توصل المؤلف من خلالها إلي حقيقة مهمة، ومن الأمثلة علي ذلك قوله:" بلورت الثقافة الإسلامية مختلف الصيغ النموذجية عن النبي محمد. بحيث ارتقى فيها إلى مصاف النبوة المتسامية، أو نبوة التشريع وخاتمة الشرائع والأديان. الأمر الذي جعل من التعامل معه بمعايير النبوة، كما بلورتها الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها، ميدانا للاختلاف والاجتهاد، لكن المشترك فيها وبينها هو جعله نموذجا، ومثالا، ومرجعية مطلقة، وميزانا توزن به الأقوال والأعمال. بحيث لم تتورع الثقافة هذه نفسها، على الأقل في بعض تياراتها، من أن تبتدع أحاديث مزورة من حيث الصياغة لكنها معقولة من حيث المعنى كما نراه، على سبيل المثال، فيما ينسب إليه من قول: "إذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تُعرَض عليّ أعمالكم"، و"إني أوشك أن ادعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي" (27).
وهنا ينتقد هذا القول فيقول:" لكن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في أن كتب "السيرة النبوية" بدأ من عروة بن الزبير (ت-93 للهجرة) مرورا بإبان بن عثمان (ت- 101 للهجرة)، وشرحبيل بن سعد (ت-121 للهجرة)، وابن شهاب الزهري (ت-124 للهجرة)، وانتهاءً بمحمد بن إسحاق (ت-151 للهجرة)، وبعدها أخذ منه وعنه ابن هشام (ت-213 للهجرة) في كتابه المشهور (السيرة النبوية) ولاحقا يضيف لها أو يتوسع في بعض جوانبها محمد بن سعد (ت-230 للهجرة) في (كتاب الطبقات)، هي تجميع كمي للمعلومات فقط (28).
ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتي استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ميثم الجنابي لتقييم شخصية محمد عند الغربيين، حيث يقول المؤلف:" اما بالنسبة لدراسات والابحاث التي كتبت عنه في الثقافات غير الإسلامية، وبالأخص عند الأوربيين فقد اختلفت فيه الآراء والمواقف والأحكام. وفي اختلافاتها وتنوعها تعكس اولا وقبل كل شيء اختلاف مراحل الأحكام، ومستوى تطور المعرفة وتدقيق العلوم، ونوعية المناهج، إضافة إلى مختلف الصيغ الظاهرية والمستترة لانتماء الباحثين الديني والقومي والثقافي.. ثم يعطسنا إشارات كثيرة لبعض الكتب "النموذجية" بهذا الصدد، مثل: المؤلفات القديمة التي كتبها بيوتر الموّقر (ولد عام 1594)، الذي ألف كتابان، الأول تحت عنوان (سيرة النبي وحياته) والثاني (جدل بين مسلم ونصراني). وكلاهما مليئان بالتشويه والكذب.()12، ومثل كتاب كوسين دي بيرسيفال(1795-1817) عام 1846-1848 عن (تاريخ الاسلام وحياة محمد) بثلاثة أجزاء. وتبعه أو تزامن معه كتاب ميولر عام 1858 بأربعة مجلدات ضخمة عن حياة محمد هي من بين أفضل الأعمال المكتوبة آنذاك بالإنجليزية وصدرت تحت عنوان (حياة محمد وتاريخ الاسلام منذ الهجرة، مع مقدمة خاصة بالمصادر الأصلية المتعلقة بسيرة محمد). () 13، وكذلك مثل كتاب بيل، ر. (أصل الإسلام في بيئته النصرانية) عام 1928 بالإنجليزية، وكتاب سويتمان ج. (الاسلام واللاهوت النصراني) بثلاثة أجزاء (1945-1955) بالإنجليزية، وكتاب المؤلفان فيول ف.، وشنايدر (حياة محمد) بالألمانية 1955، وأخيرا كتابات واط مونتغومري واط (محمد في مكة) (1953) و(محمد في المدينة) (1956) وكلاهما بالإنجليزية. والأخير من بين أكثر الكتب موضوعية ودقة وتتبعا لحياة محمد العملية (29). ... وللحديث بقية..
الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .
.....................
(24) ميثم الجنابي: محمد رسول الإرادة، ص 67-68.
(25) نفس المصدر، ص 178.
(26) نفس المصدر، ص 179.
(27) نفس المصدر، ص 8.
(28) نفس المصدر، ص 9.
(29) نفس المصدر، ص 14.
مجدي إبراهيم: الإمام الجنيد.. سيد أولياء الإسلام (4)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. مجدي ابراهيم
قلنا في المقال السابق إنّ أحدهم لم يعتمد في رأيه أو رأي من نقل عنه التجربة الذوقية، فراح ينسب تصوف الجنيد إلى العقل النظري والتأمل الفلسفي الأمر الذي أثار فينا العجب والدهشة لا لشيء إلا لأنه رأي يخالف نصوص الجنيد المقطوع بها صراحةً وضمناً، ويتقوّل عليه إذْ يحمل نصوصه فوق ما تحتمل؛ بل ليس ما تحتمل.
وقلنا إن أمثال هؤلاء قد تناسوا أولاً: الطابع العام لمذهب أفلوطين وهو طابع حركي يؤكد الانتقال الدائم بين الحركتين الصاعدة والهابطة، ويفصِّل الكلام في هبوط النفس من مقرها الأعلى إلى عالم الأجسام، ثم عودتها بالتطهير من العالم المحسوس إلى العالم المعقول.
صحيح أن هذه الصفة الحركية نادراً ما تظهر في مذهب عقلي خالص؛ بل تهيب المذاهب العقلية في أغلب الأحيان بفكرة الثبات والسكون، ولكن مع ذلك فهذا الطابع العام لمذهب أفلوطين موصوف بالتصوف العقلي وليس هو بالتجربة الصوفية المعتمدة أساساً على القلق وحدَّةِ العاطفة ويقظة الشعور أو توتره، أو على الانفعال. هذا فضلاً عن أن أسلوبه دجماطيقي جازم حافل بالتأكيدات القاطعة والأسلوب التوكيدي الذي يبعد بصاحبه عن أن يكون من ذوي الخيال الجامح والرؤيا الصوفية.
وتناسى هؤلاء ثانياً: "المضمون الديني" الذي يشكل فهم التجربة الروحية (الصوفية الذوقية) للآيات القرآنية فَهْمَ تحقيق وتجريب ليس فيه من تقليد الفلسفات القديمة شيء إلا ما يكون منها تشابه في طلب الحقائق الباطنة، وهى مطالب إنسانية وعامة ومشتركة ينزع في طلبها الإنسان في كل زمان ومكان، وتتمثل في "وحدة الروح الإنساني".
عندي أن الجنيد قد أستقى الفكرة مباشرة من الآية الكريمة في سورة الأعراف:" وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَتهُم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىَ أَنْفُسِهِم ألَسْتُ بِرْبِكمُ؟ قَالوا: بَلَى شَهِدْنَا؛ أنْ تَقُوُلوُا يَومَ القيامة إنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِيِنَ" (سورة الأعراف: آية 172).
في هذه الآية تحديداً، آية الميثاق كما يُطلق عليها المتصوفة في كتاباتهم - الآية التي ذرَّ اللهُ فيها الخلائق - قال الجنيد:" فمن كان، وكيف كان، قبل أن يكون، وهل أجابت إلا الأرواح الطاهرة العذبة المقدسة، بإقامة القدرة النافذة والمشيئة التامة: الآن كان، إذْ كان، قبل أن يكون، وهذا غاية حقيقة الموحِّد للواحد يذهب هو؛ وهو أن يذهب كما لم يكن، ويتلاشى وتنمحي أوصافه، وتبقى أوصاف الحق كما لم يزل". هذا هو موطن الفناء في التوحيد، مأخوذ بالمباشرة من آية الميثاق؛ ولا زيادة عليه لمستزيد.
وددتُ لو أني أطلتُ الكلام عمداً في هذه الآية التي تكلم فيها متصوفة الإسلام كل بقدر ما يفتح الله به عليه، وكل بقدر أنفاسه الرَّحَمانيَّة وفتوحاته الإلهية: إنهم يسمونها "آية الميثاق"؛ ويطلقون الفهم فيها فهم تحقيق قائم على الذوق القلبي وبصيرة الشهود لا على النظر العقلي أو على التأمل الفلسفي كما هو الحال عند أفلاطون أو أفلوطين.
شَتَّان ما بين العقل والتجربة أو بين التأمل الفلسفي ووحي العقيدة. الأول يعتمد النظر الخالص، واعتماد الثاني على التجربة المباشرة. الأول أفلاطوني أو أفلوطيني والثاني جُنَيْدِيٌ مُستقى من العقيدة التي ينتسب لها ويدين بالولاء.
وللإمام الجنيد كتابٌ خاصٌ بهذه الآية الكريمة يُسَمْىَ بكتاب "الميثاق"؛ وكتاب الميثاق يشرح فيه الجنيد شرحاً صوفياً خالصاً آية الذر كما وردت في سورة الأعراف، ويلتقط منها المعاني القرآنية لا الفلسفية التقاطاً روحياً لا كما توهم أحدهم فحاول أن يشوه مثل هذا الأثر الخالد للجنيد؛ لأن العلاقة بين التصوف والفلسفة هاهنا لهى أبعد ما تكون.
وفيه إشارات عالية عن حال الفناء تأخذ بلب القارئ، وله مخطوط "دواء الأرواح" يَتَحَدَّث فيه عن "آية العهد"؛ أو "آية الميثاق"؛ إذْ جاء في مطلع المخطوط المذكور قوله:" الحمدُ لله الذي أبَانَ بِوَاضِح البرهان لأهل المعرفة والبيان بما أخصَّهم به من قديم الزمان، وَقَبْل كَوْنِ القَبْلِ حِيِنَ لا حِيِنُ، وَلا حَيْثُ، ولا كيف، ولا أين؛ أنْ جعلهم أهلاً لتوحيده، وإفراد تجريده، والذَّابِّين عن إدراك تحديده؛ مصطنعين لنفسه والمصنوع على عينه .." ( يراجع: أبو القاسم الجنيد: دواء الأرواح؛ مخطوط 57 على ميكروفيلم رقم 4965، بالهيئة المصرية العامة للكتاب -3 ورقات- لوحة رقم (1)، وانظر دواء الأرواح: ضمن مخطوطة رسائل في التوحيد، (لوحة 53ي). وهذا المخطوط شأنه كشأن غيره من أكثر كتب الجنيد - ككتاب السر في أنفاس الصوفية، أو كأجزاء من كتاب "دواء التفريط"- غير مذكور ولا مُدْرج ضمن مؤلفات الجنيد؛ في "رسائل الجنيد" التي قام بتحقيقها على حسن عبد القادر، وقد أشرنا إلى ذلك كثيراً منذ فترة مبكرة في كتابنا " التصوف السني .. حال الفناء بين الجنيد والغزالي" (راجع من هذا الكتاب ص 295 و ص 409).
فالأرواح السعيدة العارفة هى التي أجابت بنعم؛ أجابت بقدر استعدادها، فاختارت "نعم" فحقت عليها السعادة. أما الأرواح الشيقة التعسة؛ فإن استعدادها للضلالة شيء قد تقرَّر سلفاً، قدروه ونهجوه وسلكوا طريقه منذ أن كانوا خلائق روحية بين أرواح في عالم الذَّر، خاطبهم الله بهذا الخطاب:" أَلَسْتُ برَبّكُم"؟!، فمنهم من أختار الهداية، ومنهم من حقَّت عليه الضلالة، فكانوا هم أهل الضلالة لا محالة، تماماً كما أن السعداء كانوا هم أهل السعادة باختيارهم طريق الهداية.
ومن لطائف الإشارات في تفسير هذه الآية الكريمة أن القشيري قال فيها من بعض ما قاله: أخبر بهذه الآية عن سابق عهده وصادق وعده؛ فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بصر أو ظهر في قلوبهم لمصنوع أثر. جمعهم في الخطاب ولكنه فَرَّقَهُم في الحال: وطائفة خاطبهم بوصف القربة؛ فعرفهم في نفس ما خَاطَبَهُم، وفرقة أبقاهم في أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم. أقوامُ لاطفهم في عين ما كاشفهم؛ فأقروا بنعت التوحيد. وآخرون أبْعَدَهم في نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود. وأسمع أقواماً بشاهد الربوبية فأصْحَاهم عن عين الاستشهاد؛ فأجابوا عن عين التحقيق، وأسمع آخرين بشاهد الربوبية؛ فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود " (: لطائف الإشارات، م1، ص 585).
على أن المقصود بالميثاق عند الجنيد - كما قلنا في كتابنا "التصوف السني ... "، هو السلب المطلق للشعور بالذوات في حال الفناء أو بالأحرى حال الدعوى أو حال العهد؛ فلما سألهم الحق مخاطباً إياهم:" أَلَسْتُ برَبّكُمْ ..؟"، أخبر تعالى أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم، إذْ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم. كان الحق بالحق في ذلك مَوْجُوُداً بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ولا يجده سواه ".
فهذا المعنى من قبيل الجنيد لا يؤكد كمون التوحيد في الفطرة فقط. ولكنه يأخذ العبد أخذاً بما تجري فيه من تصاريف الحق عليه كيما يكتشف بتجربة الفناء حقيقته الأصلية؛ وهى التي أشار إليها برجوع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان إذْ كان قبل أن يكون؛ هنالك يتأكد المعنى الجديد للتوحيد، يتأكد بفعل التجربة؛ فتتأكد معه حقيقة الموحِّد: يَذْهَب هو ويبقى الباقي حقيقةً: يبقى الباقي كما كانَ ولا شيء معه، ويفنى الفاني كما لم يزل. فليس التوحيد قُصَارَاهُ أنه كامن في الفطرة وكفى؛ وليس قُصَارَاهُ أنه ساكن فيها أو مغروز في الحقيقة الآدمية فقط بمقدار ما هو شهود بالتجربة المباشرة لهذا التوحيد على الحقيقة؛ أي ليس فيه كمون - كما يذهب بعضهم (د. عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام؛ طبعة دار الفكر العربي، القاهرة سنة 1966م؛ ص 195- 196)؛ فيروح فيستخرج من هذا النص معنى الكمون فيقول:"إن الجنيد يؤكد كمون التوحيد في الفطرة"؛ لا، لأن كلمة الفطرة وحدها تحتوي ضمناً معنى التوحيد، فلا معنى للعبارة من أساسها؛ بل معناه أن هاهنا حركة باطنة - لا كامنة - في الوعي الصوفي، في حقيقته الآدمية، في ذات العبد الموحِّد، يدرك بها إدراكاً ذوقياً حقيقته الأصلية؛ أو قُل إنه يكتشفها من جديد؛ فيعرف على الحقيقة أن التوحيد شهادة أصلية يوم ذَرَّ الله أرواح الخلائق؛ فأجابت.
ومما ذكره الجنيد في كتاب "الفناء" تدليلاً على آية العهد والميثاق هذه؛ قوله:" نَطَقْتٌ بغيبتي عن حالي، ثم أبدى عليَّ من شاهد قاهر وظاهر شاهر، أفناني بإنشائي كما أنشأني بدْياً في حال فنائي، فلم أوثر عليه لبراءته من الآثار، ولم أخبر عنه إذ كان متوالياً للأخبار، أليس قد محي رسمي بصفته، وبإمتحائي فات علمي في قربه؛ فهو المُبْدي كما هو المعيد".
هنالك في بطن التَّحَقُّق؛ في بطن التجربة؛ يكون السلب المطلق لشعور الذوات بأنفسها وانمحائها عن كل ما سوى الله تحقيقاً للوحدة التي يكون الحق تعالى فيها فَرْدَاً على الحقيقة، ويكون العبد عبداً على الحقيقة، وليس من وصف ولا رسم لغيره تعالى؛ بل المخلوقات ممحيَّة الصفات والرسوم ظاهرة بشاهد قاهر وظاهر شاهر، متحققة بصفة الإلوهية، موقوفة على سر معنى قوله هو المُبْدي لها وهو المعيد.
وحين يرجع العبد إلى هذه الصفات الأولى، يكون قد بلغ المرتقى من الفناء في التوحيد؛ يعرف حقيقته، ويدرك الوحدة إدراكاً من طريق الذوق والفتوح الروحي لا من طريق النظر الفكري أو التأمل العقلي. إنما الوحدة هنا "وحدة التوحيد والفضائل الإلهية"، هى وحدة شهود في حال الفناء، وليست بوحدة وجود كما هى حال الوحدة عند ابن عربي وتلاميذه من مدرسة الوحدة الوجودية. الوحدة التي يقول بها الجنيد هى وحدة لا تتم إلا بفضل من الله؛ لأن الله كان واجداً لما أن خَاطبَ الأرواح في عالم الذَّر ولم يكن لوجودها وجود مستقل؛ فأوجدها بمعنى لا يعلمه إلا هو ولا يجده سواه؛ فقد كان واجداً محيطاً شاهداً عليهم بَدْيَاً في حال فنائهم عن بقائهم الذين كانوا فيه في الأزل للأزل.
وقد أجمع الصوفية فيما بينهم على فهمٍ تحققوا منه خَاص بتلك الآية المباركة، فيما يسمى بـــ "الاستنطاق للذرية"؛ فكما كان للجنيد حديث عن الميثاق؛ كان كذلك للحكيم الترمذي حديث آخر عنه في كتابه "الرياضة وأدب النفس"؛ وهو أن الله تعالى حينما قسم الحظوظ يوم المقادير، أستخرج ذرية آدم من الأصلاب واستنطقهم كما في الآية الكريمة المشار إليها سلفاً من سورة الأعراف؛ ثم رَدَّهم إلى صلب آدم عليه السلام. غير أنه يخرجهم في أيام الدنيا للأعمال وإقامة الحجة؛ فكل من وقعت عليه جبايته واختياره، وصبغ قلبه - أي غمس قلبه - في ماء الرحمة حتى طَهَّره به؛ وهو قوله عز وجل:" صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَة" (سورة البقرة: آية 138)؛ ثم أحياه بنور الحياة، وقد كان قبل ذلك بضعة من لحم جوفاء فلمَّا أحياه بنور الحياة تحرك وفتح عينيه اللتين على الفؤاد، ثم هداه بنوره وهو نور التوحيد ونور العقل.
فلمّا أن أشرق في قلبه وأستقر الفؤاد، وهو القلب، إلى ذلك النور؛ عرف ربه عز وجل بهذا النور المبثوث بين طَوَايَا القلب وشغافه، ومنه يُفهم قوله تعالى:" أوَمَن كَانَ مَيْتاً فأحْيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورَاً يَمْشِي به في النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجِ منهَا؛ كذلك زُيِّن للكافرين ما كانُوا يَعْمَلونَ" (الأنعام: آية رقم 22).
فإنّ الذي يفهم من آيات القرآن الكريم هذا الفهم الذي يشكله المعتقد الديني ينتسب إليه؛ يفهمه بتحقيق الإيمان وتحقيق التوحيد، ولا يفهمه بالنظر إلى تراث اليونان وأمامه كتابه الكريم حتى ولو كان التشابه موجوداً شكلاً طفيفاً ينقصه المضمون. على أنه ليس تشابهاً في الجوهر ولا في المضمون ولا في الأسس التي قامت عليها أركان الحياة الباطنة كطريق يعرفه صوفية الإسلام، ولكنه تشابه في الوسائل التي لا تنفذ إلى الأغوار العميقة يستقي منها الصوفي ما من شأنه أن يكون مُعتمدَه في طريق الله.
(وللحديث بقية)
بقلم: د. مجدي إبراهيم
عدنان حسين أحمد: الرجل الذي باع جلده.. عبودية الجسد في الفن الحديث
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عدنان حسين احمد
اختار القائمون على الدورة الحادية عشرة لمهرجان مالمو للسينما العربية فيلم "الرجل الذي باع جلده" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية أن يكون فيلم الافتتاح وهو يستحق ذلك بجدارة كبيرة لما ينطوي عليه من مضامين فكرية وفنية وإنسانية تؤهله لأن يكون في موضع الفيلم المُحتفى به الذي يثير لدى المتلقين العديد من الأسئلة العصيّة والجريئة والشجاعة التي تفتقر إليها في الزمن الذي تتغوّل فيه سلطات الأنظمة العربية وتزداد توحشًا يومًا بعد يوم.
تسعى المخرجة التونسية كوثر بن هنية إلى خلق أسطورتها الخاصة، فهي لا تتكئ على الماضي ولا تعود إليه. وبدلاً من أن تقول:"كان يا مكان في قديم الزمان" تلتفت إلى الزمن الحاضر، وتحدّد المكان من دون خوف أو وجل لتقول:"كان هنا لاجئ سوري غادر وطنه إلى بيروت بسبب الحرب المشتعلة كي يلتقي بحبيبته عبير. وبعد أن باع ظهره، وحوّل جلدهُ إلى كانفاس حيِّ متنقلّ يُعرض أمام الجمهور فقد حريته. وحينما حصل على المال ووصل إلى بلجيكا وجد أنّ حبيبته عبير قد تزوجت!". ينطوي هذا الفيلم على قدرٍ كبير من التشويق، والإثارة، وسلاسة السرد، وحيوية الثيمة الحسّاسة التي تهزّ المتلقي ولا تدعهُ يشعر بالملل أو الضجر وذلك لهول الصدمة التي تفرض حضورها على مدار الفيلم الذي بلغت مدته 104 دقائق.
استدعاء المخيّلة للنص الغائب
قد تبدو قصص الحُب، والهروب من الأنظمة القمعية، وطلب اللجوء في البلدان الأوروبية عادية ومألوفة ما لم تسعفها تقنية جديدة، ومعالجة فنية غير مطروقة من قبل. وفيلم "الرجل الذي باع ظهره" لكوثر بن هنية يعتمد في بنيته الداخلية وهيكله المعماري العام على "النص البصري الموازي" أو "النص الغائب" الذي نفّذه الفنان الأمريكي جيفري غودفروي على ظهر اللاجئ السوري سام علي بعد أن تعاقد معه على شراء ظهره واستعماله كأي سطح تصويري "حيّ" مقابل حصوله على تأشيرة شنغن التي تسمح له بحرية الحركة في غالبية الدول الأوروبية المنضوية تحت شروط هذه الاتفاقية. هذا العمل الفني الحيّ الذي نقشه الفنان جيفري غودفروي على ظهر سام علي يُحيلنا مباشرة إلى العمل الفني الذي نفّذه الفنان البلجيكي فيم ديلفويَ على ظهر المواطن السويسري تيم شتاينر الذي اقتناه تاجر الأعمال الفنية الألماني ريك ريّنكنغ ودفع له ثلث ثمن العمل الذي بلغت قيمته 130 ألف يورو، وسوف يظل جسد شتاينر إطارًا لهذا العمل الفني، وحينما يموت يُسلَخ جلده للاحتفاظ بالعمل الفني الثمين الذي يعود لممتلكات ريّنكنغ.
فاوست باع روحه للشيطان من أجل المعرفة المطلقة
لا تكتمل هذه السردية البصرية ما لم نتذكر العقد الذي أبرمه الدكتور يوهان فاوست مع الشيطان وسلّم له روحه مقابل الحصول على المعرفة المطلقة والملذات الدنيوية. وأكثر من ذلك فإن المخرجة شحنت تضاعيف الفيلم وبعض مَشاهده بطاقة فلسفية إذ تحوّل هذا اللاجئ السوري إلى سلعة باهضة الثمن يتاجر بها الأوروبيون الأثرياء من جامعي التحف، والأنتيكات، والأعمال الفنية الغريبة. وإضافة إلى التشيؤ والتسليع يطرح الفيلم سؤال الحرية الذي نفتقده في عالمنا العربي الذي تقسّمهُ الحدود المصطنعة، وتقيّدهُ التأشيرات التي دفعت الشخصية الرئيسة في هذا الفيلم لأن يكون شيئًا أو سلعة قابلة للبيع والشراء من دون النظر إلى كرامة الإنسان، وقدسيته ككائن بشري ينبغي أن يحظى بأعلى درجات الاحترام،ويعيش حياة كريمة لا يحتاج فيها أن يبيع روحه للشيطان، وجسده لتجّار التحف الفنية.
لم يأتِ الفنان المفاهيمي البلجيكي فيم ديلفويَ بفكرة النقش على أجساد البشر والحيوانات من عندياته وإنما استوحاها من الفن الياباني الذين يرسمون فيه على جلود البشر ثم يسلخونها بعد مماتهم ويحوّلون هذه الجلود إلى سطوح تصويرية مسطحة تمامًا بفعل المعالجة التقنية المتطورة.
تسير أحداث ووقائع هذا الفيلم على وفق خطٍ زمني مستقيم يركِّز، بادئ ذي بدء، على شخصية البطل سام علي الذي جسّده الممثل السوري الشاب يحيى مهايني بكثير من المهنية والتوهّج والإتقان الأمر الذي دفع لجنة التحكيم في الدورة السابعة والسبعين لمهرجان البندقية لمنحه جائزة أفضل ممثل لتقمصه هذا الدور وتألقه فيه.
استعباد الإنسان من جديد بواسطة الفن المعاصر
تعود بنا الأحداث إلى انتفاضة الشعب السوري عام 2011 وسعي الشباب الثائر إلى تحقيق حرية المواطن السوري مما يعرّض البطل إلى الاستجواب والسجن والتعذيب حيث تنطلق بداية الأحداث من زنزانة يخرج منها سام علي ليبحث عن طريقة ما للنفاذ بجلده، فتوصله شقيقته إلى الحدود اللبنانية ثم يتسلل إلى بيروت التي تحتضنه بطريقة ما وتوفر له فرصة لارتياد صالات الفن التشكيلي التي تقدّم الطعام والشراب مجانًا لروّادها وزبائنها. وهناك يحدث ما لم يكن يتوقعه حتى في الخيال، إذ يلتقي بالفنان جيفري غودفروي ويعقد معه اتفاقًا غريبًا وصادمًا وهو نقش تأشيرة شينغن على ظهره تتيح له التنقّل والتجوال في غالبية الدول الأوروبية لكن هذه الاتفاقية سوف تأخذنا إلى فكرة استعباد الإنسان من جديد بواسطة الفن، ومع ذلك يوافق سام على هذه الفكرة من دون أن يخبر أحدًا من أهله وذويه، كما يخبّئ هذا الخبر الصادم عن حبيبته عبير ويكتفي بالقول بأنه قد وجدًا عملاً في أحد صالات الفن التشكيلي الذي يدّر عليه بمبالغ مادية جيدة لكن هذا الأمر سيؤلب بعض السوريين الذين يرون في هذا العمل إهانة لسمعة سوريا، وازدراءً لإنسانية المواطن السوري.
الحضور الآسر للنجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي
يُعدّ وجود النجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي عامل دفع، وعنصر قوة في هذا الفيلم فهي التي تلتقي سام علي في الغاليري وتقترح عليه أن تزوده بالطعام والشراب المجاني، ثم تكمل معه اشتراطات الاتفاقية بوصفها المسؤولة عن هذا المعرض الذي ترّوج للوحاته وتبيعها لجامعي التحف والأعمال الفنية النادرة. وقد أضفى حضورها متعة جميلة وآسرة في مَشاهد غير قليلة من الفيلم. أما عبير التي كانت تنتظر منه أن يتقدّم لخطبتها قد فقدت الأمل لأنه تأخر بعض الشيء الأمر الذي دفعها للموافقة على قبول الزواج من دبلوماسي سوري بعد أن يئست من سام علي الذي كانت تتلاعب به الأقدار.
البعض لا يعتبر التاتو عملاً فنيًا
يأخذ الفيلم مسارات سردية متعددة تبدأ من موافقة سام علي على مشروع غودفروي بنقش تأشيرة شينغن على ظهره لنكتشف عبودية جديدة من نوعها اسمها عبودية الفن المعاصر في القرن الحادي والعشرين التي تستدعي إلى الأذهان عبودية الإنسان واسترقاقه في القرون المنصرمة. يحتاج هذا العمل النقشي على ظهر سام علي إلى بعض الوقت كي يُستكمل بشكله الفني الذي يوافق ذائقة تجّار الفن، فالبعض لا يعتبر التاتو عملاً فنية، ومع ذلك فإن البعض الآخر يرون فيه عناصر جمالية تغري الآخرين على متابعته والاستمتاع فيه. وحينما يُنجز التاتو يتم عرض ظهر سام علي كعمل فني في أحد المعارض البلجيكية الذي يستقطب عددًا كبيرًا من الزوّار ومتذوِّقي رسومات التاتو، وقد رأينا كيف تحوّل سام علي إلى قماشة رسم وهو جالس لساعات طوالاً أمام المتفرجين الذين لا يصدقون أن الشخص الجالس أمامهم قد تحوّل إلى إطار للعرض، فبعضهم يحاول لمسه، أو التصوير معه، أو الاحتجاج عليه، فإهانته بهذه الطريقة هي إهانة لإنسانية كل إنسان يراه ويُحتمل أن يكون بديلاً له.
بيع الجسد إهانة للشعب السوري وإذلالاً لكرامته الشخصية
تتطور الأحداث فتأتي حبيبته عبير صحبة زوجها زياد عبدالله الذي يتشفّى بغريمه سام علي ويعتبر ما يقوم به إهانة كبيرة للشعب السوري وإذلالاً لقيمته الإنسانية إن كان يتوفر عليها غير أن الدبلوماسي السوري يفقد أعصابه ويدمر عملاً فنيًا قيمته أحد عشر مليون دولار يفضي به إلى السجن لكن ثمة اتفاقية تُعقد بين الطرفين تتيح للدبلوماسي الخروج من السجن مقابل السماح بعودة سام علي إلى سوريا مُجددًا. فرغم حصوله على مبالغ مادية طائلة إلاّ أنها لم تعوّضه عن حُب الوطن وضرورة التواجد في مدينة الرقّة التي أحبها وتعلّق بها.
ربما تتجسّد ذروة انفعال سام علي حينما يُعرض في صالة لبيع الأعمال الفنية ويأتي التجار والمضاربون من مختلف أنحاء العالم ليقتنوه بوصفه عملاً فنيًا، وبينما كان يستمع لهم ويرى كل شيء بعينيه يسحب سماعتيه بقوة وعنف وكأنه يفجّر حزامًا ناسفًا فيخرج الحضور بفزع كبير لكن التفجير لم يكن سوى خدعة صنعتها مخيّلة المخرجة كوثر بن هنية.
مات البطل برصاصة داعشية لكنه ظلّ حيًا في مخيّلة المخرجة
يعود سام علي إلى الرِقّة ليظهر لنا في بدلة برتقالية وإلى جواره شخص داعشي يطلق عليه النار ويرديه قتيلاً في الحال لكن المخرجة لم ترد له أن يموت وإنما ظل حيًّا برغم الرصاصة الداعشية التي استقرت في رأسه حيث يلتقي عبير مجددًا بعد أن تخلى عن العرض الاستعبادي لجسده، وبات يمتلك حريته الشخصية التي ضحّى بها من أجل الوصول إلى حبيبته التي سبق وأن رأيناها معه في القطار وهو يطلب من أحد الشيوخ أن يعقد قرانه عليها، وبما أنّ العربة كانت خالية من رجال الدين فقد تطوّع أحد المطربين للقيام بهذه المهمة وإتمام عقد الزواج وسط أغانيه الصادحة، ورقصات بعض المسافرين الذين تماهوا مع هذا الحدث المبهج وأندمجوا فيه في إشارة واضحة لأن ثيمة الفيلم تنتصر للحب والحياة والأمل الذي يتسلح به غالبية المواطنين السوريين.
عناصر مؤازرة لاكتمال الفيلم الذي مرّ مثل طيف خاطف
ثمة عناصر أخرى ساعدت على اكتمال الفيلم وتألقه من بينها براعة التصوير الذي تبناه كريستوفر عون، والموسيقى الجذابة التي اختارها أمين بوحافة، والمونتاج السلس الذي قامت به ماري هيلين دوزو بحيث مرّ الفيلم مثل طيف خاطف من دون أن نشعر بثقل الوطأة الزمنية التي تُحدثها الأفلام ثقيلة الظل.
فاز هذا الفيلم بجائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الرابعة لمهرجان الجونة وقيمتها 20000 دولار أمريكي، وسبق للمخرجة أن حصلت قبل عامين على منحة قدرها 10000 دولار أمريكي من "منصة الجونة" التي تدعم الأفلام العربية في مرحلتي التطوير وما بعد الإنتاج.
عدنان حسين أحمد
نجاة تميم: احتكار الخيال في الإبداع والتوق إلى الحرية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نجاة تميم
كان التوق إلى الحرية مشروعا فلسفيا سياسيا والشغل الشاغل للفيلسوف والطبيب الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704). فهو يعتبره الحق الطبيعي لكل فرد، لكي يستطيع تكوين شخصيته المتفردة؛ فالإنسان لن يكون مكتملا في انسانيته إلاّ إذا كان حرا مستقلا عن إرادة الآخر. فهذه الأفكار التي تنتمي إلى القرن السابع عشر، ما زلنا في صراع لتحقيقها في الواقع المعاش كما في مجال الإبداع.
هذا ما عايشناه مع الرواية السيرذاتية المعنونة "سأعيش حياتي"، التي أثارت ضجة إعلامية، وباتت تتقدم لائحة الكتب الأكثر مبيعا، في هولندا، منذ الأسبوع الأخير من شهر آذار / مارس، بعد صدورها يوم 10 شباط / فبراير 2021. وهي الرواية الأولى لطالبة اللغة الهولندية، ذي الثالثة والعشرين ربيعا، لالا غول، الهولندية من أصول تركية. فبعد موجة من الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي ضدها، تبدو أنها ستستسلم وتتوقف عن الكتابة. لقد اهتم الاعلام المرئي والمقروء برفضها للوسط الذي تعيش فيه وتمرّدها عليه أكثر من اهتمامه بتحليل أسلوب ومتن الرواية وأهمية النقد الاجتماعي ووضع المرأة في الوسط الذي تنتمي إليه الكاتبة.
تعيش الشخصية الرئيسة، بشرى، في عالمين متناقضين ثقافيا؛ وسط محافظ ومغلق داخل المجتمع الهولندي الأوروبي المنفتح على الآخر. تذهب كل نهاية الأسبوع إلى مدرسة Milli Görüs لكي تتعلم اللغة التركية، وتحفظ القرآن عن ظهر قلب دون فهم فحوى الآيات القرآنية.
بشرى كما الكاتبة، فتاة ترعرعت في وسط تركي - هولندي في منطقة كولنكيت، غرب أمستردام. تحكي تجربتها كشابة تتوق إلى الحرية، ولا تجد من يستمع إليها ويوجّهها. فوالديها لازالا يعيشان، بنفس العقلية كما كانا في قريتهما التركية النائية، في وسط تحكمه المعتقدات والعادات والتقاليد وتعاليم إسلامية يُمليها تيارٌ ديني متشدد، ممزوجة بأسلوب حياة مشبع بثقافات راسخة في القدم. كما أنهما غير متعلمين ولغتهما الهولندية ضعيفة. وهذا يجعل التواصل مع ابنتيهما صعبا.
تعتبرMilli Görüs أكبر حركة إسلامية تركية في غرب أوروبا ولها نشاطات في عدة دول من بينها هولندا، بلجيكا، فرنسا وألمانيا. فاسم ميلي غوروش مأخوذ من كتاب صدر عام 1975، للزعيم الإسلامي القومي المحافظ "نجم الدين أربكان" (1926 – 2010) والذي يُترجم كإيديولوجية "رؤية وطنية".
كان أربكان أول رئيس وزراء إسلامي (1997- 1998) وهو مؤسس لعدة أحزاب إسلامية وآخرها حزب الرفاه، منذ ستينيات القرن الماضي حتى عام وفاته 2010. ايديلوجية ميلي غوروش ترفض العلمانية وتدعو إلى اتباع القيم الإسلامية وتقوية العلاقات مع الدول الإسلامية. وكان يُؤلمه الصعود السياسي لتلميذيه رجب طيب أردوغان وعبد الله غول عام 2002 إثر فوز أردوغان وحزبه العدالة والتنمية في الانتخابات بأغلبية ساحقة من خلال توليفة ذات مرجعية إسلامية تتبنى (علنيا وليس ضمنيا) الديمقراطية الليبرالية.
تضم مؤسسة ميلي غوروش حوالي خمسين منضمة موزعة في هولندا وثلاثين ألف منخرط هولندي من أصول تركية وتحصل سنويا من الدولة الهولندية على دعم مادي يصل إلى عشرات الآلاف من اليورو. كانت قيادتها لفترة وجيزة تتسم بالليبرالية الدينية حيث أدانت خلال خطبة في مسجد "ميلي غوروش" مقتل المخرج ثيو فان خوخ من قبل محمد بوييري في 2 شباط / نونمبر عام 2004. لكن المركز الرئيسي رفض هذه الليبرالية وسحب الثقة من فرع هولندا. ثم نقل القيادة إلى مقر المؤسسة الأوروبي، المعروف بتشدده. في مدينة كولونيا بألمانيا.
كانت البداية في برونشفايك، عام 1967، حين تجمع بعض الطلاب الأتراك لتأسيس جمعية لتقديم خدمات دينية للعمال الوافدين إلى ألمانيا منذ 1961 وبناء مسجد للصلاة وفضاء لتجمع هؤلاء العمال فيه إلى أن أصبحت، منذ 1995، مؤسسة كبيرة بفروعها المنتشرة في أوروبا.
ففي روايتنا، الشخصية الرئيسة، بشرى كما لالا، مجبرة للذهاب إلى مدرسة نهاية الأسبوع، ميلي غوروش، محجبة، من السادسة إلى السابعة عشر من عمرها. وتتذكر أنها يوما طُردت من المدرسة لأن أظافرها كانت مصبوغة. فقوانين المدرسة صارمة جدا. كما أن الحجاب إجباري بالنسبة للفتيات القاصرات. تقول لالا أنها لم تخبر أمها، عامين كاملين، بدورتها الشهرية وذلك خوفا من أن يُفرض عليها ارتداء الحجاب.
ترفض بشرى القواعد الصارمة في البيت وكذلك في الوسط التركي المغلق الذي يعيشون فيه. النميمة والرقابة الاجتماعية تؤثرا كثيرا على الفتيات وتحدّا من تحركاتهن وكذلك من تنميتهن الذاتية. فتثور بشرى ولا تجد من يفْهمها ويتفهّم حاجياتها كشابة مراهقة. تتراكم أسئلتها وما من مجيب. الوالدان يقعان تحت ضغط لوائح العيب والحرام وليس لديهما تفسيرا لإقناع شابة تعيش في بلد متقدم ديموقراطي يحترم الحريات وبالأخص حرية التعبير التي يتلقّنها الأطفال منذ نعومة أظافرهم في البيت وفي المدرسة ابتداءً من الروض.
أَضف إلى لائحة الممنوعات؛ فالاستماع إلى الموسيقى ممنوع، العلاقات الإنسانية مع الجنس الآخر ممنوعة، تكوين صداقات مع شبان غير قانونية، ارتداء الملابس الجميلة والماكياج غير لائق والسهر خارج البيت غير مسموح، كما الاحتفال بعيد الميلاد والسفرات المدرسية وغيرها. تقول الكاتبة أن بشرى ليست لالا غول. لكن هذه الأخيرة عانت أيضا من كل هذا. فتقول: " لا أريد أن أكون مجرد نبتة في غرفة المعيشة"
زاد الضغط على لالا وعلى عائلتها. فوالدها بدأ يتجنب الذهاب إلى المسجد للصلاة. أما التلفون فلم يتوقف عن الرنين. حسب هذا الوسط، فهي تهين سمعة الجالية التركية وتوسخ سمعتها وللحفاظ على أمنها اضطرت أن تغادر بيت والديها لتعيش في مكان آمن وفرّته لها بلدية أمستردام ورئيستها فِمْكَ هِلسْما (حزب اليسار الأخضر). بالإضافة إلى الرسائل السلبية والتهديديات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأهلها أيضا لم يسلموا من كلام البعيد والقريب. ويقال أن منظمة ميلي غوروش اتصلت بوالدها لتوبيخه. اهتز العالم من حولها داخل هولندا وأيضا في تركيا؛ حيث تًرجمت مقاطع من الرواية وأرسلت إلى الصحف التركية المحافظة. لا تحتوي الرواية على نقد المجتمع الإسلامي المتشدد وسيطرته الاجتماعية وأيضا السياسية على هذه المجموعات بل أيضا رفضا تاما للعيش بهذه المنظومة. وهذا لا يقبله بالطبع المحافظون الإسلاميون ويعتبرونه انتهاكا لشرف العائلة وارتدادا يجب معاقبته.
تعترف لالا أن روايتها تتضمن تفاصيل كثيرة من حياتها. تذهب لالا /بشرى لزيارة عائلة صديقها الهولندي السابق فريك (اسم مستعار)، دون علم أهلها، وتجد آذانا صاغية لها. فوالدة فريك تهتم برأيها في أشياء كثيرة. تريد معرفة ذوقها في الستائر وتناقشها عن السياسة وعن برامج تلفزيونية شاهدوها. أما والد فريك فيتحدث معها بصراحة عن انتخابه للحزب اليميني المتطرف، حزب الحرية PVV . كما أنها (بشرى / لالا) تشاركه الرأي في إيقاف هجرات المسلمين إلى أوروبا.
يبدو أن النظام الأوروبي عملة ذو وجهين؛ فلولا الديمقراطية وحرية التعبير وحرية الأديان، لما استقبلت أوروبا في ثمانينيات القرن الماضي الإسلاميين الهاربين من بطش الحكم العسكري التركي. هكذا لقوا ملجأ آمنا ليعيدوا تنظيماتهم ويوطدوا تواصلهم الأيديولوجي. ومن ثم عادوا، واسلاميين لاجئين آخرين، إلى بلدانهم لتطبيق خططهم الأيديولوجية؛ الإسلام السياسي. فالدروس التي تلقتها بشرى / لالا غول في مدرسة ميلي غوروش كانت تتناقض مع النظام التعليمي الهولندي المبني على المساواة بين الجنسين وحرية التعبير. فهذا التناقص خلق لديها غضبا وبقيت أسئلتها بدون إجابة. فأدارت ظهرها للوسط التركي المحافظ والمتشدد. اختارت حياة جديدة، حريتها. فتوقها إلى الحرية آتى أكله بتسليطها الضوء على وضع المرأة في هذه الغيتوات التي تعيش على هامش المجتمع، وبالتأكيد جعلت فتيات أخريات يتجرأن لحماية أنفسهن في حالات مشابهة، في مجموعات عرقية أو دينية متشددة أخرى.
وختاما، فإن لالا غول حُكم على شخوص روايتها من قبل أفراد جاليتها، لكن شخوص الرواية المعنونة "لقيطة اسطنبول" لمواطنتها إليف شفق مثلوا أمام القاضي عام 2006، الذي برّأها وشخوصها لعدم توفر أدلة كافية.
نجاة تميم
نبيل الربيعي: سعد علي يبحر عبرَّ بوابة الفرج لعالم الإيماءات الإسلامية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: نبيل عبد الأمير الربيعي
من خلال متابعتي لأعماله الفنية التشكيلية وخاصة (أبواب الفرج)، أجد الفنان التشكيلي العراقي سعد علي تراوده هواجس الإبحار في عالم الإيحاءات الإسلامية، عِبرَّ أحد أقدم مؤشرات الروح الإنسانية وإبداعاتها، ومن خلال اللوحة التشكيلية التي يتبلور الفنان الإبحار الرواحي فيها، والتلاقح بين الثقافات والأديان والرؤى المختلفة لروح الشرق الحضاري، من قِيم جمالية عربية إسلامية متمثلة في انجازاته التشكيلية المتباينة، ومن خلال منجزه الزاخر بالزخرفة والخط والعمارة، والتي حولها إلى لوحة بمشروعه الفني الأكاديمي.
ولد الفنان التشكيلي سعد عبد علي الزبيدي في مدينة الديوانية/ العراق في الأول من تموز عام 1953، أكمل دراسته الأولية والثانوية في الديوانية، مارس الرسم منذُ نعومة أظفاره، درس الرسم في مشغل الفنان هاشم الوردي في مدينة الكاظمية، وتعرف على أساتذة الفن التشكيلي في صالون الفنان في الكاظمية، تأثر كثيراً بالمدرسة الواقعية البغدادية. شارك في العديد من المعارض داخل العراق وخارجه وقد تجاوزت الأربعين معرضاً، هاجر منتصف سبعينيات القرن الماضي وأكمل دراسته في بيروجا/ فلورنسا عام 1977-1981م على يد الفنان الايطالي (فروا) استاذ في أكاديمية الفنون الجميلة في فينيسيا، ثم استقر في هولندا وأخيراً في اسبانيا. أسس مع عدد من زملائه عام 1986م (بلاوة فيزل) للفنانين الهولنديين، عام 1989م أسس (الصالون الثقافي) في مشغله الخاص باوترخت، ينتمي إلى أسلوب (كوبرا) الفني.
اختار لأعماله التشكيلة باب الفرج لإيمانه أن طرد الإنسان من الجنة قد حولته إلى طريد على مر العصور، واستمر ذلك الطريد وهو غير قادر على تخطي تلك الأبواب، لكن هذا الإنسان يبقى يحلم بالعود وستفتح له باب الفرج. من خلال جذور الفنان علي وثقافته الشرقية انطبعت لوحاته بطابع الرصانة وتصوير المتخيل المستوحاة من الثقافة العربية الشرقية، الذي جَسَدَ من خلالها سعادة الإنسان وبراءته وطمأنينته. فالجنة تستوحاه كل الثقافات والأديان من خلال المتخيل الديني. فعيون ذلك الكائن الإنسان في لوحاته من ذكر وأنثى تُعبر بشكل دقيق عن نقاء الإنسان وبراءته، واكتسابها البعد الكوني من روحية وأحاسيس، وتخوف، لذلك نجد الفنان سعد علي يكرر اشكال شخوصه داخل محيط اللوحة، ويقوم بتلوينها أو تركيبها على الأبواب. فهي أعمال غير مألوفة عما تابعناه من معارض لفنانين آخرين، فمواضيعه في باب الفرج ترمز إلى الجنة.
ويمكن القول بالتحديد بسبب جذوره الشرقية العربية، واطلاعه على الفن العربي الإسلامي والفن المعماري ذات الجمال الأخّاذ، فقد اتجهت لوحاته إلى جنة عدن، فالمشهد للوحات علي تبدو جزءاً من المتخيل للفردوس وحكايات الفردوس في الثقافة الشرقية العربية. فخطوط لوحاته أجدها انسيابية ذات تركيب واضح ومحكم وطراوة وانسجام كبيرين.
تذكر وسائل الإعلام أن لوحات سعد علي قد دخلت متاحف الفن الحديث في كل من امستردام واوترخيت ولاهاي، من ضمن قِلّة ضئيلة من رسامي العالم الثالث ممن تمكنوا من اثبات جدارة ودخول الحرم الهولندي، لتعتبر من أهم مقتنيات هذه المتاحف. تميزت اعمال علي كخلفية جاهزة للرسم متبنياً الأشكال التي تطبعها باستخدام الأبواب والشبابيك، بانتقاء الخشب الجاهز لعمله. أما الدلالة البصرية لموضوعات أعماله فهي تمثل إعادة تأهيل الروح فيها من خلال التكرار والتوحد الإنساني، وإخاء إنساني حميم، فاللون والخط والتكوين جميعها تخضع لأسلوب هذه العناصر من خلال خضوعها للعلاقات الداخلية.
من خلال متابعتي لبعض لوحاته الفنية على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي، اجدها قد ارتكز الفنان علي فيها من خلال تقنية اللون المحكمة والتكوين الغريب وتناغم الهارمونية البصرية، مما تمنح للمتلقي والمشاهد عنصر الجذب الروحي لجوهر الإنسان، ومن خلال الصبغة الدينية التي منحها علي لأعماله. لكن ما جذبني هو الكم الهائل من انتاجه الفني، وتوظيف أشكالها الموغلة في القدم لاستخدامه الأبواب الخشبية القديمة، وهي تمثل الموروث الحضاري الذي يرتكز عليه الفنان علي، من خلال تعامله الجمالي واختزال اسلوبه في الفكرة والتكثيف الحسّي العفوي.
نجد في بعض لوحاته طغيان اللون القهوائي أو اللون الأحمر المشرب بالورد أو اللون الأزرق، ونجد في بعض لواحاته حالات النزاع مع الموت من خلال التطلع للعينان، فضلاً عن استخدام الأزرق الغامق، كما عودنا في لوحاته على رسم العيون السومرية البيضوية المفتوحة، وحركة الرؤوس الكاملة، وهي جزء من خلفيته التاريخية لرسم الرموز والأيقونات.
فأبواب الفرج التي خلقها الفنان من خلال لوحاته تقودنا إلى تلك الجنان ذات التركيب الهارموني، بعيداً عن الطوفان ورحلة الإنسان في فلك نوح. لوحات سعد علي فيها بعد فلسفي شرقي، تتخللها الشدة والغَم من جهة، والانفراج والأمل من جهة ثانية، فاللوحة الواحدة من أعماله فيها أكثر من نقطة كمركز استقطاب للنظر، ثم تتشعب بمنحنيات خطية وتتمازج لتكوين كائنين أو أكثر، فالموروثات الشعبية للبيئة بمستوياتها اللونية تتضح بغرضها الوجداني، لذلك خلق لنفسه بصمة خاصة واسلوباً خاصاً، به تتبلور شخصيته التشكيلية.
من خلال رؤية لوحات باب الفرج تدخلنا في الجسد الإنساني وعلاقته الجسدية ومظهر الحب الملتحم في لحظة زمنية معينة. ما رأيته من اعماله سرني كثيراً لتطويعه للخطوط والألوان تطويعاً موفقاً، فهو يرسم بأحجام كبيرة من أجل حمل واحتضان العالم، والبحث عن الحب في عوالمه المختلفة. لذلك أجدني اقول للفنان الكبير سعد علي إياك والابتعاد عن عالمك وبصمتك التي نتعرف عليها من خلال لوحاتك.
نبيل عبد الأمير الربيعي
توفيق التونجي: لقاء مع النجمة الكردستانية ئيفين أحمد
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. توفيق التونجي
بدأة قناة الافلام (نت فلكس) بدأ من السابع من نيسان الجاري بعرض المسلسل البوليسي (سنابا كاش) المأخوذ من رواية بنفس العنوان من تاليف الكاتب (جنس لابيدوز). الرواية البوليسية صور أجزاء كفلم في ثلاثية لاقى اعجاب المشاهدين والنقاد . الفلم الاول عام ٢٠١٠ ومن إخراج دانيل إسبينوزا تلاه عام ٢٠١٢ ومن إخراج بابك نجفي.
سيعرض نت فلكس ست حلقات من المسلسل الذي يخرجه (جسبر سندرلاند) و(مونس جونسون). الممثلة السويدية ئيفين أحمد من الأصول كردية. وقد كانت عائلتها قد هاجرت في الثمانينات الى السويد. الممثلة الشابة من مواليد( اكالا) احد احياء العاصمة السويدية ستوكهولم عام ١٩٩٠.
وهي من عائلة فنية حيث مثل والدها الفنان عادل أحمد في العديد من المسرحيات في السويد وفي الخارج وباللغة الكردية.
تقوم ئيفين بأداء دور البطولة في المسلسل الجديد. وتؤدي دور الفتاة (ليا) وهي سيدة أعمال طموحة في الثلاثينات من عمرها تعيش مع ابنها الوحيد (سامي) وتطمح في الثراء في ليالي مجتمع العاصمة السويدية (ستوكهولم ) الصاخب والمليئ بالمجموعات الاجرامية . مجتمع منقسم بين احياء الاثرياء واحياء المهاجرين اللذين يحاولون جاهدين هالحصول على عمل والتكامل مع المجتمع السويدي. لكن يبقى المجتمع منغلقا وليس منفتحا للجميع. ليا الشابة تناضل من اجل العيش والثراء السريع مهما كلف الامر. بالمقابل يشاركها البطولة +الممثل الشاب ألكسندر عبد الله في دور (سليم) مطرب المناسبات العربي.
شارك كذلك في المسلسل نخبة من الفنانين السويدين أمثال ئايان احمد، خالد غزال، روبين نازرى، وآخرون.
العمل القادم للممثلة الشابة ئيفين مسلسل جديد لقناة الافلام نت فلكس وبعنوان (ماكس انجر).
التقيت بها كي أطرح عليها بعض الأسئلة حول دورها وتجربتها في هذا المسلسل فقالت:
لقد كانت هذه التجربة عملية ممتعة وشاملة. لقد عملنا بجد وقد احببت عملي مع الممثل ألكسندر عبد الله. كانت العلاقة غرامية ممتعة بين فنانين من الشرق الأوسط.
وترغب ئيفين بكتابة مشاريعها بنفسها في المستقبل وممتنة جدا لوالدها الفنان عادل أحمد للدعم والتوجيه وقد الهمها ابداعيا وعن قرب.
نشكر فنانتنا الصاعدة متمنين لها دوام التألق والنجاح والابداع.
اجرى اللقاء: توفيق التونجي
علي جابر الفتلاوي: قراءة في المجموعة الشعرية (اهزوجة عشق خريفية)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي جابر الفتلاوي
(اهزوجة عشق خريفية) مجموعة شعرية جديدة، تأليف الشاعر (ثامر الحمداني) أصدرها بداية عام 2021، وصدر للشاعر قبل هذه المجموعة،مجموعتان شعريتان هما: على ضفاف الوجد، في انتظار خطاها.
عناوين المجموعات الشعرية الثلاث، نستوحي أن الغالب في شعر الشاعر ثامر الحمداني، هو الحب والعشق، وأفهم أنا كقارئ أن الحبّ في مختلف ألوانه له مصاديق كثيرة في حياتنا، فالأنسان يحب الله، يحب الحياة، يحب الخير، يحب الوطن، يحب الجنس الآخر، يحب العائلة، إلى غير ذلك من محفزات الحياة الكثيرة التي تدفع الانسان أن يحبّها، أحيانا يحب الانسان أحد هذه المصاديق أو غيرها بدرجة كبيرة حتى تظهر مظاهر هذا الحب في سلوكه، حينئذ يسمى عاشقا، فالعشق أعلى درجة من الحب، وكثير من العشاق يضحّون بأنفسهم من أجل معشوقهم، وفي التاريخ العربي من اشتهر بعشق إمراة كمجنون ليلى وهو شاعر الغزل قيس بن الملوح، وجميل بثينة، وكثير عزّة، وغيرهم، ومن أهل الايمان والفكر من يعشق الله سبحانه، وهؤلاء يسيرون في اتجاهين التصوف والعرفان، وسلوك المتصوف غير سلوك العارف. استوحي من العنوان أمورا:
الأمر الأول: وصف الشاعر ديوانه أنه أهزوجة، والأهزوجة تكون وليدة ساعتها وتعبّر عن حالة شعورية معينة يعيشها من يهزج، وفي نفس الوقت يعبّر عن مشاعر مجموعة من الناس عندما يهزج في وسطهم، نرى الناس الذين يُهزَج لهم يستقبلون صاحب الاهزوجة بالارتياح والرضا، إذ يتفاعلون مع الاهزوجة.
عرّفت الموسوعة الحرّة الاهزوجة أنها نوع من الأناشيد الشعبية الغنائية، لا يصاحبها أي نوع من الآلات الموسيقية تعتمد في القائها على المد الطويل للكلمات مع إصدار الصوت الواضح الدال على التمديد، وتسمى في العراق (الهوسة). وأهزوجة شاعرنا ميدانها الحب، فقد تصفحت الديوان فوجدت الغالب في قصائده الحب، وهذا مؤشر على قرب الشاعر من مشاعر المحبين، وأنّه مرهف الاحساس يعبّر بصدق عن مشاعرهم وأحاسيسهم.
الأمر الثاني: استوحي من كلمة (عشق) أنّ شاعرنا أما أنّه يمر بتجربة عشق حقيقية فترجمها إلى قصائد، أو أنه استوحى مشاعر العشّاق فترجمها إلى كلمات حارّة في قصائده، ومن خلال معرفتي للشاعر المتألق، اقول: أنّه مرهف الاحساس يتحسس مشاعر العشّاق فيترجمها إلى كلمات تشع منها حرارة تلذع بشكل خاص من يخوض تجربة حب، قد تكون هذه التجربة صامتة تظهر من خلال مؤشرات في سلوك المحبين، وقد تنتج تجربة الحب كلمات يعبّر بها المحب عن مشاعره وأحاسيسه تجاه محبوبه، وفي كلتا الحالتين أجاد الشاعر في قصائده، فهي قصائد معبّرة عن أحاسيس صادقة، ليس هذا فحسب بل أرى الشاعر يحمل هموم أهل الحب خاصة، بدليل أن اسم الديوان الأول، (على ضفاف الوجد) والثاني (في انتظار خطاها)، وكلا العنوانين يوحي بالحب، وهذا مؤشر أن شاعرنا مرهف الاحساس يعبّر بصدق عن مشاعر وأحاسيس المحبين.
الأمر الثالث: استوحي من كلمة (خريفية) في العنوان، أنه يشير إلى عمره، إذ يعدّ نفسه في خريف العمر، أي مابين مرحلة الشبابية والشيخوخة، وأقول للشاعر المبدع ثامر الحمداني، أن الروح لا تكبر أو تشيب إنما الجسد فقط هو الذي يهرم، لكن الروح تبقى متوثبة ومتحفزة للإبداع والعمل في اتجاهات عديدة.
تصفحت المجموعة الشعرية وجدت جميع القصائد موضوعها الحب، أفراحه آلامه محطاته، مع رسم للمشاعر بكلمات معبّرة، يبدو فيها الشاعر وكأنه يمرّ بتجربة حب عميقة، أرى أنّه يستوحي مشاعر وأحاسيس المحبين، فيترجمها إلى كلمات توحي وكأنه هو من يعيش هذه التجربة، وهذا دليل على شاعريته وإبداعه؛ بدأ مجموعته الشعرية بببت من الشعر اسماه (توطئة):
كنتُ الكتابَ لها فطارتْ أحرفي تحكي الهوى أهزوجة لخريفي
عندما يكون الحبيب كتابا لحبيبته، ثم هو من يخط أحرف الكتاب، هذا يعني أنه أسير حب يتجّه به حيث يريد، لدرجة أن كلمات الحبيب تحولت إلى اهزوجة للمحب وهو في خريف العمر، لم يكن عائق العمر عقبة، وهو في هذا العمر الخريفى اُسِر قلبه من غير إرادة منه، بعد التوطئة يأتي عنوان (تقديم) للأديبة الفلسطينية (خلود أحمد أبو ريدة)، عبّرت عن رأيها في المجموعة الشعرية، ولا تعليق عندي على التقديم.
نختار نماذج من مجموعته الشعرية، القصيدة الأولى (تطريز)، يقول:
اهزوجة نُسِجت بخيط وداد تحكي حكايا العشق للآباد
هي نبض من كانوا رموزا للهوى تروي حكايا العبد والأسياد
ودموع من عاشوا الهوى دفاقة تشكو عذاب العشق والأصفاد
جمر الهوى يكوي القلوب وميضه أوّاه من جمر لظاه وقاد
أرى القصيدة بأبياتها الخمسة عشر تحكي قصة حب يكتوي قلب الحبيب بلهيب نارها، إذ (يرنو الفؤاد متلهفا إلى وصال حبيبه ...مدى الآباد)، وصف الشاعر قصة حبّه أنها اهزوجة، أهزوجة الشاعر تختلف عن الأهزوجة المتعارف عليها كون أهزوجته نسجت بخيوط الود والحب، بل الحب ارتقى إلى العشق الذي يذوب فيه العاشق في هوى معشوقه إلى نهاية العمر (للآباد)، وهذا اعتراف من العاشق بسطوة نار الحب على قلبه لدرجة أنّه يعيش لظاها مدى العمر، وصف الشاعر الحبيبة أنّها نبض، وبتوقف النبض تقف الحياة، حكاية الحب التي عبّر عنها الشاعر أشبه بالعلاقة بين السيد والعبد، العبد أي العاشق يذوب في هوى معشوقه لدرجة أنه يتملكه ويصبح عبدا مطيعا له، دموع العاشق لا تتوقف فهي دفّاقة، وهذا مؤشر أن العاشق لا يقابل بنفس نار عشقه من محبوبه، عشق غير متعادل، هذه الدرجة من العشق تكون في ظروف معينة مؤلمة للعاشق، كون العاشق يكتوى بنار معشوقه دون ملل أو توقف، لا رحمة في العشق إن كان المعشوق لا يبالي بمشاعر العاشق إذ سيتحول قلبه إلى جمر لظاه لا ينطفئ، يستمر الشاعر في وصف مشاعر العاشق. للهوى جمر يكوي قلب العاشق وميضه، وقلب العاشق يبقى مكتويا لأنّ نار الحب تزداد اشتعالا، وهذه النار لا أحد يستطيع إطفاءها إلّا من كان سببا في إيقادها، وهو الحبيب الذي يعيش في قلب العاشق، أبيات القصيدة توحي أن المعشوق بعيد المنال هو أشبه بالسحاب في السماء، يصعب الوصول إليه. أخيرا يختتم قصيدته بقوله:
في وصلكم أنات قلب تنتهي تترجل الأحزان بعد سياد
يشدو كما الأطيار لحن مودة تتراقص النبضات في إسعاد
تدعو إله الكون يبقي جمعهم ما دام صوت بالوداد ينادي
هنا يعلن الشاعر أن وجع القلب سينتهي بوصال الحبيب، والأحزان ستغادر بعد أن كانت متسيدة على القلب، سينبض قلب الحبيب بوصال حبيبه نبضات الفرح والسعادة، كالطائر الذي يغنّي لحبيبه في أوقات القرب والوصال، نبضات قلب الحبيب بعد الوصال تتحول دعوات إلى إله الكون، بأن يديم الجمع بين الحبيبين ما دام الوصال والوداد موجودا ومستمرا، إنها مجرّد أمنية، وليس كل ما يتمنى المرء يدركه، نرى الشاعر يتحسس مشاعر القلب الدفينة الدافئة الحنونة، فيترجمها إلى كلمات ذات حرارة، وهذا مؤشر على الشاعرية والارهاف الحسّي.
أطول قصيدة في المجموعة الشعرية هي (فصول الهوى)، القصيدة أشبه بخطاب وعتاب من الحبيب إلى حبيبته، يظهر أن الحبيبة فاقدة للثقة بحبيبها، إذن الحب من طرف واحد رغم ما يبدي الحبيب من مشاعر الود والشوق، الحبيبة تسمع كلمات الحب لكنّها تتجاهلها، رغم توسّل الحبيب بأن تتفرس ظواهر حبه لها، يقول الشاعر:
(وهبوب نسائم شوقي .. اغتالتها حشرجات ظنونك .. فبان ما أخفاه بوحك ..
قرأتك غاليتي ... لكنّي لم أجتز الامتحان.. صور الخوف من المجهول..
لم تغادر عينيك .. رغم تراتيلي باسمك..)
يستمر الشاعر في التوسل بحبيبته لتثق بحبه لها لكنّها تقابله بالجفاء والبعد والتجاهل، لدرجة انه استعان بالطير لارسال المراسيل:
(فبت أناجي الطيور.. لأرسل مراسيلي إليك .. ماذا دهاها الظنون ..؟)
اخيرا يستسلم الشاعر لقدره ويقرّ بالانكسار:
(قدري هذا .. ليس لي خَيار.. هكذا العمر فناء لبقاء..)
ثمّ يتوجّه إلى حبيبته وكأنها معه ليسألها: (قولي بربّك .. علّلي سبب الفرار..) لكن لا جواب، شوقه الطاغي يجعله يسأل فيجيب. أخيرا يناجي الشاعر حبيبته الحاضرة في قلبه الغائبة في وجودها، يقول: (تجلّي يارؤى روحي .. ظلامي يندب الفجر.. أناجيك معللتي.. أجيبيني بلا نكر) . القصيدة تعكس آلام من يحب من طرف واحد أجاد الشاعر في تصوير ظاهرة الحب هذه، التي هي موجودة في المجتمع.
أقصر قصيدتين في المجموعة الشعرية هما:(هل قرأتي عيوني) و (أنت بدر الأيام) يقول في القصيدة الأولى: (هل علمت ما تخفي .. أين أنت منّي .. يامن ملكتي كلّ شيء.. وهجرتني.. وتركتني أعاني الضياع.. أناجي الخذلان ..اكفكف كلام العيون ..آه من صراخ روحي.. ليتك سمعت ماذا يقول..)
الغالب في القصائد الألم والحسرة التي يعاني منها الحبيب بسبب عدم اكتراث الحبيبة، في هذه القصيدة إيحاء أن الحبيبة كانت قريبة من حبيبها مستمتع ومسرور بحضورها، لكنّها هجرته على غفلة من دون أن يعرف السبب، فتركت حبيبها يعاني بسبب الإهمال، يكفكف الدموع التي سمّاها كلام العيون، بدأت روح الحبيب تصرخ ولا من مجيب، يتمنى الحبيب لو كانت حبيبته تسمع الصراخ.
في آخر قصيدة من المجموعة الشعرية واسمها (كنت) يقول الشاعر:
(هكذا كان وكان ماض صار .. وجاء آن نزفت مآقي .. ورئتاي لهاثا هل تدرين؟ وصكّت جدباء الروح لواعج هم .. جاب أنين) إلى أن يختم القصيدة بقوله:
(سألت دمعات تغلي .. فأجابت تهذي .. تعكز على حزنك يا مسكين)
وهكذا تتكشف الصورة، رغم لوعات ألم الحب والمعاناة للحبيب، كانت تقابل بالقساوة والتجاهل من الحبيبة، فبقي الحبيب حبيس حزنه وآلامه.
أرى الشاعر أجاد في تصوير معاناة ومشاعر مَنْ يمرّ بتجربة حبّ، خاصة عندما يُقابل بالسهو والنسيان والتجاهل من قبل الحبيب، شعور صعب وحزين، هذا الشعور يشعر به إثنان: مَنْ مرّ بتجربة حب، أو شاعر يتحسس مشاعر المحبين فيترجمها إلى كلمات ناطقة تضجّ بحرارة الحب، الشاعر المبدع ثامر الحمداني من هذا النوع البارع الذي استطاع بحسه المرهف، رسم مشاعر المحبين وكأنّه يعيشها وهذه موهبة لا تتوفر عند كلّ شاعر، أدعو للشاعر الحمداني بالتوفيق، وإلى مزيد من التألق، ورسم مشاعر من يعاني لوعات الحب، أو أيّ مشاعر أخرى سارّة أو حزينة ومؤلمة في حياتنا وما أكثرها.
علي جابر الفتلاوي
صادق السامرائي: تراث وتراث!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
أكتب عن التراث ليس من باب الإنتماء التعصبي الأعمى الذي يتصوره على أنه نهاية المطاف وأقصى ما بلغته الأمة من العطاء، وعلينا التجمد فيه والتحول إلى مومياوات، فالنظرة المومياوية للتراث عدوان عليه وتدمير لجوهره ومعانيه الحضارية الإنسانية.
التراث صورة مرسومة في مسلة الحياة، أو شواهد معلومة واضحة في دروبها البعيدة الآماد، منها نتعلم ونتواصل بالإنطلاق.
فالإهتمام بالتراث لا يعني السكون والتوقف والتحنط في المكان، مما لا يتفق وحركة الدوران القاضية بالتغير والتبدل والسير للأمام.
وموضوع التراث تناولته العديد من الأقلام على مدى أكثر من قرن، وما ترتب عن ذلك فائدة ذات قيمة حضارية بارزة، بل كانت تصورات فنتازية جعلت من التراث أيقونة مثالية لا يمكن الإتيان بمثلها أو إجتيازها، وعلى الأمة أن تتمحن بها وتتعضل.
والعديد من القراءات كانت بمنظار مشوه وآليات تعسفية، أظهرته وفقا لنواياها وغاياتها التي تريد تمريرها بواسطته، أو أنها كانت تمتطيه لتحقيق ما يجيش في دياجير أطماعها وتطلعاتها.
وأكثر المتفاعلين مع التراث متأثرين برؤى وتصورات المستشرقين ومعظمهم غير منصفين، وبعضهم يرى الحقيقة وينطقها بلسانها المبين.
ولهذا ساد الميل نحو إعتبار التراث مانعا للتقدم، وليس طاقة نفسية ومعنوية للتوثب والعطاء الأصيل، لأنه يُحسب حجر عثرة أو حاجز ومعوق، وفي هذا تجني سافر وعدوان آثم.
وعليه فأن الإدراك التنويري للتراث يجعله قوة دافعة لتعزيز الأواصر التقدمية ما بينه والحاضر والمستقبل، ويكون مصدر إلهام لا إلجام للأجيال المتوافدة.
فالتراث مشعل وجود ومنارة إهتداء إلى مرافئ الرقاء والنماء والعلاء، ولا يجوز أن يتحول إلى أداة ترقيد وتغفيل وتخدير للأمة، التي يسعى أعداؤها بعزيمة متواصلة وإصرار متزايد لإيهامها بأن تراثها السبب الأول في معاناتها، ومنه تنبع ويلاتها.
وهذا أفك وخداع وتضليل، فالتراث قوة الأمة وطاقتها ومجدها الولود الواعد بالأصيل.
فهل لنا أن نقرأ تراثنا بعيون الواثقين؟!!
د. صادق السامرائي
هشام بن الشاوي: موت بالتقسيط
- التفاصيل
- كتب بواسطة: هشام بن الشاوي
إلى صديقي..
الكاتب الكبير: إبراهيم عبد المجيد
الحياة ليست عادلة على الإطلاق!
استنتاج قاس فعلا، لكنك كنت تحتاج إلى أن تعيش حياة تفتقد الحياة، لكي تكتب هذه الحكمة البليدة، بيد أن الأكثر قسوة أن تعامل - دوما- كمعتوه.
ليس مهما إن كنت تكتب بأسلوب فاتن، وأنت لم تفلح في الحصول على الشهادة الثانوية! هل كان ذلك المتطاوس في مشيته محقا في استغرابه؟ لعله كان يعتقد أن لغتك مهترئة، تشبه تلك الوزرة الزرقاء، التي ترتديها، كأنما لم يصدق أنك تكتب في الجريدة الأكثر توزيعا في المغرب، لكنه لا يعرف أنك لا تتوصل حتى بكلمة: شكرا.. شكرا هشام على هذا النص الماتع.. شكرا، لأنك تسرق بعض البهاء من فظاظة هذا الواقع.
وحده يوسف، صديقك النادل يحرضك على اقتراف المزيد من الكتابة، نكاية في وعثاء الحياة. ما جدوى هذا الهديل، وقد ارتضيت لنفسك تلك الصورة الخاطئة، التي تكفن اسمك الآن.. هنا؟! لماذا؟ لأنك لا تريد أن تنافق أحدا؛ أن تبتسم في وجوههم، على رغم حزنك الفادح، الإحباطات التي تفتك بنضالك من أجل حياة حرة كريمة.. أنت غير لطيف، في نظرهم، لأنك لا تمزح مع زبائن هذا المحبس.
ثمة من حالفه الحظ، ويسدد أقساط الدين، بكامل امتنانه لدويلة، انتشلته من الفقر والبطالة، ويتلقى أجر - وليس ثواب- دفاعه المستميت عن إيماننا المشترك، في نهاية كل شهر.. بينما أنت لا تكف عن مراسلة سكرتارية المجلات العربية، للسؤال عن مكافأة مادة، نشرتها قبل أشهر.. تصر على إزعاجهم، لأن الريح تصفر في رصيدك البنكي.
هل جرب أحدكم أن يكاتب شخصا لا يعبأ به، وهو منكسر؟ هل جرب ذل أن يكون متسولا، لبضع دقائق، وهو الشامخ في ضعفه الإنساني، وبكائه !؟ بماذا ستحس حين يرد عليك شاعر ومسرحي سعودي - بكل صفاقة- ويصفك بالمرتزق، متناسيا أنك شاركت في تحرير العدد؟! وعندما حاولت أن تستكتب بعض الأعدقاء من أجل المطالبة بصرف مكافآت متأخرة، خذلوك، لاذوا بصمت القبور، حرصا على سمعتهم الأدبية، قانعين بصفة الشيطان الأخرس.
تمعن في تهورك، تكاتب صديقا مشيرا إلى أن حرفة الأدب قد داهمتك، وأن ثلة من الزملاء الذين لا يغيبون عن المجلات نهائيا، أساتذة، بينما أنت بلا دخل قار، لا تملك أي شيء من حطام الدنيا، ومع ذلك يصرون على تهميشك! ما جدوى أن تكتب بعض تغريداتك بدموعك، وأنت - في نظر الجميع- شخص لا يطاق؟!
كثيرون.. اقترحوا عليك وضع سلم على الرصيف، كما يفعل بقية التجار، لم تجبهم بأنك لست ممن يحتلون الملك العمومي، ولا تحبذ إعاقة المرور. أغلب زبائنك من الحرفيين، يجهلون أنك تكتب في الصحف، ولم تستغرب حين نصحك أحدهم بأن تقرأ القرآن الكريم، حين أجبته على تطفله الوقح بأنك تتصفح رواية، بينما صفعك وغد آخر بقوله إنه يحبذ أن تستغل وقتك في ذكر الله، بدل أن تستمع إلى موسيقى، لا يعرف أنها محض هسيس أحزان تسافر في الدم!!
وهذا أستاذ، يحول أوقات فراغ التلاميذ إلى حصص دروس الدعم، ويحرص - أيضا- على معرفة ثمن الإسمنت، وسعر المتر المربع من هذه الكرة الأرضية، التي يريد الجميع امتلاكها بأية طريقة، ولو بافتعال حروب أو استعمار جديد، بأي شكل.. بينما -أنت - لا تملك منها شبرا واحدا!! سدد كل رصاص استغرابه نحو مطبوع رواية "ليلة عرس" ليوسف أبو رية، أثناء استراحة من القراءة الإلكترونية عبر اللوح الإلكتروني. اعتقد أنك تتصفح مطبوع دعاية لمنتوج ما، وبنبرة استنكار وقح، قال: أنتم أيضا تقرأون!
كنت ترتدي الوزرة الزرقاء. لم ترد عليه، بينما كانت أعماقك كمرجل. لم تخبره بأن لديك سبعة كتب، وأن لا أحد من الأدباء يطيق ذلك البناء، الذي كان يكتب قصصا تفوح منها رائحة تزكم الأنوف.
لم تكن تحب السوشيال ميديا. لكن صديقا ألح عليك أن تعود إلى المشهد، حتى لا ينساك الجميع، مثلما نسوا بعض الكتاب الكبار. وللأسف، لم تجد في تويتر إلا التجاهل، أو الحظر بدون سبب، أو أن تكتب لك زميلة: المعذرة، أنت تزعجني..وآخرون، لا يقرأون رسائلك، فقط، لأنهم يعملون في مجلة، ينظرون إليك، كما لو كنت صرصارا...
ومثلما بدأت..
تنتهي منفيا
بين المسامير، البراغي و...الصنابير.
في محل مطموس الوجود، مثلك تماما!
لكن هذه المرة، شبه مفلس... نعم، مفلس الجيب والقلب!
ولأنك نذرت عمرك للهباء، يقترح عليك أحد الأغبياء أن تجتهد قليلا، وهو يرمق الأرفف شبه الفارغة...
من يصدق أنك كنت كاتبا متعاونا مع جريدة مستقلة موؤودة؟!
كنت تتصل برئيس التحرير هاتفيا، حين يتأخر تحويل ذلك المبلغ الرمزي، والذي كنت تعتبره ثروة حقيقية، فلا يرد عليك. لم تكن تعرف أن تلك الثروة سوف تتلاشى إلى الأبد. ترنو إلى زبائن المقهى الفاخر -المحاذي للمصرف- بحقد أسود، وأنت تبصق بلا لعاب على شباك البنك الأوتوماتيكي، تتحسر على عمر ضاع سدى، وتحمد الله على نعمة التسكع.. بجيوب كفؤاد أم موسى.
الآن، لم يعد بإمكانك التسكع في اللامكان، ولا التشرد في الزمان. صرت مثل ثور الساقية، لكنك تدور في حلقة مفرغة..تستيقظ مبكرا، من أجل لا شيء!
الآن، ينظرون إليك في شفقة غير معلنة، ينقصها قليل من التشفي، وتتساوى - اجتماعيا- مع سفيه ضيع إرثه في القمار، الخمر، النساء!
لكن، ما يؤلمك حقا.. أنك لم تتذوق طعم هذا الثالوث الحرام!
هذا كل ما في الأمر، بتعبير شعراء قصيدة النثر.
صديقي يوسف، النادل.. كلما قرأ جديدي، عاتبني بشدة، لأنني أهدر هذه الطاقة في اللاشيء، بينما زوجتي تطلب مني كتابة رواية، بنبرات أليمة، ويقتلني ذلك القهر، الذي يختبئ في عينيها، وتدين دموعها هذا التردي الشامل!
لكن، عماذا تكتب؟
خيالك معطوب بسبب هذا الموت المجاني، المسمى مجازا: حياة، ولأنك لا تحب القروض.. تموت بالتقسيط، وتذوي شمعة الروح بين يدي شيخ ضرير، يسمى مجازا: الواقع المغربي!
هل تكتب عن تقاعس ساعي البريد ، منذ سنوات، عن جلب رسائل الفرح من البلاد العربية؟ لم تعد جوارحك تختلج، عند سماع هدير محرك دراجته النارية. لم تعد تعبأ بغيابه ولا بحضوره.. ترى، هل صار كباقي جيرانك الأوغاد؟ أغلبهم طفيليو مآتم، يعتقدون أنفسهم أحياء... وهم لا يجيدون الاستمتاع بهذه الحياة، ولا يقدرون هذه النعمة العظمى، بسبب بخلهم المسلح.
هل تلعن من ابتدع تلك الأماكن، التي تأوي تلك العيون الضالة، مثل كلاب الشوارع، التي تنهش عورات الآخرين، وأنت لا تعلم من أين يأتون بكل هذا الوقت المسفوح على كراسي المقاهي؟!
هل تكتب عن سخطك، الذي يتفاقم، وذلك الشيخ يصر على أن يقف على رأسك - مثل قدر بغيض- في استجداء ذليل، لا يليق بالهاتف الفاخر، الذي رأيته يخرجه من جيبه، بينما هاتفك الحسير، قد ينطفئ أحيانا، حين تباغته رسالة قصيرة من زوجتك تطلب فيها أن تحضر الحليب للأبناء!
كن رحيما، لا تحدثه عن ذلك الزحام الذي لم يره أمام هذا المنفى، وأنت جالس وحدك!..
تحرص على ألا تؤذي شيخوخته. تكبح جماح غضبك، تبتلع كلمات تترنح في أعماقك مثل هذا الهديل، الذي لا يريد أن ينتهي، والذي بدأ كتغريدة مهملة، بيد أنها تمددت، مثل جرح استيقظ متأخرا، وبدأ يتمطط في أعماقك. تغريدة تصر على أن تتحول إلى حقل شاسع من البكاء. اللعنة ! تأثير تويتر مرة أخرى.. قصيدة النثر تريد أن تتسرب إلى كتاباتك مجددا، وتحرمك من سياط سخريتك السوداء، التي تلسع بها كل شيء. لكن أجمل هدية من تويتر، كانت صديقك القديم.. الشاعر التونسي، الذي كلما أمعن في هجاء مفردات هذا الوقت الجاحد، وامتدح السكر والبار، كتبت له ضاحكا، غير عابىء بأي شيء: " اركل يا عبده، هههههههه".
حقا، لا شيء يستحق أن تكتب عنه.
فقط، حين تسأم تويتر، ويذبحك إصرار الأصدقاء - هناك- على تجاهلك ونفيك، تلج الموقع الأحمر، وأنت تتلفت يمنة ويسرة، كأنما ستندس في مبغى.. نكاية في هذا الماخور الكبير المسمى مجازا : حياة! ربما تجد امرأة بخيلة في إغرائها، تضع قطرة واحدة من فتنتها - واحدة تكفي- في عيون مشاهديها، وهي تتعمد أن تشد ثوبها، بحركة تبدو، كأنها عفوية، وهي تلمس نتوءات جسدها؛ حركة تطيح بعدّاد المشاهدات، وترفع عدد الدولارات في آخر الشهر، بعد أن تحرث حقولا شاسعة من الفضول النهم، الذي ينهش القلوب الأثيمة، وتنكل بما تبقى من رجولة عربية، ترتق في مخيلتها المنهكة بقية القصة، التي لم تكملها الأصابع المدربة...
تلعن عاهرة أربعينية تبيع جسدها المشاع مثل حقول جرداء، وهي تدافع عن دعارتها الضوئية، مدعية الفضيلة، فلا أحد يستطيع أن يلمس جسدها، وهي بيتها، كما أن الأستروجين لا يمرح في عينيها، إلا بين يدي زوجها!
تلعن حظك البائس مع المجلات، تلعن تجارتك الكاسدة في زمن الخيبات.. تلعن كل شيء.. بكل حقد، تعلن في مظاهرة انفرادية أنك فشلت في كل شيء إلا في الخسران، وأنت متخم بصمتك الصاخب، وترانيم عزلتك الفارهة تغنيك عن كل ثرثرات العالم، تتساءل:ما جدوى الكتابة إذا لم تركل كل هذا الهراء الذي يطوقنا، من كل الجهات!؟
كأي شخص غير متزن، وربما غير سوي، تكتب برعونة هذا الهراء.. مثقلا بنشيج الروح وهشيم براءة مسروقة. هذا الهذيان الذي لم يعبأ به أي أحد في تويتر، لأن الكتّاب يفضلون التعاطف مع المصائر التراجيدية بين دفتي كتاب، يتعاطفون مع الأوهام فقط، ويتركون جثتك تتعفن على رصيف هذا الواقع المقيت.. ثم يغتالونك في نميماتهم اليومية، كأنما ينتظرون موتك، وبعد أن يتأكدوا أنك توغلت في الغياب، سيدعون أنك كنت صديقا طيبا، حلو المعشر.
تفكر في ما يشبه النهاية غير السعيدة لهذا النواح الداخلي، وأنت رهين هذا المحبس الموحش، والمتوحش أيضا، لأنه يقضمك من الداخل ببطء.. تفكر في نص قديم، كتبته في البدايات.. ثم، وبكثير من الخزي تتذكر أنه فاتك أن تكتب - قبل سنوات- أن هذا الأخ الأصغر، هو من سيتكفل بأقساط تمدرس ابنك الصغير!!!
باب الخسارات
دائما أهرب من الطرقات!..
لا أحب أن أفتح الباب، ولا أن أعرف من الطارق، وقبل أن يهرع الأخ الصغير مثل عاصفة ليطل من الشباك، أغمغم: إذا سأل عني أي شخص.. فأنا غير موجود! ويعرف من أقصد..
لا أعرف لماذا يصران على طرق باب ارتكن إلى زاوية النسيان؟ فإذا لمحت أحدهما في الشارع - في أيام عطلهما- استدرت بسرعة مغيرا الاتجاه أو ذبت في الزحام… قد يكون الطارق… لكني أمقت "هذا الحب"، لأنه يذكرني بطريق الأشواك…
لم أقبل أن يكون الحب شفقة تختلس… فلم آخذ منهما إجابات امتحان لغة العم سام،
وتركت
الورقة
بيضاء…
***
هشام بن الشاوي - المغرب
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (209): القداسة الذاتية والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة التاسعة بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
القداسة الذاتية
ماجد الغرباوي: يمثل البعد المثيولوجي مقوما أساسا لمفهوم قداسة الرموز بالمعنى المتداول، لا فرق بين الرموز الدينية وغيرها، بهذا يصدق أن الأسطرة التي ربما تكون مجرد خرافة قاسم مشترك "مشكك" بين مصاديقها، فيكون تفاوت انطباق المفهوم على مصاديقه قدرها، وهذا يعود لمنشأ القداسة، وكيفية تجلي الرمز في وعي المتلقي، باعتبارها وليدة مخيال شعبي، وأوهام شخصية، يتحكم بها مستوى وعي الناس وثقافتهم وقدرتهم على إدراك الحقائق، وكيفية تفسير الظواهر الغريبة. لذا يتفاوت تقديس الرمز الواحد من بيئة إلى أخرى. فبعضهم تجده خاشعا وجلا وهو يطوف من حول ضريح من الأضرحة المقدسة، لكنه غير مكترث بين يدي ربه وهو يصلي. أو يحلف بالله كاذبا، بينما يرتبك عندما يقسم بمقدساته وأوثانه المحلية. وقد حدث مرة في مدينتنا: أنْ ترافع إثنان للحاكم حول سرقة بقرة، وكاد الحاكم يحكم ببراءة المتهم لعدم كفاية الأدلة وبعد يمينه وقسمه بالله وكتابه المبين (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر). غير أن المدعي إلتمس الحاكم أن يحلف المتهم بـ(فختاية)، وهي إحدى مقدساتهم، يعتقد أهل القرية أن الله قد حباها بكرامة، وقد دلت الآثار التكوينية على ثبوت كرامتها، ولما طلب منه الحاكم ذلك، قال: (أنْ أحلف بفختاية كاذبا فلا.. تعال وخذ بقرتك)؟!!!. فكيف يرتبك أمام مقدس شعبي لا حقيقة له سوى أوهام الحقيقة، ويكذب بالله الخالق كذبا؟. كيف وقع هذا الفارق الهائل في تقديره؟ هنا يلعب الوعي والحكايات وما يروى من شواهد دورا أساسا في ولادة المقدس، ومن ثم تكريسه مع كل حكاية جديدة، عن معجزاته، والآثار التكوينية المترتبة على الإيمان وعدم الإيمان به وبـ (شارته / حوبته) حسب اعتقادهم. لا فرق بين شخص وغيره، ما لم يتداركه الوعي، ويكف عن التفسيرات الغيبية لبعض الظواهر، خاصة البسيطة. إن قليلا من الوعي يسلب الرمز أسطوريته عبر تقديم تفسيرات علمية للظواهر الطبيعية. وهذا يؤكد أن البعد المثيولوجي للمقدس رغم قوته وإلهامه وهيمنته لكنه يبقى نتاجا للمخيال الشعبي، محكوما بظرفه الزماني والثقافي ومستوى الوعي. فانحسار العلم يقابله طغيان المثيولوجية، والعكس صحيح عندما يفتح العلم آفاقا كبيرة لتفسير الظواهر الطبيعية. وكلما تقدم العلم انحسرت الحاجة للمقدس / للغيب بل وحتى للدين؟
وبالتالي تتهاوى قداسة الرمز مع تلاشي مثيولوجيته. وتُبطلُ سحرَهُ وتوهجهَ كلُ محاولة لاكتشاف بشريته وعدم أسطوريته. فرمزية المقدس تتقوم بإبهامه وغموضه وما يشاع حوله، وصدى إيحاءاته وهيمنته اللا شعورية، وهي هيمنة نسبية، تتحكم بها خصوبة مخيلة الفرد، وقدرته على التحليق في أفق الخيال. والعكس صحيح، وهذا أحد أسباب استماتت الخطاب الطائفي لتفادي كل تفسير بشري يسلب الرموز التاريخية والدينية قدسيتها. وهو موقف انفعالي تثيره القراءات النقدية، حيث تنتاب الطائفي نوبة قلق وارتباك لا يجد سوى الخروج عن اللياقات الأدبية والأخلاقية جوابا، بينما العقل المنفتح والروح العصية على العبودية، تتفاعل مع القراءات النقدية بحثا عن الحقيقة. وأما السبب الثاني لهستريا الردود الطائفية هي دفاعا عن المعنى الذي كان يضفيه الرمز المقدس على حياته ويعقد عليه آماله وخلاصه، ثم فجأة تتداعى آماله، فهي موقف نفسي لا شعوري يائس. إن نقد قداسة الرموز التاريخية والدينية خطوة مهمة لاستعادة العقل المخدّر وتحرير النفس من روح العبودية. إذاً، فالترحل جميع اليقينيات الصلبة لتفادي خطورتها على الحقيقة والوعي، إنها نتاج عقل مثيولوجي، مسكون برهاب القداسة. إن نقد القداسة ليس أكثر من اكتشاف بشرية الرمز المقدس، وتفسير الظواهر تفسيرا علميا لا غيبيا. وهذا ما ترفضه القراءات الرسمية للأديان، والمؤسسات الدينية التي يمنحها المقدّس شرعية وجودها، وتمارس صلاحياته المفترضة وكالة!!. إن نقد القداسة يستعيد مكانة الرموز الدينية بعيدا عن الإسفاف والغلو والمبالغة والتهويل. والحيلولة دون استغلال قدسيته ومكانته لأغراض سياسية وطائفية، وهذا هو الأخطر.
إذاً، يمكن تحديد خصائص المقدس أو العناصر المشتركة وفقا للرأي المتداول، وهي خصائص مشتركة، رغم نسبيتها وتفاوتها، بدءا من أبسط تمظهراتها، وهذا يمهّد لدراسة المقدسات وتفكيكها، للتعرف على مدى حقيقتها وبشريتها:
أولاً- الإبهام: وهي صفة مشتركة بين المقدسات، بشكل يكون المفهوم عصيا على الفهم والإدراك سوى صورة هلامية، مبهمة، غامضة، تبعث على الحيرة وتثير التكهنات، تلين له النفس وتخشع، تحسّبا لمفاجأته. وبشكل أدق، المقدس في وعي الناس لغز، لا يعطي نفسه بسهولة. مغرٍ يثير الدهشة. سرّ قوته في غموضه، وهيمنته، وقدرته على إثارة الخيال. حداً يتماهى القلب، يخشع في حضرته، يترقب، وجميعها إيحاءات نفسية لا صدقية لها سوى ما يجول في خياله من انطباعات عنه، وما يتولد عنها من مشاعر وممارسات طقسية، تتجلى فيها هيمنة المقدس. فيصدق أن الطقوس فخ القداسة. وهذا يكفي مبررا لملاحقتها وكشف حقيقتها.
ثانياً- المثيولوجيا: إذ جميع المجتمعات تتعاطى مع المقدس باعتباره كائنا أسطوريا خارقا في قدراته ومعاجزه، بغض النظر عن مصدرها، هل هو ديني أم تاريخي. غير أن الإيمان بأسطورية المقدس متفاوتة، تخضع لمستوى وعي الفرد وثقافة المجتمع. فهناك من لا يكتفي بأسطرة الرمز المقدس، بل ويبرر للخرافة رغم إيقاعها السلبي على النفس البشرية. وبالتالي الجميع يعتقد أن شخصية الرمز المقدس تنطوي على أسرار، يتعذر إدراكها، ومعرفة حقيقتها. وأنها مطعى إلهي، وهبة ربانية غير متاحة لأحد، وهي الحد الفاصل بين المقدس والمدنس. أو بين السماوي والأرضي. وعلى هذا الأساس يتقبلون كل ما يسمعونه من حكايات ومعاجز وخوارق عن الرمز المقدس مهما كانت خرافية!!. بمعنى آخر، أن نفس مفهوم القداسة يهيء النفس لتقبل ما يشاع عن الرمز. حداً لا يستبعد شيئا، وهذا الاستسلام بدوره، كما ينعكس على ذات الفرد، ينعكس على ثقافة المجتمع، وبهذا الشكل يغدو المجتمع حاضنة للمقدس بجميع دلالاته.
ثالثا- التعالي: الذي يدخل في صميم القداسة، ويكون دالا عليها. كل مقدس يتعالى على النقد والمراجعة. موصدة أبوابه سوى باب التكهن حول حقيقته وكنهه. لا لأن معرفة حقيقته ممتنعة ذاتا، بل لأنها صفة المقدس، فهو كائن ميتافيزيقي في حقيقته، فكيف يمكن للإنسان فهم حقيقته وإدراك كنه. وما الكرامات والمعاجز سوى معطى ميتافيزيقي تدل عليها آثاره التكوينية. وهي في الواقع ليست آثارا تكوينية بل أسبابا طبيعية يطمسها رهاب القداسة، ليكتفي الفرد بأوهامه وأوهام الحقيقة. لذا تتساقط تلك الكرامات الواحدة تلو الأخرى مع يقظة الوعي، ومعرفة الأسباب الطبيعية الكامنة وراءها.
رابعا – الحصانة: حيث يتناسب مستوى القداسة والتبجيل والرفعة مع حجم الحصانة الذاتية والموضوعية. الأول خصائص ذاتية تحكم علاقة المقدس بغيره وفق معادلة: مقدس / مدنس. كانتسابه للمتعالى / للخالق أو للآلهة. والموضوعية مجموع الواجبات والمحرمات التي تحدد علاقة المدنس بالمقدس وتعزز قداسته. كقوله تعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، إضافة للحاضنة الاجتماعية. فتأتي المحرمات والواجبات لتكريس حصانة المقدس. أي أن مقوم المقدس مغايرته للمدنس أو الدنيوي، فتكون النواهي دالة على هذه المغايرة. فالتابوات أسيجة القداسة، وحصونها المنيعة. تهيء النفس للتعامل مع كائن مغاير، ميتافيزيقي. أنظر لشعيرة الحج في الإسلام مثلا، باعتبارها شعيرة مقدسة، وأقرأ عدد المباحات التي تغدو محرمات بعد ارتداء ملابس الإحرام. جميعها ينفي تجانسه مع الدنيوي. فيباغت الحاج شيء من الرهبة والخشوع وهو يمضي في خطوته التالية / التلبية. فهذه الخطوات من شأنها رسم صورة المقدس في ذهن الحاج. ولو كان الحج مجرد سفرة سياحية، يفقد قدسيته، بينما تنتاب الحجاج مشاعر روحية، وفيض من الروحانية، كانت شعائر الحج منذ بداية الميقات تهيئ لها. وقد عززت الآيات قدسية الحج بتشريعات جزائية لمن يخالف شروط الحج أو يهتك حرمته من خلال سلوك مغاير للفريضة الدينية. وبالتالي تأتي التشريعات لتعزيز قدسية المقدس وفق معادلة: مقدس / مدنس. مقدس / دنيوي. وهي معادلة تعكس عمق المغايرة بين المقدس والمدنس. بمعنى أدق ثمة مغايرة جوهرية بينهما.
إن هذه الخصائص لا تنفي غيرها، لكنها تمثل معالمها الرئيسية، ويمكن للباحث دراسة أبعاد أخرى لظاهرة المقدس. كرمزية المقدس التي يمكن أن تكون عنصرا مشتركا. لكن الأهم أن كل واحدة منها تؤثر في الموقف الأخلاقي. كيف نفسر انقلاب الحقيقة وأثرها النفسي على المتلقي أخلاقيا؟.
مناشئ القداسة
إن سلطة الرموز المقدسة تبرر السؤال عن مصدرها. هل هي ذاتية أم مكتسبة؟. دينية أم دنيوية؟.
هذه الأسئلة وغيرها تساعد على تفكيك المقدس بعد تحديد مصدر قدسيته وشرعيته. من خلال الكشف عن بشريته، وتحديد مدى حقيقته. خاصة الجانب المبهم في المقدس، ذلك الغموض الملهم الذي يلفه، والذي يمارس حضوره كمرجعية ميتافيزيقية وراء معطى القداسة التي يسبغها على الرمز الديني أو التاريخي. فرهاب القداسة يرتهن لحل لغز المقدس وما ينطوي عليه من أسرار أو ما يوحي به من إيهامات. وهذا يقتضي نقد محمولات المقدس لسلب الرمز سلطته، وتنكشف غشاوة العمى عن عيون الناس. بهذه الطريقة يفقد المقدس هالته السحرية، ويتحرر الضمير الأخلاقي من سطوته. وهنا يلعب المنهج التاريخي دورا اساسا لتحري تاريخ المقدس، بدايته، مراحل تطوره. كما لو دلت البحوث التاريخية عدم انتساب رمزا من الرموز الدينية للعائلة المقدسة التي هي مصدر قداسته. أو حينما يكتشف الباحث الحكاية الأولى لتاريخ المقدس، فقد تكون مجرد خرافة، تطورت بفعل الحاجة للمقدس، فتجد كثيرا من الشعوب يعكفون على مقدسات، كانت بدايتها مجرد قصة خيالية أو وهم استبد بالقوم ثم راحت تتطور مع مرور الزمان. خاصة حينما ترتبط بالمقدس مصالح سياسية. فالجانب المبهم هو المدخل لتفكيك المقدسات، وبيان ما هو حق وما هو باطل. فثمة تداعيات كبيرة تترتب على القداسة، تتعارض مع القيم الأخلاقية، حينما ترفع الرمز فوق النقد والمراجعة دون حق، وتصبح آراؤه أحكاما نهائية ملزمة. وهذا يدعو لتقديم معنى آخر لمفهوم القداسة، يخرج به من المعنى المتداول الذي فرضته إما سذاجة الناس أو تزوير الوعي. الأول يخص المراحل الأولى من حياة المجتمعات البشرية، وكل مجتمع لا يملك مقومات الثقافة والوعي. وأما تزوير الوعي فهي جهود منظمة مقصودة تحت دوافع دينية أو طائفية أو سياسية، تنسج حكايات وقصصا وكرامات، ترفع من شأن الرمز الديني، ليرقى إلى مستوى القداسة بمفهومها المتداول الذي يعني تعاليه فوق النقد والمراجعة. ويسعون إلى تغييب العقل من خلال الطقوس والمناسبات المرتبطة به.
قداسة ذاتية
بدءا نقول أن القداسة نوعان، ذاتية ومكتسبة:
القداسة الذاتية تختص بالخالق الحقيقي، سواء بالمعنى المتداول لمفهوم القداسة أو بالمعنى الذي سنقدمه. فهو حقيقة متعالية، كلي القدرة والإرادة. مبهم، غامض حد الجهل بحقيقته وكنهه. موحٍ، لمّاح مهيمن، فهو: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، وقد حارت بكنهه العقول، ومازال الجدل وسيبقى لمعرفة حقيقته، لكن دون جدوى لوجود مغايرة جوهرية حقيقية، وليست مجرد دعوى. وهذا لا يتنافى مع شرط الإيمان في تصديق وجوده. نحن بصدد ضابطة عامة: لا تصح القداسة الذاتية إلا من اتسمت به صفات الكمال المطلق، وهو مختص بالخالق تعالى. وإذا كان هناك مفهوم للمقدس في مقابل المدنس فهو منحصر به، دون غيره: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). فقداسة الخالق ضرورة ذاتية، لأنها مقتضى تعاليه. فهو مقدس بالضرورة. لا تتوقف قداسته على جعل أو إفاضة من الغير. فيكون هو مصدرها، يفيض قدسيته على من يشاء. وعليه فانطباق مفهوم القداسة عليه حقيقة لا مجازا.
ويلحق بالخالق الآلهة في أساطير الأولين، رغم تعددها، لا باعتبارها حقيقة، بل لأن القداسة مقوّم لمفهوم الإله. سواء كان إلها حقيقيا كالخالق أو مفترضا كآلهة الحضارات القديمة، بل جميع الآلهة وفي جميع الأديان، شريطة أن تكون متعالية، ذات بعد ميتافيزيقي، وإذا كان ثمة كلام حول صديقتها، فبسبب تعددها، لتنافي التعدد مع الوحدة. والخالق الحقيقي واحد أو لا يكون كاملا، فيكون حادثا ويحتاج إلى خالق. فالمفهوم المتعالي هو المقصود أولا وبالذات، حتى ولو تجسد في موضوع خارجي، كالأصنام والأوثان التي هي مجرد إشارة حسية لمفهوم مفارق، متعالٍ، وهو المفهوم المرتكز في أذهان الناس. وهو بلا شك مفهوم ميتافيزيقي. وهذا هو المتبادر من مفهوم الإله. وعلى أساس هذا التبادر يتم التعامل معه من قبل المؤمنين به، وفرز المقدس عن المدنس. بل يصدق أن تمام حقيقة مفهوم الإله في المجال العام قدساته، لذا تنهار باكتشاف زيفه. وبالتالي فإن مفهوم القداسة هنا ينطبق على مصداقه، لأن صدق المفهوم لا يتوقف على وجود المصداق، بل يمكن انتزاعه من صورة ذهنية. وهنا نحن ننظر لذات مفهوم المقدس الذي هو مقوم لمفهوم الإله، بغض النظر عن مصداقه الخارجي. فتارة يكون المصداق مصداقا حقيقيا كما بالنسبة لواجب الوجود، الذي يمكن الإشارة له من خلال مخلوقاته وبديع آياته ونظام خلقه. أو يكون مفترضا يعكس إسقاطات الإنسان عليه، كالآلهة المصطنعة. والكلام على مستوى المفهوم سواء هناك من يؤمن بوجود خالق حقيقي أم لا. نخلص أن الإله هو المصداق الوحيد للقداسة الذاتية. وما عدا ذلك تكون القداسة مكتسبة، ونسبية.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
علي رسول الربيعي: سؤال الى هابرماس
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي
إن التأمل والنظر الموسع في الدراسات التي تسـاهم في تحليل وتفسير ونقد اعمال هابرماس المستمرة والمعقدة تمنحنا القدرة على أن نصل الى القضايا المطروحة للنقاش راهنًا وبالتالي ما يمكننا صياغة السؤال:
- كيف يمكن التوفيق بين النضال التاريخي والسياسي من أجل التحرر وبين التحرر الذي يوفره وضع الخطاب المثالي؟
- ما علاقة الإجماع العقلاني بحالة الخطاب المثالية المضادة للواقع بالحقائق التوافقية للوجود الاجتماعي الملموس؟
- لماذا هناك التقليل من أهمية علوم نقد الأيديولوجيا والتحليل النفسي، التي تخدم المصالح التحررية، في كتاباته الأخيرة؟
- كيف يمكنه التوفيق بين التناقضات التي نجدها بين نظريته التي طرحها في كتابه المصلحة والمعرفية بخصوص المعرفة والمصالح البشرية مع نظرياته عن العقلانية التواصلية؟
- أليست علومه في إعادة البناء (reconstructive sciences) "متعالية" أكثر منها تجريبية؟
- هل الكفاءة التواصلية عامة عالمية أم أنها صفة مميزة لبعض المجتمعات الحديثة؟
- كيف يمكن التوفيق بين شكلية العقلانية التواصلية والفهم التفسيري؟
- كيف يمكن التوفيق بين العلاقات المتبادلة بين المعايير وظروفها التجريبية مع إجماع عقلاني لغوي أحادي الجانب؟
- أليست نظريات بياجيه وكولبيرج التطورية، التي يتخذها هابرماس كنماذج عالمية، مرتبطة بالثقافة؛ ألا ترتكب هذه النظريات واستخدام هابرماس لها مغالطة طبيعية؟
- ألم يتم تجاهل مشكلة معايير الحقيقة في إجرائية الحقيقة بالإجماع العقلاني؟
- هل يمكن لنظرية معيارية لا تفحص أصولها التاريخية الأخلاقية أن تحافظ على أهميتها الفلسفية أو السياسية؟
- هل نجت الفلسفة الكانطية المتعالية التي يؤهلها هابرماس من صعوبات الأسسية؟
الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ
ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (5)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
فلسفة الانبعاث القومي و"الحقيقة السورية"
إن مضمون البعث القومي بوصفه رسالة في فلسفة انطون سعادة القومية يتطابق مع مضمون "الرسالة" الشاملة للنفس. بمعنى أنها تضع أولوية وعي الذات القومي وإعادة بنائه على أسس جديدة لها تراثها الخاص. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنَّ "رسالة البعث القومي الاجتماعي إلى السوريين ليست متولدة من مجرد كره الأجنبي، بل من رغبة حقيقية في صهر نظرياتنا وعقائدنا المتنافرة وسبكها في وحدة روحية لا تعود تتمكن المطامع الأجنبية من تفسيخها وإضعافها". واستكمل هذا الموقف بفكرة تقول بضرورة أنْ يكون الأساس القومي الاجتماعي مبنياً على قاعدة "الوحدة الروحية الكلية في كل شيء". ووجوب أنْ تشكل هذه "الوحدة الروحية كل فكرة وكل نظرة في حياتنا"[i]. وبغضّ النظر عما في هذه الفكرة من نزوع كلياني إلا أنَّ مضمونها الفعلي يقوم في محاولتها بلورة رؤية عقلانية واقعية ومستقبلية تجاه الرسالة القومية الذاتية، التي وجدت تعبيرها النموذجي والتكامل في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الثمان. ولم تكن هذه المبادئ الثمانية الكبرى سوى الصيغة السياسية لما وضعه في كتابه (نشوء الأمم)، أي الصيغة السياسية للفكرة النظرية. وقد كان منطلقها العام يقوم في الإجابة على سؤال الهوية:"من نحن؟". ذلك يعني إنَّ هذه المبادئ الكبرى ليست إلا الصيغة النظرية والعملية الدقيقة لفكرة البعث والرسالة وحدودها الملموسة. وهي كالتالي:
- نحن سوريون ونحن أمة تامة.
- القضية السورية هي قضية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.
- القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.
- الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتوّلدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.
- الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهي ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب شاملة جزيرة قبرص إلى قوس الصحراء العربية والخليج العربي في الشرق. ويعبر عنه بلفظ الهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص.
- الأمة السورية مجتمع واحد.
- تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي.
- مصلحة سوريا فوق كل مصلحة"[ii].
لقد كثّفت هذه المبادئ مضمون الفكرة القومية الجديد وحدودها النظرية والعملية. من هنا انطلاقها للإجابة حول السؤل المتعلق بالماهية، من أنَّ التعريفات المنتشرة مثل اللبناني والفلسطيني والشامي والعراقي والعربي لا يمكنها أنْ تكون أساساً لوعي قومي صحيح. ومن ثم لنهضة "الأمة السورية" ووحدة حياتها ومصيرها[iii]. أما المقدمة الضرورية لتنفيذ ذلك فتقوم بالإقرار بفكرة "سورية للسوريين" وفكرة "السيادة القومية". بمنى ضرورة الإقرار بوجود "أمة سورية تامة" لها حق السيادة الذاتية والحديث باسمها بوصفها أمة مستقلة لها كيانها الخاص. مع ما يترتب عليه من إقرار بترابط ووحدة الأرض والجماعة بصورة لا تتجزأ. مما يحقّ بدوره للسوريين وحدتهم وحقوق تمثيلهم الذاتي. وهذا بدوره ليس إلا النتيجة الملازمة للإقرار بعدم الانفصال بين الأمة والوطن. وذلك لأنَّ "الأمة بدون وطن مُعَيَن لا معنى لها، ولا تقوم شخصيتها بدونه"، كما يقول انطون سعادة. إضافة لذلك إنَّ هذا الفهم والإقرار يؤدي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة القائلة، بأنَّ وحدة الأمة والوطن تجعل الفرد والجماعة يتوجهان صوب فهم الأمة على حقيقتها، أي إدراك أنَّ "شخصية المتحد هي شخصية الأمة"[iv].
إنَّ هذا الفهم يجرّد الفكرة القومية من النزوع العرقي الضيق ويربطها بفكرة الأرض والتاريخ الثقافي الذاتي. من هنا قول انطون سعادة، بأنَّ مقصود القومية السورية الاجتماعية ليس رد الأمة إلى سلالة أو عرق معين، بل النظر إليها باعتبارها نتاج تاريخ طويل لتداخل مختلف الأقوام والشعوب. وبالتالي، فإنَّ "مبدأ القومية السورية ليس مؤسسا على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزج سلالي متجانس". على العكس، إنَّ مضمونها يقوم في إبراز الحقيقة القائلة، بأنَّ "مدلول الأمة السورية يشتمل على هذا المجتمع الموَّحد في الحياة، الذي امتزجت أصوله وصارت شيئاً واحداً. وهو المجتمع القائم في بيئة واحدة ممتازة عرفت تاريخياً باسم سورية وسماها العرب (الهلال الخصيب) لفظا جغرافياً طبيعياً محض لا علاقة له بالتاريخ ولا بالأمة وشخصيتها"[v]. وليس مصادفة أنْ يكون كل المؤرخين الذين حصروا سوريا بمكان جغرافي يخرج منه العراق وفلسطين وغيرها، هم أجانب. بينما يدل "تاريخ الدول السورية القديمة الأكادية والكلدانية والآشورية والحثية والكنعانية والآرامية والامورية على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب"[vi]. إنَّ هذا الفهم للحقيقة السورية بهذا الشكل يجعل فهم ما جرى فيها، بما في ذلك من حروب، مجرد أسلوب للسيطرة عليها كلها بوصفها كلاً واحداً. بمعنى أنَّ هذه الحروب لم تكن إلا نزاع على السلطة بين قبائل الأمة الآخذة في التكوّن، والتي استكملت بعد تكوّنها.
لقد أراد انطون سعادة بهذا الوصف إزالة البعد الجغرافي عن "سورية" وإحلال الفكرة القومية وإطلاق نسبها التاريخي الثقافي عليها. ووجد في ذلك إحدى المقدمات الفكرية الضرورية لتأسيس حدود ومعنى الفكرة القومية الاجتماعية. من هنا سعيه لإعلاء فكرة السوري والسورية عوضا عن مختلف التعابير الجزئية والأوصاف الجغرافية. وحتى حالما أقرّ بصورة جزئية بتوصيف"الهلال الخصيب" نراه يدرجه ضمن عبارة الهلال السوري الخصيب. بمعنى جوهرية الفكرة السورية. من هنا قوله بأنَّ الفكرة القومية التي يدعو إليها لا تتنافى مطلقا "أنْ تكون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي، أو إحدى الأمم العربية"، تماما كما أنْ "تكون الأمة السورية أمة عربية لا ينافي أنها أمة لها حق السيادة المطلقة على نفسها ووطنها". ووجد في "إغفال هذه الحقيقة" السبب القائم وراء إثارة مختلف الصراعات الجزئية والتقليدية بين "النزعة المحمدية العربية والنزعة المسيحية الفينيقية التي مزقت وحدة الأمة وشتت قواها"[vii]. لهذا نراه يشدد دوما على ضرورة فصل الدين عن الدولة وبالتالي إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب، بوصفه المبدأ الأساسي للوحدة القومية الحقيقية، كم انه دليل الوجدان القومي[viii]. من هنا استنتاجه النظري والعملي القائل، بأنَّ الفكرة القومية الاجتماعية هي المخرج من هذا المأزق[ix]. فهي الفكرة القادرة على إرجاع "سوريا" إلى أصولها الذاتية.
إنَّ الخلل الشكلي والمعنوي الذي سحب وراءه خلل الرؤية السياسية تجاه إدراك "الحقيقة السورية" بمعناها التاريخي والثقافي والدولتي يقوم في ضعف أو انعدام الإدراك السليم لسورية بوصفها كلاً واحداً حتى في اشد حالات صراعها الداخلي وتقسيمها. فقد جرت من الناحية التاريخية محاولات عديدة لتجزئة العالم السوري. إذ أطلق بيزنطة الاسم على سورية الغربية، بينما أطلقه الفرس على سورية الشرقية (العراق). أما البريطانيون والفرنسيون فقد قسّموه حسب مصالحهم إلى فلسطين وشرق الأردن ولبنان وسوريا (الشام) والعراق. وجرى حصر سوريا بمنطقة الشام فقط. كما جرى إخراج قبرص منها مع أنها قطعة من أرضها في الماء[x].
إنَّ الرجوع إلى الحقيقة السورية يكمن بما فيها من أصول ذاتية تاريخية ثقافية جعلتها كلاً واحداً متميزاً وفاعلاً في الوعي القومي نفسه. إذ لسوريا مآثرها الثقافية التاريخية الكبرى. ففيها نشأت الحروف، بوبصفه أحد أعظم الانجازات الثقافية الكونية. وفيها نشأت الشرائع المدنية وعمران البحر المتوسط. ومنها ظهرت شخصيات كبرى مثل زينون وبار صليبي ويوحنا فم الذهب وافرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وغيرهم. إضافة إلى قواد عسكريين عظام مثل سرجون الكبير واسرحدون وسنحاريب ونبوخذنصر وآشور باني بال وهاني بعل إلى يوسف العظمة[xi]. ومن هذه الحصيلة توصل إلى استنتاج عام يقول، بأنه "في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم"[xii]. مما يعطي لها حق التعامل مع نفسها باعتبارها ذاتاً قومية واحدة، أي أمة لها استقلالها المادي والمعنوي المرتبط بماهيتها الخاصة. وقد تضمن هذا الاستنتاج بالضرورة على فكرة الدولة القومية باعتبارها أداة تجسيد الروح القومي وأسلوب تقويته وبعثه وترقيته الدائمة.
لقد وضع انطون سعادة علامة مساواة تامة بين القومية والدولة الحديثة. وانطلق بذلك من كون الدولة هي الصيغة المثلى والتامة تمثيل المصالح العامة. لهذا نراه ينظر إلى الدولة باعتبارها "أرقى مرتبة في المصالح". ووجد سبب ذلك في كونها المؤسسة التي تشتمل على "جميع مصالح المُتَحِّد" (الجماعة). وتمام هذه الجماعة الحديثة هي الأمة. فالأمة هي أهم مُتَحِّد[xiii]. وبالتالي "كلما ارتقى المُتَحِّد في ثقافته المادية كلما ازدادت المصالح المعنية التي من شأنها ترقية الحياة الجيدة وتجميلها"[xiv]. فالقطر الذي هو مُتَحِّد الأمة أو المُتَحِّد القومي هو أكمل وأرقى متحد. وذلك لأن المصالح تنشأ في المجتمع لا خارجه، كما يقول انطون سعادة. إضافة لذلك إنَّ المصالح هي الحياة. وبما أنَّ الإرادة على قدر المصلحة، من هنا، كلما كانت المصلحة أساسية دائمة كانت الإرادة كذلك[xv]. ولا يمكن تجسيد وبلوغ كل ذلك بدون الدولة.
انطلق انطون سعادة في فهمة لماهية وقيمة وغاية الدولة في كونها الأداة الكبرى التي تجّسد الروح القومي وتعمل على ترقيته. من هنا فكرته عن انه حالما ظهرت الدولة "أصبحت هي شخصية المجتمع وصورته، يَعْظَمُ بعظمتها ويصغر بصغرها". ذلك يعني إنَّ الدولة هي التي تكوّن المجتمع، وتعين مداه، وتكّيف شئون حياته، وتمّثل شخصيته. واعتقد بأنَّ وظيفة الدولة كانت على الدوام منذ أنْ انبثقت "مع فجر التاريخ"، تماما بالقدر الذي تعمل فيه على إنشاء التاريخ نفسه[xvi]. وإذا كان للدولة، حسب تصور انطون سعادة، ثلاثة أشكال رئيسية وهي الديمقراطية والاتوقراطية والارستقراطية، فإنَّ تاريخها الخاص في سورية حدد ويحدد قيمتها بوصفها أداة إعادة بناء "الأمة السورية" في العالم الحديث.
فقد شكل نشوء الدولة السورية الصورة الأولى والنموذجية للدولة في التاريخ العالمي. وانطلق في تحديد ماهيتها وخصوصيتها بوصفها دولة مدنية لا دينية، محكومة بالشرع وليس بالأعراف والتقاليد والعقائد. وأعطى لذلك اسم "الدولة التاريخية". وعندما اجرى مقارنته الأولية والسريعة بين الدولة السورية (دولة بابل وآشور) والدولة المصرية، نراه يشدد على ما اسماه بتمركز القوة في بابل وممفيس. إلا أنَّ الفرق بينهما في "تفرّد النظامين السوري (الشنعاري) والمصري. فمع أنَّ حمورابي لبى دعوة الآلهة ليقيم القسطاس في الناس، فإنَّ شريعته الشهيرة التي خلدت ذكره، كلها أحكام زمنية دنيوية، وليس في بابل سلك الكهنة"[xvii]. ذلك يعني إنَّ نموذجها هو دولة القانون الوضعي الدنيوي بلا سدنة ولا كهنة. مما طبع بدوره تاريخها اللاحق، أي أنَّ الدولة السورية لها خصوصيتها المترتبة على فعل مكوناتها الثقافية الخاصة. وكل خروج عليها يؤدي إلى هلاكها. مع ما يترتب عليه من إقرار ضمني بضرورة الرجوع إلى "الحقيقة السورية" من اجل إعادة بنائها الحديث.
واتخذ من تاريخ الدولة السورية والخلافة نموذجاً بهذا الصدد. فقد اعتقد بأنَّ الدولة الأموية (السورية النشأة) أنقذت الإمبراطورية الإسلامية من حالة الفوضى وتطاحن القوات[xviii]. الأمر الذي جعله يجد في الدولة الأموية تجسيداً للنزعة السورية في معارضتها لما اسماه بتقاليد الصحراء. بحيث نراه يشدد على انه إذا كانت هنالك أرض تحدد الحياة والثقافة الإنسانيتين تحديداً يكاد يكون حتمياً فهي بدون شك الصحراء[xix]. ووضع في هذه الحصيلة المجتزأة من أفكار ابن خلدون عبر تحويرها بعبارة تقول:"لما كانت الجماعات الفطرية عموما واقعة تحت تسلط التصورات الخارقة (الدينية) كان الدين العامل الوحيد الذي يمكنه أن يُوجِد مركزاً مشتركاً للقبائل". واستكمل ذلك باستنتاج يقول، بأنَّ "بيئة القبائل اللاعمرانية تقبل فقط بالشرع الإلهي القاطع. وتجربة محمد في مكة، وهي الدولة الوحيدة التي أمكنها أنْ تصير دولة عامة في بلاد العرب" دليل على ذلك[xx]. إذ نعثر فيها على ما اسماه باستحالة بلوغ من أطلق عليهم صفة "الشعوب الشقيقة للشعوب الثقافية" مرتبة "الدولة الثقافية التاريخية".[xxi]
وليس مصادفة أنْ يتوسع نسبياً في تأويل التاريخ السياسي العربي الإسلامي من خلال "سرينته" بوصفه تاريخاً مدنياً. ومن ثم تاريخاً سورياً مقبولاً ومعقولاً بما في ذلك بمعايير العالم الحديث. من هنا قوله، بأنَّ "الدولة الدينية" التي صنعها النبي محمد "ما لبثت إنْ انتقلت إلى خارج بلاد العرب حيث دخلت في حوزة الشعوب الثقافية"[xxii]. وقبل ذلك كان الصراع فيها يجري بين مبدأ الانتخاب والنسب. وإذا كان الانتصار في البداية للاتجاه الداعي للانتخاب، فإنها سارت زمن خلافة عثمان في طريق وسط بين الانتخاب وشرعية الخلافة، أي أنها جعلت الانتخاب "لمرشحي العائلة"[xxiii]! استمر هذا الصراع بعد موت عثمان، حيث انتهى بفوز معاوية، بوصفه ممثل النزعة الدنيوية، على عكس الإمام علي ممثل النزعة الدينية. وسبب ذلك يقوم، من وجهة نظر انطون سعادة، في أنَّ "معاوية كان قد أصبح بين محيط غير المحيط العربي. فإنَّ العشرين سنة التي قضاها في سورية "سرينته" وأعطته اتجاهاً جديداً في الحياة الاجتماعية والسياسية". والمقدمة التاريخية الثقافية العميقة الكامنة في هذا التحول تقوم في أنَّ علم الدولة والسياسة وعلم الحقوق الدستورية والمدنية والشخصية كانت قد بلغت في سورية أرقى مرتبة عرفها العالم، فأثرت البيئة الجديدة تأثيراً كثيراً على معاوية وجهزّته ببعد نظر سياسي رجّحه على منازعه. ومن هذه الحقيقة ندرك السر في أنَّ معاوية لا عثمان أسس الدولة الأموية التي طورت الدولة في الإسلام تطويرا خطيرا"[xxiv]. وبالتالي، فإنَّ الفضل في إيجاد الاتجاه السياسي الدنيوي في الدولة الإسلامية يعود إلى الدولة الإسلامية السورية الأموية[xxv]. وعلى العكس من ذلك، حالما انتقل الأمر إلى العباسيين عادت الوجهة الدينية والعوامل الفقهية إلى السيطرة. فقد لبس الخلفاء العباسيون عباءة النبي وأولوا الوجهة الدينية معظم اهتمامهم. وذلك لبعد نشأتهم عن بيئة سياسية حقوقية مرتقية كالبيئة السورية. فقد خرج العباسيون من الجزيرة العربية إلى الملك رأسا واتخذوا شرق سوريا قاعدة لملكهم من غير أنْ يمروا بحقبة تمدن سوري[xxvi]. من هنا كانوا ضعفاء في سياسة الدولة. وهذا هو السبب في استفحال أمر البرامكة وغيرهم من العناصر الفارسية والتركية وعظم شأنهم في تسيير شئون الدولة[xxvii].
إن ما يقدمه سعادة من تفسير لتاريخ الخلافة ونوعية الدولة ومقدماتها وتحولها النوعي في سورية هو مجرد تأويل متحزب للفكرة السورية وليس تفسيراً علمياً للتاريخ الواقعي ونتائجه الفعلية. فكل ما يقدمه بهذا الصدد من تفسير وتصورات وأحكام لا علاقة لها بالبحث التاريخي والفلسفي الدقيق، وذلك لخضوعها شبه التام لمنطلقات وغايات أيديولوجية صرف. إذ ليس للدولة الأموية علاقة بالفكرة الدنيوية ونظامها السياسي. بل على العكس تماماً. فقد طوعت الأموية الدين بصورة "نموذجية" لخدمة مآربها السياسية. ومن ثم وضعت آلية وتقاليد المكر السياسي الصرف والابتعاد عن القيم الاجتماعية في فكرة الدولة. أما بالنسبة لمعاوية فقد كان ممثل الدجل الديني السياسي، بمعنى توظيف وتطويع الدين لمآرب شخصية خالصة، على عكس الإمام علي فقد كان الأخير ممثلا للتيار الاجتماعي والأخلاقي وليس الديني. وبالتالي يمكن اعتباره ممثل الفكرة الدنيوية النموذجية آنذاك. وينطبق هذا على كيفية تمّثل الفكرة القومية. فقد عمقت الأموية تقاليد الجاهلية والقبلية (الأموية والسفيانية)، على عكس العباسية.
لقد تركت الأموية بعد انهيارها المريع وزوالها السريع بقاياها الخربة في نمط التوريث والاستبداد واحتقار القانون وما شابه ذلك. وفي هذا يكمن سر زوال زمنها السياسي وبقاء تاريخ الدولة العباسية في تاريخ الوعي الذاتي العربي والإسلامي ككل. إنَّ حقيقة الدولة العباسية أكثر مدنية ودنيوية وثقافية وعربية من الأموية. فقد كانت الأموية عربية ولكن بمعايير القبلية الضيقة، بينما العباسية كانت عربية ولكن بمعايير الثقافة الكونية. الأولى صنعت ثقافة الإمبراطورية والثانية صنعت إمبراطورية الثقافة. والثانية نفي للأولى واستكمال لها.
وفيما لو أزلنا المغالطات التاريخية والفكرية والثقافية الكثيرة في آراء انظن سعادة بهذا الصدد، فإنَّ مضمونها كان يرمي إلى إحلال الرؤية الأيديولوجية المميزة للفكرة القومية السورية. بمعنى البرهنة على أنَّ التاريخ السوري وتقاليد الدولة فيه هي الوحيدة القادرة على إبداع نظام مدني حديث. وكما فعلت ذلك في الماضي فإنها الوحيدة القادرة على فعله الآن من بين "أمم العالم العربي". (يتبع....).
ا. د. ميثم الجنابي
..........................
[i] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص57.
[ii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص83- 94.
[iii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص83.
[iv] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص85.
[v] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص87.
[vi] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص87. وهنا يجدر القول الى أن العرب أول من تنبه الى ملاحظة وحدتها الجغرافية الطبيعية فسموها "الهلال الخصيب".
[vii] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص88.
[viii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص92.
[ix] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص89. لكنه استثنى إمكانية إدخال اليهود فيها. وذلك لأنهم عنصر محافظ مغلق. وفكرة الأمة السورية تقف بالضد من النعرات والعصبيات القومية الخاصة والغريبة، كما يقول انطون سعادة.
[x] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص90.
[xi] إننا نثر هنا، كما في حالا عديدة الى جهل أو تجاهل للمرحلة العربية الإسلامية في "الفكرة السورية". بينما لا تعقل الأخيرة على حقيقتها وقيمتها وأهميتها بدون ذلك بوصفها الحلقة الجوهرية والرابطة والعضوي للكل السور (الهلال الخصيب العربي). فالأسماء التي يوردها هنا هي "شامية" وليست سورية، على الأقل ما يتعلق منها بمن بلور ويبلور الذهنية القومية الحقيقية لنزعة السورية بوصفها نزعة عربية، أو النزعة العربية بوصفها "سورية".
[xii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص93.
[xiii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص147.
[xiv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص145.
[xv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص146.
[xvi] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص104.
[xvii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص107.
[xviii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.
[xix] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص124.
[xx] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص125. بل نراه يضع مقارنة بين الدولة التي أنشأها النبي محمد وبين الدولة التي أنشأتها الحركة الوهابية. وكتب بهذا الصدد يقول، بان "نشوء الدولة الوهابية العامة في القرن الماضي وعودتها الى الوجود بعد أن كانت قد قضت عليها الدولة العثمانية، مصداقا لقول ابن خلدون".
[xxi] أدرج انطون سعادة ضمن من اسماهم بالشعوب الشقيقة للشعوب الثقافية كل من العرب والمغول!!
[xxii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص 10.
[xxiii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.
[xxiv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص126-127.
[xxv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.
[xxvi] وهذه مغالطة تاريخية وثقافية وسياسية أيضا. فالتيار العباسي من حيث مقدماتها التاريخية ككل كان "عراقيا" أي "سوريا". وله تقاليده العريقة الأقدم مقارنة بمعاوية والأموية. إذ ليست "العباسية" في الواقعة سوى الحصيلة التي ترتبت على صراع القوى الإسلامية بمختلف مناطقها (العراق ومصر خصوصا) ضد انحراف الخلافة الى ملك التي بدأت مع تسلط عثمان بن عفان، وانته بمقتله.
[xxvii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.
ابراهيم ابو عواد: تحويل التاريخ إلى ظاهرة ثقافية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد
جوهرُ السلوك الاجتماعي ليس أداةً وظيفيةً محصورة في التعليمات المُسْبَقَة أو الأفعال الارتجالية، وإنما هو سُلطة مركزية تتحكَّم بالظواهر الثقافية والمفاهيم السياسية والبناء الاقتصادي،وعملية التحكُّم تَؤُول - بفِعل إفرازات العقل الجَمْعي - إلى تفاعلات رمزية في عُمق الشعور والوَعْي اللغوي، تُساهم في توظيف الأفكار الإبداعية لفهم أنساق الهَيمنة في المجتمع، وتحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى تجارب عقلانية، يُمكن تعميمها في كُل زمان ومكان . والمُمارَسة الحياتية لا تتحوَّل إلى مُمارَسة عقلانية، إلا إذا تَمَّ تشييد الواقع المُعاش على قاعدة (الشعور / اللغة)، فالشعورُ هو النسق الداخلي الذي يضمن لقاءَ الإنسان بإنسانيته، واللغة هي النسق الخارجي الذي يضمن تحويلَ الرموز الذهنية إلى أفعال واقعية . وبين الشعور واللغة تُولَد عوالم روحية وتركيبات مادية، مِن شأنها حِفظ توازن الإنسان، وصناعة السلام في أعماقه، وتحقيق المصالحة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان ومُجتمعه .
2
القيودُ التي تَفرضها الضغوطُ الاجتماعية على أنساق الشعور الإنساني، يُمكن تفكيكها عبر تحويل المسارات التاريخية إلى ظواهر ثقافية، وذلك بأخذ الدروس والعِبَر مِن الماضي، وإحالتها إلى فلسفة إنسانية قائمة على الأسباب والنتائج، ومُندمجة في طبيعة البُنى الاجتماعية، وقادرة على اقتحام بمستقبل بثقة وجُرأة . وإذا نجح المجتمعُ في تحويل الأحداث التاريخية المحصورة في الزمان والمُحَاصَرَة بالمكان، إلى أفكار ومبادئ وقِيَم عابرة للحدود، وصالحة لكل زمان ومكان،فإنَّ أنظمة اجتماعية جديدة ستنشأ، تمتاز بالاستمرارية، وتمتلك قُوَّةَ الدفع الذاتية لتكريس مفهوم الصَّيرورة (انتقال الحالة التاريخية إلى ظاهرة ثقافية) في المجتمع، لأن الأفكار خالدة لا تموت، والثقافة باقية، لا يُمكن دفنها في اللحظة الآنِيَّة، أو نسيانها في المواقف العابرة التي انتهت صلاحيتها . إن الثقافة قائمة على الرموز والإشارات والطموحات والتفاعلات العقلانية والإفرازات الواقعية، وهذا سِر قُوَّتها وارتباطها الوثيق بوجود الإنسان ظاهرًا وباطنًا . والإنسانُ لا يَستطيع إيجادَ صَوته الخاص في ضجيج الحياة، ولا يَقْدِر على حَجز مَقعد في قطار التاريخ، إلا إذا استطاعَ تحويل التاريخ إلى ثقافة ووَعْي بالثقافة، وبذلك يُعيد ترتيبَ الفَوضى في الأنساق الحياتية، ويُسيطر على الشكل والمضمون في اختلاط الأزمنة وزَحمة الأمكنة .
3
إحساسُ الإنسان بطبيعة ذاته وخصائص مُجتمعه، وإحساسُ المجتمع بدَوره المركزي في عملية صناعة الفِعل الاجتماعي، يُجسِّدان المعنى الحضاريَّ بكُل أبعاده . والمعنى لا يتكرَّس كمفهوم وجودي في الذهنِ والواقعِ، إلا إذا جَمَعَ الإنسانُ الجُزءَ والكُلَّ ضِمن صِيغة منطقية، ومَنَعَ التناقضَ، وأزالَ عوامل التَّضاد، واجتثَّ جُذورَ الصراع. والمجتمعُ لا يُبنَى على التناقضات، لأنَّها تُحطِّم جَوْهَرَه، وتُزيل شرعيةَ وُجوده . ولا يُعقَل أن يكون الصراعُ بين التناقضات قُوَّةً دافعة للمجتمع، وسببًا في نهضته، لأن النار لا يُمكن أن تكون مصدرًا للماء . كما أن التاريخ والثقافة لا يُحكَمان بقوانين جاهزة ومُعلَّبة، وإنما يبتكران قوانينهما الخاصة، ويَشُقُّان طريقَهما أثناء السَّير، وكُل رحلة وجودية تشتمل على طريق جديد، يُعاد اكتشافه باستمرار، وهذه الصَّيرورةُ الحتمية ناتجة عن هَيمنة الفِكر على المادة، وسَيطرة الثقافة على التاريخ، وأسبقية الصُّوَر الذهنية على التطبيقات الواقعية. والنهرُ يبدو كِيانًا واحدًا ذا مسارٍ واحد، ولكنه - في حقيقة الأمر - كِيانات مُتنوِّعة بسبب جَرَيَان المياه باستمرار، وتغيُّر ماهيتها، وكأن النهر يُغيِّر جِلْدَه باستمرار، ويَبدأ مِن نهايته، ويُولَد مِن نَفْسِه، ويصير كائنًا جديدًا، كما أنَّ النَّهر يشتمل على روافد مُتعدِّدة، وهذا يعني وجود عِدَّة مسارات . وكما أن النهر لا يُمكن السيطرة عليه إلا ببناء السدود، كذلك التاريخ،لا يُمكن السيطرة عليه إلا ببناء الأفكار. وكما أن النهر المُتدفِّق يُمكن تحويله إلى بُحَيرة تحت السيطرة باستخدام السدود، كذلك التاريخ المُندفع يُمكن تحويله إلى ظاهرة ثقافية تحت السيطرة باستخدام الأفكار .
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
حسن الياسري: القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. حسن الياسري
- دراسةٌ دستوريةٌ تأصيليةٌ معززةٌ بتجارب المحاكم الدستورية في العالم
- التفسير الدستوري لإطلاق اسم (المحكمة) على المحكمة الاتحادية العليا
ملحوظاتٌ مهمةٌ:
1- عزيزي القارئ قبل أنْ تشرعَ بالقراءة أودُّ التنويه بأنَّ الدراسة قد يكون فيها شيءٌ من التخصُّص في بعض مناحيها. وهي تلتزمُ المنهج العلمي في بيان الرأي المدعم بالأدلة. فلقد استعرضت الدراسة -لأول مرةٍ في هذا الباب- لأربعٍ وعشرين تجربةً دستوريةً للمحاكم الدستورية في دول العالم المختلفة، وثلاث تجارب دولية للمجالس الدستورية، من أوربا والأمريكيتين وآسيا؛ ما يعني أنَّ مناقشة الدراسة والردَّ عليها ينبغي أن يكون بالكيفية ذاتها؛ وعليه فالحديثُ المرسل وغير المدعم بالأسانيد الدستورية لن يُقبل في الرد.
2- إنَّ الدراسة عبارةٌ عن سلسلةٍ متواصلةٍ من أقسامٍ خمسةٍ، وبأجزاءٍ متعددةٍ، قد فرقناها للتيسير على القارئ، وهي مترابطةٌ مع بعضها البعض؛ لذا لا يمكن بناء الرأي على ما ورد فيها إلا بتكملة أقسامها جميعاً.
3- إنَّ الغرض الرئيس من الدراسة يكمن في بيان الحقيقة التي جاء بها الدستور، ووضْعِها بخدمة الرأي العام وأصحاب الشأن؛ لمساعدتهم في تبنِّي الحل الأمثل الذي يتفق مع التجارب الدولية التي سبقتنا. وليس غرضنا الميل لهذا الطرف أو ذاك، أو تبنِّي هذا الرأي أو ذاك.
تمهيد:
لم أشأ الحديث عن الموضوع طيلة المدة المنصرمة، ولكن التشويش الذي حصل وطلب بعض الإخوة قد دفعنا إلى توضيح بعض الأمور في هذا الشأن؛ ولا سيما بعد انتهاء الفورة التي صاحبت الموضوع، وإخفاق البرلمان في سنِّ قانون المحكمة الاتحادية العليا، بالصورة التي أرادها الدستور، للمرة الرابعة توالياً، كما أخفق من قبلُ في دوراته البرلمانية المنصرمة.
وكما جرت العادة سابقاً، لم يبقَ أحدٌ من - غير المتخصِّصين- إلا وتحدث في الموضوع، بلا هدىً ولا كتابٍ منير؛ الأمر الذي تسبَّب في تشويش الصورة على الرأي العام.
وبادئ ذي بدء لابدَّ من القول إنَّ من حقِّ كل فردٍ أن يعُبّر عن رأيه، فيقبل دخول خبراء الفقه الإسلامي في المحكمة أو لا يقبل، وهكذا فيما يتعلق بفقهاء القانون، ما دام الحديث منصبَّاً على الرأي الشخصي. بيد أنَّ الخطأ كل الخطأ أن ينسبَ البعضُ إلى الدستور زوراً ما ليس فيه، مع أنهم من غير المحيطين بالموضوع؛ ما يفضي إلى عدم وضوح الصورة لدى الرأي العام. فالفرق بين بيان الرأي الشخصي وبين تحميل الدستور هذا الرأي واضحٌ. وهذه هي المشكلة الحالية في العراق، إذ إنَّ البعض يُحمِّلُ الدستور آراءه الشخصية ويسقطها عليه، وكأن آراءه الشخصية هي ما ينبغي أن يكون الدستور عليه.
وعموماً، إنَّ لجنة صياغة الدستور قد أُرهِقت كثيراً في وقتها -٢٠٠٥- من أجل وضع النصوص المتعلقة بالمحكمة الاتحادية العليا في الدستور (المواد ٩٢-٩٤)، وإنَّ النقاش الدائر حالياً كان قائماً آنذاك، إلى أن تم الاتفاق نهائياً على أنَّ المحكمة الاتحادية تتألف من عددٍ من القضاة وخبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون.
وبإزاء هذا الاتفاق اضطرَّ المفاوض الشيعي إلى تقديم بعض التنازلات للطرف الآخر. فلقد كان المبدأ في كتابة الدستور هو التوافق وعدم كتابة شيء قسراً أو رغماً على الأطراف الأخرى. وبإزاء ذلك اضطرت بعض الأطراف إلى التنازل هنا وهناك من أجل تمرير بعض النصوص. ولعلَّ هذا السبب هو الذي أفضى إلى وجود بعض النصوص التي ينبغي أنْ لا تكون موجودةً من وجهة نظر المتخصِّصين .
ولم يقتصر الأمر في وقتها على اتفاق لجنة كتابة الدستور على كيفية تأليف المحكمة، بل تم الدخول في بعض التفصيلات الدقيقة، مثل عدد الأعضاء وبعض الإجراءات الموضوعية الأخرى، ولكن بسبب ضيق الوقت المُخصَّص للانتهاء من كتابة الدستور، الذي حُدِّد بمدةٍ يسيرةٍ لا تتجاوز ستة أشهر، ولوجود خلافاتٍ حادةٍ بصدد بعض النصوص الأخرى، تم الاتفاق على هذا القدر -الموجود في الدستور حالياً-، وإرجاء الأمور الأخرى المتعلقة بعدد أعضاء المحكمة وآلية سير العمل فيها إلى القانون.
ـ خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون دورهم أصيلٌ وليس غير ذلك:
بادئ ذي بدء أجدُ من الضروري إيراد النص الدستوري مثار الاختلاف؛ ليعلم القارئ عن أي أمرٍ نتحدث. وهذا النص هو المادة (92) من الدستور، التي نصت على الآتي:
(2- تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عددٍ من القضاة، وخبراء الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب).
إنَّ دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون بمقتضى هذا النص هو دورٌ أصيلٌ، وإنَّ الفئات الثلاث المذكورة فيه: -القضاة، خبراء الفقه الاسلامي، فقهاء القانون- كلها فئاتٌ أصيلةٌ، وتقف على قدم المساواة. وبغية سلوك المنهج العلمي في عرض الأدلة المؤيِّدة لهذا القول، سنتحدث عن هذه الأدلة عبر محورين اثنين: الأول: ونعرض فيه أدلة الرأي الآخر الذاهب إلى أنَّ القضاة هم فقط مَنْ يجب أن يكونوا في المحكمة، وأنَّ خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون ما هم إلا خبراء فنيّون ومستشارون لا أكثر. والمحور الثاني: ونعرض فيه أدلتنا الداعمة الأخرى، المستقاة من الدستور والقانون والتجارب الدستورية الدولية في تكوين المحاكم الدستورية في العالم؛ لكي يعلم القارئ -بمحصِّلة العرض والمقارنة- وجهَ الحقيقة التي غيَّبها البعض، جهلاً أو عمداً، ولنصل إلى الرأي السليم، المنسجم مع الدستور، والمتفق مع التجارب الدستورية الدولية في هذا المقام. والله ولي التوفيق..
المحور الأول: أدلة رأي الفريق المعارض:
وإذْ ألزمنا أنفسنا بالمنهج العلمي في النقاش، فإننا سنعرض رأي الفريق المعارض، بغية مناقشته مناقشةً علميةً مدعمةً بالأدلة؛ للوصول إلى الرأي السديد.
إنَّ الرأي الآخر يقول بعدم جواز دخول خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون في توليفة المحكمة، وإنَّ من اللازم أن تقتصر المحكمة على القضاة فقط. وعلى الرغم من أنَّ هذا الفريق لم يُقدِّم أيَّ دليلٍ علميٍّ فقهيٍّ دستوريٍّ، فإنه لم يجد بُداً سوى الركون إلى حجتين اثنتين:
الأولى: إنَّ الدستور أطلق على الهيئة اسم (المحكمة).
والثانية: إنَّ الدستور أطلق صفة (الخبراء) على ممثلي الفقه الاسلامي.
وسنناقش هاتين الحجتين، اللتين لم أجد أحداً في العالم استند اليهما ما خلا بعض العراقيين، وهو ما ستكتشفه بنفسك -عزيزي القارئ- بعد الانتهاء من هذه الدراسة وعرض التجارب الدستورية الدولية.
الحجَّة الأولى: إطلاق اسم (المحكمة):
يقول أصحاب هذا الرأي: ما دام الدستور أطلق على الهيئة اسم (المحكمة)، وعبَّر عنها بأنها هيئةٌ قضائية مستقلة، فهي إذاً محكمةٌ يجب أن تضمَّ قضاةً فحسب، ولا يجوز أن يدخل فيها أي فردٍ آخر من غير القضاة .
مناقشة هذه الحجَّة:
إنَّ هذه الحجَّة داحضةٌ، ولا أساس لها، لا من الدستور ولا من القانون. وهي تكشف عن عدم اطلاع قائليها على تجارب المحاكم الدستورية في دول العالم، فضلاً عن عدم إحاطتهم بالفقه الدستوري. وإليك أدلة ما نقول:
أولاً: الدليل الأول:
لو سلّمنا جدلاً بصحة هذه الحجَّة، فهي تسقط فيما لو قام الدستور بتبنِّي غيرها. إذْ الحاكمية للدستور وحده في هذا الشأن. ومن هذا المنطلق من حق السلطة التأسيسية للدستور أن تصف الهيئة بـ (المحكمة) وتُدخل في عضويتها قانونيِّين أو إداريِّين أو محامين أو وزراء سابقين أو برلمانيين سابقين، ونحو ذلك. فالدستور هو الذي يؤسِس وله الحاكمية في ذلك، ولا سلطان عليه. بل من حقِّهِ أن يُدرج نصوصاً تتفق مع تطلعات الشعب حتى وإن خالفت النظام البرلماني أو الرئاسي. والدليل على هذا ما حصل في النظام البرلماني بمقتضى الدستور العراقي الحالي، فهو ليس نظاماً برلمانياً خالصاً، بل نظامٌ مُعدَّل -إنْ صحَّ التعبير-. والكلام في هذا الأمر من البديهيات التي لا تحتاج إلى إفاضةٍ. وسيتجلى لاحقاً في هذه الدراسة أنَّ الدساتير تختلف فيما بينها باستعمال بعض المصطلحات، فدساتير دول المغرب العربي معروفةٌ باستعمال بعض المصطلحات غير التي تستعملها بقية الدول العربية في دساتيرها، والدستور السعودي -النظام الأساسي- له بعض الاستعمالات المختلفة، وهكذا الدستور الإيراني ..الخ. فمثلاً إنَّ السلطة التنفيذية مصطلحٌ معروف في الدساتير، لكن الدستور اللبناني لم يستعمل هذا المصطلح المتعارف عليه، بل استعمل مصطلح (السلطة الإجرائية).ومجلس النواب له تسمياتٌ متعددةٌ بحسب الدساتير (مجلس العموم، المجلس الشعبي، الجمعية الوطنية، المجلس الوطني..)، وهكذا في تسميات المجلس الثاني (مجلس الشيوخ، مجلس اللوردات، مجلس الأعيان، مجلس الاتحاد، مجلس المقاطعات..). وأكثر من ذلك كله إنَّ الوزير في أميركا هو (سكرتير)، ورئيس الوزراء هو المصطلح المتعارف عليه بين الدساتير والدول، لكن الدستور الألماني يصفه بـ (المستشار) -المادة 62 من الدستور الألماني لعام 1949-، فما علاقة المستشار برئيس الوزراء ؟!
إنها بكل بساطةٍ لغة المصطلحات أيها السادة، التي تختلف من تجربةٍ لأخرى. ونحو ذلك مما سنعرضه بالتفصيل لاحقاً.
وسنكمل بقية الأدلة في الجزء الثاني من هذا القسم إن شاء الله .
د. حسن الياسري - بغداد
٩ نيسان ٢٠٢١
محمد بنيعيش: المسار العلمي وسلبيات الاعتبارات الذاتية في المجال الجامعي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمد بنيعيش
أولا: مصادرة الأمور العلمية وإسنادها إلى غير مختصيها
قد يقف الكثير من الإسقاطيين أو ذوي الرؤية القاصرة والمحصورة عند قول النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"1
فلا يرون معنى لهذا التوسيد سوى في باب السياسة أو الحكم والمسؤولية الظاهرية والمدركة عموما، لكن في نظرنا أن الأخطر ما في هذا التوسيد هو من باب العلم والتعليم لأنه من خلاله تترتب جميع المسؤوليات، ومن حقله يتخرج الحاكم والمحكوم، وبحسبه يتحدد مستوى العلاقات العامة ومدى مطابقتها والتزامها بالحق أو عدم التزامها، إذ لا يوجد في العالم من نصّب على شعب أو أمة كحاكم جاهل جهلا مطبقا، بمعنى أنه لا يملك من العلوم أيها كانت شيئا يذكر، إذ لا بد وأن يكون له إلمام أو اطلاع على معلومات معينة يستطيع من خلالها أن يبرز ما يشبه الكفاءة أو توقّعها لتحمل مسؤولية ما، أما جاهل جهلا مطبقا إضافة إلى الأمية اللغوية أو المعرفية، فهذا ما لا يمكن تصوره في أية أمة أو دولة أو حتى لدى مسؤول محلي، اللهم إلا ما أخذت تفرزه وتنتجه لنا الأنظمة المدعية للديمقراطية مما يصطلح عليه بدول العالم الثالث من نماذج جاهلة جهلا مطبقا علميا وأخلاقيا، لمع نجمها بالاقتراع الأكثر جاهلية من جهلاء مثلها، فأنتج الجهل جهلا مركبا، ووسدت حينئذ المسؤولية إلى أهلها من الجهلاء، لأنهم جنسهم الذين انتخبوهم حتى أوصلوهم إلى درجة من درجات المسؤولية العامة بحسب طموح هؤلاء الجهلاء المنتخبين وبحسب غباوة منتخبيهم، فتحقق فيهم قول الشاعر:
قــال حمــار الحكــيم يوما لو أنصف الدهر كنت أركــــب
لأني جــاهـــل بـسـيــط وصــاحـبـي جهــلــه مركــــب
جهلت وما تدري بأنك جاهل ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري
وحينما نقول بأن المسؤولية في هذه الحالة قد وسدت إلى أهلها بحسب المقياس الديموقراطي فذلك لمقتضى المناسبة بين الجهلاء، سواء الناخب أو المنتخب، المسؤول أو المسؤول عنه.أما المسؤولية الموسدة إلى غير أهلها فتكون حينئذ أن يرشّح العالم جاهلا يتحمل المسؤولية عنه، إذ هنا سيكون الصراع حادا ومحتدما بين الطرفين. لأن صحوة العلم وجذوته لا تتحمل ظلمة الجهل وظلمه، وبالتالي تقوم القيامة ويكثر الاصطدام بين أهل العلم المستنير وبين أهل الجهل المظلم المبير!
وهذا المشكل ناتج عن التأسيس العلمي الأولي للأمة، لأنه حينما ينقطع السند العلمي كما عبر عنه ابن خلدون سيغلف الجهل برداء العلم، وستوسد صفة العالمية إلى غير أهلها بعدما قبض أهل العلم كما في الحديث الشريف، ومن مظاهر هذا الانقباض هو أن يقلد أساتذة وخاصة في الجامعات ميدان التخصص بالدرجة الأولى تدريس مواد ليست من اختصاصهم ولا ميولاتهم ولا حتى من طبيعة تكوينهم اللغوي والفكري والوجداني، كما يحدث مثلا في كثير من الجامعات العربية.
ومن هنا فقد يلقن هؤلاء طلبة العلم على منهج ناقص ومحرف، وفي بعض الأحيان ساقط وسافل ومتحامل، فيكون بذلك تحريف الطلبة وغشهم في تحصيلهم وقتل طموحهم في مهدهم، وبالتالي فقد يتخرج الكثير منهم على شكل ناقص وفضيع ومعوق إعاقات متفاوتة غالبا ما تكون مزمنة لا ينفع معها العلاج مستقبلا، ولا يفضل منها إلا المتردية والنطيحة وما أكل السبع، مع العلم أن أولئك الأساتذة لا علاقة لهم بالتحصيل العلمي المتناسب مع الجامعة وتخصصاتها، وإنما هم دخلاء عينوا إما بالوساطات أو بالعصبيات والاعتبارات الذاتية والعرقية وما إلى ذلك مما لا علاقة له بالعلم وغايته الشريفة.
وبهذا فقد أصبح هيكل الجامعة في كثير من أروقتها، بعدما كانت امتدادا للجامع العتيق والتاريخي الحضاري، يميل إلى التهدم والتحول إلى مرآب للسيارات المعطلة والقاصرة عن اللحاق في السباق الجدي، إن لم نقل إلى مجمع للأشباح الفارغة من محتوياتها، وباحة للكن والاستراحة على حساب البحث العلمي والتحقيق والتفعيل في الساحة العامة والخاصة كدور جوهري لأهل العلم والتعليم!
وهذا التجمع المظلم والبطالي قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى التكاثف ضدا على أهل التنوير والتطوير، لأن هذا النوع وما يحمله من مناهج يخيف أهل الكن والبطالة، ويزعج أصحاب الرسوم في باب الأسجاع وتكلف الفصاحة، ولهذا نجد كثيرا منهم يعترضون إذا اقترح عليهم إضافة أستاذ إلى شعبتهم، وذلك لاعتبارات لا تمت إلى العلم بصلة كما سبق وقلنا، ولا إلى الأخلاق والاعتبارات الشرعية أو المنطقية المقبولة، إذ الرفض يكون ابتداء وبغير حجة، وبدون تحري أو تمهل أو حتى استفسار عن مستوى الشخص المقترح للالتحاق بهذه الشعبة أو تلك، سواء تعلق الأمر بشعب ذات طابع ديني وتاريخي أوذات صفة أدبية وكذلك قانونية و علمية بحتة، وهذا ما كثر شيوعه وترتب عنه مشاكل وصراعات لا تليق بالعلم ورجاله . إذ المشكلة الرئيسية ليست علمية بالدرجة الأولى وإنما هي أخلاقية وسلوكية وإن كان الأصل يعود إلى النقص المبدئي في التكوين العلمي العام.
ثانيا: الجامعة العلمية بين الذاتية الانتخابية والتكتلات الحزبية والمذهبية
ومن هنا فقد لوحظ أن هذه المؤسسات يغلب على أصحابها طابع التكتلات الحزبية أو المذهبية، أو لنقل التجمعات النفعية التي لا علاقة لها بمقتضيات الجامعة وغاياتها العلمية الموضوعية التي لا تتأثر بأهواء زيد أو عمرو، لكن هذه التكتلات قد تضيق ساحتها وتتلاشى بنفسها عند الاضطلاع بالزعامات النقابية مما يترتب عنه فشل رجال العلم والتعليم حينما لا يكادون أن يتفقوا على ما يصطلح عليه بالأرضية التوافقية عند المطالبة بحقوقهم المادية والمهنية، مما يترتب عنه اختلال في التكتلات والوقوع في مصيدة مماطلة وتسويف الحكومات المتعاقبة دون تحقيق نتيجة مرضية لحل مشاكلهم. وذلك كله راجع إلى التبعية الحزبية والسياسية من هذه الفئة أو تلك لهذا الحزب أو ذاك. وعندما تختلط السياسة الظرفية بالجهاز التعليمي حينئذ تضيع الحقوق والمصالح وتبرز الصراعات والطموحات الشخصية مما هو معلوم وما خفي كان أدهى !.
ومن هذه العقليات والبطاليات فقد يرفض تعيين أستاذ مبرز في شعبة ما رغم إلحاحه في الالتحاق بها ولأسبابه الموضوعية والشخصية المبررة لذلك، فيكون هذا الرفض لا مبرر له سوى أن فئة من الأساتذة المتكتلين هنا أو هناك قد لا يوافق مذهبيتهم مذهبيته، سواء كانت ذات صفة دينية محضة أو ذات خلفية سياسية وحزبية، مع العلم أنه ربما يكون الأستاذ المقترح أمكن علما وأغزر إنتاجا وأدق تخصصا قد يستفيد منه الطلبة والأساتذة وسمعة الكلية والجامعة بوجه ما.
وهذا الوضع الذي تردت فيه الجامعات العربية، ولربما حتى الغربية، ليس من نسج الخيال أو من دافع التحامل على فئة معينة، وإنما هو واقع معيش يعرفه الكثير من الأساتذة المقترحين ويعانون منه، حتى إن الجامعة قد أصبحت في بعض مرافقها عبارة عن حزب وملكية خاصة تتخذ فيها القرارات بحسب الأمزجة وترفض أو تقبل دون مراعاة للفئات المعطلة من المنتجة.
وهذا الوضع وما تحته من مناورات ودسائس ربما قد يصل إلى وضع سيء لا يليق بواقع العامة من الناس بله علمائهم، مما أدى إلى حصول بطالة حقيقية في كثير من الكليات والجامعات واندثرت نزاهة العلم وقدسيته، وأصبح أهل التعليم عبارة عن مجموعة أفراد تتحكم فيهم الخطابات الحزبية من خارج أسوار مؤسساتهم ويغلب عليهم الطابع الغوغائي في النقاشات والارتجال عند الاقتراحات، لأن الأمور كما سبق وقلنا قد وسدت إلى غير أهلها فأصبح الوضع كما يقول الشاعر:
يا معشر العلماء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فســد
خاصة وأن علم الأخلاق يكاد يندثر أو لا يوجد له أثر، والتصوف الذي يمثل لبّ العلوم الإسلامية وروحها يحارب ويهدر معناه بإسناد تدريسه إلى من لا يفهمه ولا يستحق تناوله، ومن ثم فقد تكون الخسارة مزدوجة في بعض الجامعات لا يخفى حالها على أحد.
وهذه الخسارة قد تتمثل في ضياع العلم وتضييع الأخلاق والسلوك إضافة إلى ضياع منهج التحصيل والتوصيل، وبالتالي تخرج أفواج من الطلبة على أسوأ صورة من البطالة المركبة، وهي البطالة الفكرية والأخلاقية وأيضا البطالة المهنية وتحصيل المعاش. لأنه كما يقال "إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر" وعند هذا يستطرد ابن عباد النفزي في شرح حكمة مناسبة لابن عطاء الله السكندري قائلا: "تنتقش نفوسهم وتتقوى صفاتها وتظهر آثار ذلك على ظواهرهم من التكالب على الدنيا والركون إلى من هي عنده من أبنائها المترفين وليس لهم ما يتوسلون به إليهم سوى علمهم فيحتالون على تحصيل إقبالهم عليهم وصرف وجوههم إليهم بالتفنن عندهم بأنواع من الحيل ولا يسلمون في ذلك من الرياء والتصنع والنفاق والدهان، ويجرهم ذلك إلى أنواع من المحظورات وضروب من العصيان مع ما يحل بهم في ذلك من الذل والهوان، فإذا قالوا ذلك أو بعضه حصل لهم مقصود نفوسهم وتمكنوا من جميع حظوظهم، فخرجوا من الحرية إلى استعباد الأغيار، واستبدلوا بالجهل النافع العلم الضار، وقد قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعا وعز الإسلام وأهله، ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك ما في أيدي الناس، فذلوا وهانوا على الناس، ولله در الشاعر رحمه الله حيث يقول:
يقولون لي فيك انقباض وإنـما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجـما
إذا قـيل هذا مورد قلت قـد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظمـا
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخـدم من لاقـــيت إلا لأُخدمــــا
أأغرســه عــزا وأجنــيه ذلــــة إذا فاتبـاع الجهل قد كـــان أحزمـا
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النــفـوس لعظما
ولكن أهانـوه فهانوا ودنسـوا محيـاه بالأطمـاع حتـى تجـهمــــا.2
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
...........................
1- جزء من حديث رواه البخاري في كتاب العلم حول تضييع الأمانة.
2- ابن عباد النفزي: شرح الحكم – مكتبة أحمد بن نبهان وأولاده ج 2 ص 53-54.
الكسندر بالتين: منافس لتولستوي ودوستويفسكي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عادل حبة
ترجمة: عادل حبه
كانت المسارات الأدبية المتعرجة لأليكسيه فيوفيلاكتوفيتش پيسمسكي مؤثرة وناجحة في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر: حيث تمت ترجمة آثاره إلى لغات أخرى، وتمت مناقشته بشدة وبحدة على صفحات المجلات الرصينة.
لقد تمت قراءة روايته الرئيسية " ألف روح" (A Thousand Souls)، والتي كانت في سياق الأدب الرائج في ذلك الوقت كانت غير عادية تماماً، حيث اعتبرت رواية مهنية، وإذا جاز التعبير، "رواية تجارية".
لم تمتزج عصارة ومذاق التفاصيل اليومية، التي تشكل الكثير منها الخطوط العريضة للرواية، مع الحركة التصاعدية للبطل، الذي بدا أقل حيوية كما تصورها الحياة اليومية.
ثم ترسخ مجد بيسمسكي بواحدة من أفضل المسرحيات الروسية متمثلة في تراجيديا "القدر المرير"، واستمر نجاحه الذي لم يسمح بالتشكيك في عظمة المؤلف.
ثم صدرت رواية "البحر المهتز"، وفقد پيسمسكي سمعته، أولاً في نظر الجمهور الليبرالي، ثم في نظر القراء البسطاء.
كان يُنظر إلى حدة پيسمسكي الموجهة ضد العدمية على أنها ضرب من عدم إيمان بالتقدم بشكل عام، ولم يكن أليكسي فيوفيلاكتوفيتش يؤمن بها كثيراً حقاً، معتقداً أن ثمارها ستكون فاسدة وسامة للوطن؛ ورأى في التجارة روح الفساد، التي كتب عنها بفظاظة في العديد من المناسبات.
ومع ذلك، فإن "البحر الهائج" أصبح سلسلة من روايات الرواد وروايات التحذير من عواقب الحركة الثورية التي تعد بنزيف الدم الزائد، وبصفة عامة، وبشكل عام مسار التنمية - الطريق التقني المختار لبائع التجزءة ؛ ولكن التاريخ لا يستمع إلى النصيحة أبداً.
تم تمييز الأعمال اللاحقة لـپيسمسكي بلون كثيف وقاتم وقمعي، وكانت جميعها متأثرة بالإدمان على الكحول والأدوارالعامة في القيادة.
ومع ذلك، لا تزال كتب پيسمسكي حاضرة حتى اليوم: فهي مليئة بتلك التفاصيل الدافئة والكتالوجات البيتية التي تمثل بإحكام الوقت الذي أتيحت فيه الفرصة للكاتب لتسلق السلم الأدبي. رغم أن أحداً لم يسميه كاتباً روسياً عظيماً.
تنطوي المدرسة الطبيعية على حقيقة مصنفرة، فمع بعض الشحذ والصقل؛ على وجه الخصوص، اكتسب پيسمسكي الشهرة حيث ظهر لأول مرة في عام 1846 في مجلة ميخائيل بوغودين "الموسكوفي"، بعد نشر قصة "الفِراش"، حيث تم الجمع بين الواقعية والأدب الساخر: إما أنها تم اعتراضها بواسطة شرائط السخرية، لأن الصورة لم يتم السخرية منها بل أشير إليها، فماذا يقولون...
من الصعب الآن أن نتخيل في الستينيات أن پيسمسكي كان أدنى من دوستويفسكي وتولستوي في وزنه الأدبي، ولكن ككاتب مسرحي تنافس مع أوستروفسكي ...
.....إن مسرحية "عصر التنوير"(The Enlightened Time ( تعرض لنا مجتمعاً معيناً قائم على"نتف الصوف من الخراف "، و باسم النشاط هناك قدر لا بأس به من الفلفل (ناهيك عن الخيوط الرفيعة الممتدة إلى مكتب سيئ السمعة لتحضير السموم) ...
على خشبة المسرح، تتكشف العمليات الملتوية بشكل غريب بوجود "هيكل الأعمال"( البزنس) هذا: بالطبع، يتم إبراز الشخصيات بوضوح: على سبيل المثال، مدير الشركة وزوج الشخصية الرئيسية في الرواية: فهو متعجرف، وقح، ذو عينان أشبه بالصفائح، عينان تعكسان الثقة لصاحبها بالقوة اللامحدودة للمال. إنه طيب، ممتلىء، نسخة طبق الأصل، قوي، وذو تركيبة مالية، مناسب بالطبع لممارسة للاحتيال، وتجعل الطبق الموجود آنذاك حافلاً بالفلفل اللاذع.
فلا يمكن للمجتمع أن يعيش بدون نصابين.
إن الطريقة التي تنعكس في الأدبيات تعكس درجة وقياس فهم المجتمع للضرر الذي تسببه.
رواية "ألف روح" هو العمل الأكثر أهمية لبيسمسكي. فهي رواية اجتماعية، حافلة ومشبعة بالكثير، فالبانوراما تكشف للقارئ بشكل واسع المجتمع الروسي قبل الإصلاح بوضوح، ويُنظر إليه من زوايا مختلفة، ويلعب في ظلالها شخصيات متنوعة.
.. إنه كاتب هاو، متسول خريج جامعة كالينوفيتش، تم تعيينه من قبل مدير المدارس في بلدة ريفية في حفرة مستنقع؛ تمتع قبل كل شيء بقدرمن الراحة والرفاه لأجل نوع آخر من اللعبة، فهو لا يعير أي اهتمام للفتاة التي تحبه، وقع في حب ابنة جنرال في منتصفة العمر، التي يُحسب إرثها سيىء الصيت بـ "آلف روح".
هناك الكثير من المحتالين والمختلسين والمغامرين وشخصيات أخرى: رغم أنهم لن يصلوا إلى الألف؛ ويتكشف شريط هذا المسار، ويتم بناء الرواية بنشاط، شأنه في ذلك شأن أي عمل مهني في أعماق المجتمع، وجزء من نفس الكلاسيكيات الفرنسية - بلزاك...
.. ثم أدهشنا برواية "البحر العكر"، وهي رواية موجهة بالأساس ضد العدميين، الذين سمموا الفضاء في ذلك الوقت بشدة؛ ووقف بتحدي في صف عدد من الروس الأقوايء ومن شتى الألوان بوجه اليوتوبيا.
لم يحلم على الإطلاق بأن يصبح ممثلاً، وقام بيسمسكي بقراءة أعماله دائماً بنجاح.
كان وزنه في الحياة الفكرية للمجتمع بارزاً.
على مر السنين، فقد قوته پيسمسكي، وانحصر اهتمامه بتاريخ الأدب أكثر من نفسه ...
وهو ما أعتقد أنه كان غير عادل: لقد كان بيسمسكي ذكياً: ككاتب نثر وكاتب مسرحي. ومن السهل الاقتناع بذلك من خلال إعادة قراءة المجلدات التي تركها.
احمد عواد الخزاعي: الاسطورة والدين والتراث.. في رواية (فقيه الطين)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: احمد عواد الخزاعي
لغة سردية هجينة، غريبة على طبيعة السرد الروائي، تتأرجح بين الشعر والنثر، تنتج عن سارد خارجي، يروي قصة مواطن عراقي مثقف يعيش ارهاصات الفوضى السياسية القائمة في العراق، في رواية (فقيه الطين) والصادرة عن دار الشؤون الثقافية 2019 اختار واثق الجلبي لنصه، شخصية محبطة قلقة حائرة لا منتمية ايدلوجيا او حزبيا (احاط حياته بجدار عازل غير راغب بدخول احد الفوضويين في حياته.. ولان المجتمع كان منفتحا على ثرثرة فانه اقفل مساحاته بالغموض .. لا يريد ان يغضب من احد عاش كسيكارته غارقا بالدخان غير الموجه الا اليه).. لكنها في نفس الوقت شخصية اشكالية ناقمة، تمتلك رؤية فاحصة واعية لما يدور حولها، هذه الشخصية التي غابت ملامحها المادية وتفاصيل حياتها الخاصة، حتى تحولت الى بؤرة أنطولوجية داخل النص، فقد وصف الكاتب لنا الحالة النفسية لبطله في عملية افصاح خارجية الهدف منها التعرف على الدوافع النفسية لسلوكه (تناول يومه الاول بعد بلايين الثواني المتأرجحة بين البكاء والقلق والقرف والجوع في عراق كلاب السياسة) .. افكار ورؤى تنهال متدفقة على شكل تداعيات حرة، يرويها السارد العليم مصوراً الحالة التي يمر بها بطله، حتى اننا لا نستطيع التمييز في كثير من محطات النص بين الروائي وبطله، وهنا يبرع واثق الجلبي في كيفية صياغة نص يستطيع الكاتب ان يتوارى خلفه بحرفية.. هذه الرؤية الناقمة لبطل النص عن محيطه الاجتماعي تولد لديه رغبة جامحة في البحث عن حروف اسم شخصية اسطورية، ربما تكون طوق النجاة لمجتمعه والانسانية جمعاء، استحضار لمفارقة ميثولوجيه ازلية تحاكي (البطل المنقذ) التي وردت في ادبيات جميع الاديان حتى الوضعية منها، هذا البحث المضني يتكلل بحصول البطل على الاحرف الثلاثة لاسم البطل المنقذ .. هذا ملخص موجز لنص معقد يحمل انزياحات فكرية وفلسفية كبيرة، يلامس الواقع المعاش للحظة، ثم يغرق في تداعيات تستمر لعشرات الصفحات، الهدف منها استخلاص تلك الاحرف التي تشكل اسم (فقيه الطين).
اهم خصائص النص:
اولاً- اللغة : تميز النتاج السردي لواثق الجلبي بتفرد اللغة، التي تشكل حجز الزاوية في نصوصه الروائية والقصصية، حتى انها تهيمن على الاحداث وحراك ابطاله في معظم هذه النصوص، هذه اللغة التي توسطت بين الشعر والنثر واتخذت لها بين ذلك سبيلا، تثير اسئلة مهمة حول موضوع (التجنيس) بالنسبة لهذه النصوص.. وهل يمكن ان نطلق على ما نقرأه لواثق الجلبي بأنه (رواية ، قصة)؟ ام ان هذا المنحى اللغوي الغريب يحيلنا الى جدلية ادبية نبحث من خلالها عن مسمى اخر لهذه النمطية الهجينة ؟
من يقرئ النصوص السردية لواثق الجلبي يلاحظ ان هناك استثمار للغة الشعرية في البناء السردي، مع المحافظة على تراتبية النص الأرسطي (بداية، ذروة، حل) بضبابية متعمدة تشوب التفاصيل الجزئية والثانوية للنص .. في رواية (فقيه الطين): غابت التفاصيل الضمنية المكملة للنص السردي مقابل هيمنة الانزياحات والانثيالات اللغوية، وغاب الوصف مقابل شاعرية اللغة، وغاب التشيؤ مقابل الايحاءات اللغوية، وغاب عنصر الزمان مقابل الانتقالات اللغوية .. (تمتمات الاسى تضرب بجراتها عليه منتظرة عودة الزمن ليغتال نفسه او يبيدها سرابا لا يقترب اليه احد .. في تضمينه احداث وعوالم مختلفة كانت اشد فتكا من النعومة.. اشتعاله الدائم كان ترنيمة خلود لا تعرف السكينة.. عيناه تتخللهما عودة مرضية لشبق السلالم المتاخمة للفلسفة الطامحة) .. هذه البدائل التي طرحها واثق الجلبي ربما تؤسس لنمطية جديدة في السرد بدأت بواكيرها في اول مجموعة قصصية له (قشرة الملح).
احتوى النص على الكثير من المفردات الغريبة القليلة التداول مثل (اماليد)، اضافة الى ميل بعض الحوارات الى (الخطاب المسرحي) كما في هذا النص الذي يمثل حديث يوجهه البطل الى فقيه الطين (ايها الفقيه الذي احمل منه حرفا ناولني بقيتك..).. اضافة الى وجود مقاربات لفظية (تناص قرآني) كما في هذه الامثلة :
1- لاريب فيه .
2- اربعين سنة مما يعدون.
3- بلسان عراقي مبين.
4- التقطه بعض السيارة.
وقد لجأ واثق الجلبي الى (التضاد اللغوي) للتعبير عن حجم المتناقضات التي يعيشها بطله، وانعكاساتها على احاسيسه ومشاعره ومواقفه اتجاه الاحداث المحيطة به:
1- اقام عزاء السعادة في سرادق الوهم.
2- دخل في ظلام الشمس.
3- الصوت يقتلع بالبرودة الساخنة .
4- في خضم الانتهاء من سكرات صحوته.
5- شادخا قلبه ومالئا توابيت صدره بالهناء.
ثانياً - السارد العليم: هيمنت ثقافة السارد العليم (الروائي) على النص وعلى بطله، ثقافة موسوعية سخرها واثق الجلبي لإثارة الكثير من الشكوك والتساؤلات عن (اصل المعرفة، الحكمة، التصوف) اضافة الى محاولته لإبداء آرائه الناضجة وتعليقاته على احداث ومسلمات تاريخية، او يعتقد الكثيرين انها كذلك، وتساؤلات في بؤرة العنونة تبين قصدية النص، كان البطل هنا مجرد اداة لاوجود مادي لها، غير كونه شماعة تُعلق عليه اراء وتصورات الروائي السياسية والثقافية، فقد عمد واثق الجلبي على احدث تعالق أنطولوجي بينه وبين بطله يصعب الفرز او التمييز بينهما، وكأنه شريك معه في هذا المأزق التاريخي.. وقد وضع الروائي لنصه معادل موضوعي يتلاءم مع طبيعته واهميته، من خلال زج البطل في عملية البحث عن (الحكمة، الكمال، العدل، القيم المطلقة) المتجسدة في فقيه الطين لذا كان (البطل = قيمة الحدث) من حيث حضوره المعرفي والثقافي وحجم التداعيات التي يمر بها ومستوى الاحداث السياسية المحيطة به (هناك دسائس توضع بالمصطلحات والاسماء لكن الحكمة التي يتبرا منها الجميع تقريبا كانت اشد ثباتا من التخلل الذي اطاح بأغلب الاسماء فالطبقية ليست عدالة عند البعض والحكمة تقضي ان يبقى الانسان باحثا على الاجوبة لو استغرقت ذلك لبعض الحيوات).. التعالق الفكري والمعرفي الذي اشرنا اليه، بين الروائي وبطله نجده عبر انتقالات مفاجئة في السرد، بين المفرد الغائب (هو) الى صيغة الجمع الحاضر (نحن).. واستعماله صيغة الجمع (نلجأ) بدلا من المفرد (يلجأ).. هذا الامر يتكرر في البناء السردي للنص بطريقة ملحوظة بالرغم من غرابته على هيكلية لغة النص.. عملية التعميم هذه تشير الى رمزية البطل، كونه يمثل ايقونة لكل مثقفي العراق (هل سنأكل الجثث؟ ميزانيات مصدرة الى خارج الافق ..ثعابين الجوع في كل مكان .. ماذا نكتب؟ ماذا نقرا؟ من يقرا؟ من يكتب؟ من يرضى ان نقتل جميعا؟ اين المال؟ وحشود الفقراء تلاحقنا.. ووزارات تقتل الاف العمال .. لا راس معي ؟؟ لا عنوان.. لا اشبه موتي ..لا اشبهني .. كيف نعيش؟ في هذه الدولة سنوت حتما .. سنقتل نحن واولادنا وستسبى نساؤنا .. هل هذا ما يريده السياسي؟).
ثالثا – فقيه الطين : لماذا اختار واثق الجلبي هذه الثيمة الغرائبية في تعاطيه مع الواقع المرير؟ شكل المُنقذ ركيزة مهمة في ادبيات الاديان، واصبح امل لكل الاثنيات الدينية والاقليات القومية المستضعفة عبر التاريخ، ومأمول مُعول عليه في انتصار الحق، ونشر الفضيلة في ارجاء المعمورة.. هذه الميثولوجيا الدينية التي تحولت مع الزمن الى حقيقة اجتماعية تتعايش معها الكثير من الامم والشعوب على مر التاريخ، كان لجوء الروائي لغرض استحضار القيم المطلقة التي تمثلها، والتي تلاشت في عصرنا واصبحت ازمة الانسان المعاصر، وربما تكون ذات تأثير اكبر في مجتمعنا العراقي الذي تعايش مع هذا المفهوم لقرون طويلة، لذا كانت الحاجة الى اسقاط هذه القيم السامية على واقعنا العراقي المعاش.. او قد يكون هذا الاستحضار ناتجاً عن يأس وعجز وغياب القدرة على تغيير الواقع، في عملية تناص مع (غودو) الحاضر في ذهنية المستضعفين (الغائب) عن ارض الواقع (الانسان ظل الله وظل الانسان هو الملك الذي يشبه مرآة السماء الانسان العراقي الذي بدا منه العالم والذي انقذ العالم بالعلم وبالسفينة هل استسلم الان ؟ حاول ان يقدم شيئا بعد معرفته لفقيه الطين فهو يحاول ان يجده لينقذ العالم بالمعرفة ولكن هل هناك وقت للإنقاذ ؟ ام انه سيؤسس لشيء يستغله الاخرون ؟).
رابعا – عرقنة النص: هي ظاهرة ادبية عراقية برزت بعد الاحتلال الامريكي للعراق 2003 تميزت على المستوى السردي الروائي، حيث برز كتاب تناولوا العراق ماضيا وحاضرا كقيمة عليا، محاولين خلق ثقافة مضادة لكمية الفوضى والخراب اللذان حلا به، فهي تجربة ثقافية لإعادة الوجه المشرق للعراق وابراز دوره الريادي والحضاري والانساني على مستوى البشرية جمعاء، من خلال رؤية موضوعية مجردة تسعى الى ربط جميع وشائجه عبر التاريخ، وصولاً الى العصر الحديث.. رواية (فقيه الطين) بانوراما تاريخية بأسلوب حداثوي معاصر، تزخر بشواهد الاسطورة والدين والتراث، جعلت من فقيه الطين عراقيا صميمياً، متعكزة على الدور الريادي والحضاري للعراق عبر التاريخ، ولهذا لابد من ان يكون فقيه الطين عراقياً.. لذا نجد الرواية حافلة بكل ما هو عراقي عبر التاريخ:
1- نوح النبي العراقي الذي انقذ البشرية (يتحسس سنينه التي غادرت مع سفينة نوح العراقي).
2- ابراهيم النبي العراقي، مؤسس ديانة التوحيد.. واب الديانات الابراهيمية.
3- كلكامش واسطورة الخلود.
4- النخلة العراقية (نخلته النيسانية تستبد بحكمتها العراقية).
احمد عواد الخزاعي
إنعام كمونة: إضاءة نقدية في نص الملحد للشاعر ريكان ابراهيم
- التفاصيل
- كتب بواسطة: إنعام كمونة
نص وعنوان فيه رمزية غائرة عن التفكر في كونية الخلق وكيان كل البشر منذ الخلق والنشوء حتى الممات والحيرة التي تدعمها المعرفة عن المجهول هي فطرة ربانية لكيمياء الفكر وفيزياء الذات والإتقاد السايكولوجي المستحدث والذي يبهر يقين وجوده ويستغرب زحزحة شكه، فيبحث عن الأسباب ملفقا فلسفته يدعمها بخياله الجامح أحيانا وبمنطق معقول احيانا أُخر، فما يتوارى خلف الحقيقة عمى الظن وما نراه في الخيال قناعة ارتواء تغنينا عن المستحيل، لذا كلمة ( لو) تأكيد ضعفنا ورسوخ قلة استطاعتنا، مهما بحثنا عن أسرار الكون وأيونات الوجود ..
سيميائية العنوان :صيغة وصفية فيها المعنى ومفهوم حال فيه المحمول والتبعية من الظاهر والباطن بدلالات صوفية واجتراحات نفسية ومؤثرات اجتماعية باختلافات عقدية، فيها التميز والعادي، التصريح والتعتيم، الوضوح والغموض، المستحب والمنبوذ، ورمز ثري بما يجيز لنا من إيحاء يتناغم القارئ معها لاستدراج مرجعياتها والتنقيب عن كنهها واستنطاق طاقاتها باسترسال باحث واستقراء مستغرب، لذا تعم المتعة بالتتابع ولا تنتهي ....
استشراف :أن الإمكانات المستحدثة للرؤى هي قيمة جمالية وفنية بناء وبراعة لغة، فحين يكون النص مختلف بلغته منحرف بأسلوبه متمرد بصوته يكون مغايرا لقداسة الأجناس الأدبية بمعايير مختلفة عن النصوص الكلاسيكية تستنفر القارئ/المتلقي فيجد في تأويلاته المتعددة باستدراج دلالاته بتعدد القراءات يكون نص ما بعد حداثي،لذا يحثنا لهدمه وبناء قوامه بفرض المتعة للقارئ والناقد فيخلق تناسق مشترك معهم بما يحدده مستوياتهم المعرفية فيتعاضد القارئ مع قاموس النص بخصوصية لسانية لبناء مقصده بتذليل عبارات وجمل وكلمات ورموز النص ضمن قواعد معينة ...
النص:
للنص أوجه عدة بزوايا رؤى متعددة، أراد منها الشاعر نقاش موضوعي، وجدلية فكرة بانفتاح مطلق، تستجد من زمن لآخر، ومن شخص لآخر بما يتوافق مع فكره وآفاق رؤاه، كما تختلف بمستوياته العقائدية والالتزام الاجتماعي وفلسفته النفسية، بما تجيز الممنوع وتمنع المجاز، في أنساقه التضارب الواعي والتضاد الاستعاري وبيان الفكرة وتقنية الأدوات،نستنطق منه عرفانية ناسك وانعتاق درويش وتساؤل وجودي والهام شاعر واستبصار كهنوت وفضول عابد عن لدن الغيب،لذا سيدركها القارئ بفهمه المؤول، ورصد تجربته الحياتية فيتقبلها على قدر حالته الذهنية بكل سرحان تحليل وامتداد تفسير مطلق ومقيد، فيمنحه الدلالة والتأويل، بتجاوب مع طاقات استيعابه للفكرة وما يستشرق من خلاصة مراد وقصدية الشاعر...
النص رسالة لمرسل اليه، فيها الحنكة والمعلومة الغنية عن المؤمن كما نسميه والملحد كما نجيز اعتباره فبأي ميزان نزنه وبأي سلطة نصفه، مما يدعونا أن ندق ابواب النقاش بمحور افتراض ونستدعي مفتاح تخمين، بتأويل متنوع من حين لآخر ومن قارئ لآخر وتلك متعة عدم انغلاق النص ولا أقصد بانفتاح يضيع فيه الموضوع أو تتهاوى الفكرة بل يستجد به الافتراض التأويلي بشغف القارئ ....
فالأيمان حس وجداني وطمأنينة نفس وفلسفة روح من الباطن وليس الظاهر والا سيكون خلخلة حس واضطراب روح، وكذلك عقيدة الإيمان جوهرية إحساس تنبع من الخاص وليس العام والا ما فائدة قناعته أو رضاه ان تكون عقدة تطبع لا غير، ونرى بطبيعة الانتماء وعدمه يبحث الأنسان عن مجهولية الإله ليركن اليه ليشعر بعدم ضياعه، فيعمل ما يقربه باعتقاده ويفسر مردودها عليه بالقبول والرفض وطبيعة النكران للإله هو تساؤل ولربما استنتاج ملموس وغير ملموس فكثير من القبائل أو المجموعات تخلق لها انتماء روحي باي شكل من الأشكال بطقوس معينة لتتميز عن الآخرين، اذن هو تفكر ذاتي للرجوع لمفردة المحسوس والا محسوس، والملموس والا ملموس، فالجزم والتعيين هي حلقة نقاش لا تنتهي من خلال فكرة النص يثيرها كاتب النص، وموضوع العبادة حرية اختيار، وبحتية رأي وقد يكون انتماء اجتماعي، والا سيعمده احساسه بغائب وغير منظور وهو يبحث عن جدلية الخالق بمحيطه، لذا يلجأ الأنسان بفطرته الا ارادية دوما للاستكشاف، لماذا خلق ومن أين جاء وأين سيذهب وكيف سيكون ولماذا تكون هكذا نهايته وما ذا بعد الموت مما يجعله يفكر بالخلود طمعا بحياة اخرى فيختار أما طريق الانحراف والانحراف أو الالتزام بمقومات دينه وعقيدته واعتقاده والنص فيه دلالات توحي بالبحث عن الأسباب في الحياة والممات، برمزية عن جميع طبقات المجتمع وباختلاف الأديان ...
خلاصة
برؤياي المتواضعة للنص خلاصة فلسفة عن عموم وجود مما يراها الدكتور والشاعر والأديب استاذ ريكان عن تماس وهو المعالج والدواء فله الخبرة بإتقان الفكرة وانتقاء الموضوع بحكمة حكيم واستبصار من تنوع طيفي لمرضاه ومحيطه وتنوع استشعاره الرؤيوي بذكاء شاعر وأسلوبه المميز بتناوله مواضيع متميزة بحداثة الصور ...
رؤياي بعموم النص: نص يشحذ طاقة الدلالات بانفتاح التأويل بلغة معرفية وأسلوب تحليلي، ونفسي كما معظم نصوص الشاعر غالبا
دمت بالق وبورك مداد الرؤى وغيث اللغة
اضاءة / إنعام كمونة
..................
للاطلاع
جيفري ناش: خالد والاستشراق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صالح الرزوق
ترجمة: صالح الرزوق
إن استيراد صورة الشرق العربي كما يراها خالد والبناء عليها في بحث كوكس عن المدينة العلمانية يعني أننا نحتاج للامتناع عن التفكير أين يمكن أن يودي بنا مقاربة الاستشراقيين وما بعد الكولونياليين لعمل الريحاني. وقراءة سعيد المضادة عن خالد (الثقافة والإمبريالية لإدوارد سعيد وليس الاستشراق) تساعدنا على تخليص السردية المركزية الغربية، عن الإنسان الحديث، من مركزيتها، كما يقدمها لنا كوكس. وهذا يقودنا للعثور على مكان للكاتب المهاجر من“العالم الثالث”، وعن “رحلته إلى” الميتروبول الغربي. مع ذلك تبقى أمامنا مشكلة: وهي وجوب النظر لكتابات سعيد على أنها بعد كولونيالية وتحشد البخار المنطلق من فترة ما بعد تفكيك الاستعمار مباشرة. فهو يقترح شخصيات مثل غينوا أتشيبي والطيب صالح ونغوجي واثيونغو. وجميعهم كتبوا عن لحظة تفكيك الاستعمار أو ما يليها كما لو أنهم لا يشذون بشيء عن أولئك الذين تفهموا حدود المركز- الميتروبول للسلطات الإمبريالية السابقة. لو صدقنا إعجاز أحمد لدى سعيد القليل ليقوله عن الدور الذي يمكن لكاتب من “العالم الثالث” أن يؤديه في المقاومة خلال الفترة الاستعمارية التي كان الريحاني يكتب فيها (42). لقد ناقش سعيد في “الثقافة والإمبريالية” القومية العربية كما كانت عليه في الثلث الأول من القرن العشرين وكما فهمها شخص من نوع جورج أنطونيوس. ورغم إعجابه بكتاب “الصحوة العربية” لأنطونيوس وخطابه القومي العربي، كان يرى أنه تابع للنظام الغربي الذي يروج لليبرالية والديمقراطية (43). ولو كتب سعيد عن الريحاني سيدو مثل مهاجر عربي وكاتب مثقف له دور ووضعية محدودان في الميتروبول الغربي، لكنه سقط في الشبكة الاستشراقية، أو أنه سيظهر كممثل متعب يؤدي دوره على مسرح الشرق الأوسط وهو مقيد الوثاق بالسردية القومية التي ترد على الكولونيالية. وهذا يعني تحميل خالد مهمة المحاكاة الساخرة غير المؤثرة للخطاب الاستشراقي. ووائل حسان أيضا سيحرر دور الريحاني بطريقة مقيدة وهو يطبق نظرية الاستشراق وما بعد الكولونيالية في دراسته “نشوء الأدب العرب أمريكي”.
وفي نقده لوجهة النظر اللبنانية التقليدية للريحاني وجبران كعباقرة كبار وأبناء مهاجرين من لبنان، لا ينسى أن ينظر إليهما كشخصين من الأقليات العرقية في أمريكا، وحاولا خلق مجال لهما ضمن الخطاب الغربي المهيمن: كانا من بين محاولات الكتاب العرب الأمريكيين الساعين لاستبدال المستشرق بمفسر أو مترجم للشرق. وكانت هذه الجهود مجرد طريقة للمطالبة بفضاء وصوت ثقافي، ولتعديل السلبية المرتبطة بالمشرق، وللتوسط بينه وبين الغرب من أجل فهم ناجع للمثاقفة... والتحدي الخطابي الذي واجههما يهدف لاستبدال القيم الاستشراقية بنمط ثنائي دون تراتب طبقي، في حين أن الماهيات المتقابلة كانت تبدو كما لو أنها موجودة في نوع من أنواع التوازن الميتافيزيقي وتبادل المنافع: حاجة الشرق والغرب للمجاملات، وتبادل الدروس والعظات (44).
إن أي مقاربة نظرية مثل ما بعد الكولونيالية، والتي تقتبس من سعيد وفوكو كثيرا، ستؤكد (مثل حسان) أن مشكلة لقاء الشرق والغرب في بدايات القرن العشرين الأمريكي كان بالضرورة موضوعا يعاني من المعايب. والآن نحن نجرد فكرة “الشرق” و“الغرب” من المصداقية. ونروج أن الريحاني وجبران بلا جذور سياسية في الجهد الثقافي لتك الفترة، وهما يقدمان عن نفسيهما صورة وسائط ذات “دينامية هيغلية سوف تمزج في النهاية الشرق والغرب وتقدم أطروحة حضارية مركبة أعلى”، ولكن مثل “هذه الميتافيزيقا المتعالية للروح، والنبوءة، والشعر... ستخطئ رؤية الظروف المادية للانتاج الثقافي والإيديولوجي... <وهناك> أخاديد لا يمكن اختزالها بين الميتافيزيقا الرقيقة والحقيقة المادية” (45). وباعتبار أنه هناك عدم تجانس عميق في القوة بين الثقافة الغربية والعربية لتلك الفترة (وحتى اليوم) إن ابتعادي عن أطروحة من هذا النوع كما افترضها أدباء المهجر لن تكون محتملة على الإطلاق. ومن الواضح أن الريحاني بوضعه الثقافي الضعيف “المتردد بين لحظة تفكيك الاستشراق وغواية الانضمام للعبة الرجولة الثقافية - يعبر عن رغبته بالتحرك على طول المحورين” (46).
خالد والذات الأصيلة العابرة للثقافات
شرح لنا حسان بشكل واضح أن “التوتر بين مقاومة ريحاني للاستشراق واستثماره” هو موضوع كتاب خالد (47). ومع ذلك أود أن أضيف أنه في الفصول الأخيرة من الرواية يوجد انحسار للإطار العلماني لمدينة نيويورك ولتجربة الانفصال التي يمر بها أي مهاجر، ويبدأ لعب ريحاني وعزفه على نغمة الثورة في الشرق الأوسط، وهكذا ينشأ فضاء لثقافة ذات عربية عابرة للحدود وأصيلة. والسؤال الذي يمكننا توجيهه بما يخص هجوم خالد العبثي على الشرق الأوسط من الناحيتين السياسية والدينية، هو أيضا امتداد لنكسة في خبرات خالد العلمانية العربية المتحررة والتي حصل عليها في نيويورك. بالنسبة لوائل حسان إن قراءة “كتاب خالد” على أنه سرديات مهاجر “وضعها الريحاني لتحديد أو للمبالغة “باستشراقية” خالد لدرجة كاريكاتورية، ولكن هذا التخطيط الساخر إنما ينقل وعي الأمريكيين” (48). عموما يجب أن نشك أنه في زمن كتابة الرواية لم يكن لدينا عدد ملحوظ من الأمريكيين الذين يعرفون أي شيء عن ثورة الشباب الأتراك التي اندلعت عام 1907، أو أهمية ماضي ومستقبل الوهابية، أو أن حركة البهائيين تجذب أتباع الغرب لمركز فلسطين، أو أن الحزب القومي العربي كان في الأفق (وفعليا لم يكن في عام 1911 سوى القليل من الأشخاص في الشرق الأوسط نفسه يدرك ذلك).
الكلمة التي ألقاها خالد في الجامع الأموي واللهجة التي استعملها مع “البهائية” الأمريكية تشير أن الأنثى المتحولة هي نتاج ارتباط ريحاني مع اتجاهات نموذجية في تلك الأيام: كلها نقلت تفكير خالد إلى أبعاد جديدة ركزت على رؤيته في سبيل شرق أوسط محسن. وفي مركز هذه الرؤية تأتي انشغالات ريحاني بالنهضة والاستفادة من الثورة التركية الشابة وكأنها عقدة in medias res عمله. وكما يقول خالد في منبر المسجد الأموي“إنه بداية الربيع العربي، وانبعاث أمجاد الإسلام” (49). وكانت قوميته العربية تتضمن الإسلام بالمعنى السياسي والثقافي ولكنها تواصل لما بعد أفكار البروباغاندا المسيحية عن الاتجاه القومي العربي بسبب ارتباطاتها الروحية ذات الميول للتصوف مع الإسلام. (ويضاف لذلك، بنظرنا عوائق ومحفزات الوهابية، “الإسلام بطبيعته النقية... إسلام عصر الخلافة العظيمة الأولى”). والنقلة الثانية التي تورط اندفاع الإصلاحي خالد هي رؤية تجديد الرسالة الأبدية للدين:” البهائية... الشعلة القديمة، يعاد إضرامها بعد عدة قرون، بإذن الله” والوسيط هو السيدة غوتفري، سيدة أمريكية، ولها، مع صفات شرقية أخرى، شعر أسود غزير” جوهرة شرقية بتكوين أمريكي” (50). إن سبب التوتر الناشئ بين خصوصيات القومية العربية والبهائية هو خالد الذي يرى نفسه نبيا (“مهدي”) للطرف الأول، بينما يمثل عباس أفندي الطرف الثاني ويرى أنه قائد حيفا. وهنا نقطة مفصلية هامة: كلا الحركتين تستحقان تأييد خالد. وخطاباهما عن التجديد العربي والديني لا يزالان مكتوبين بمصطلحات مزدوجة: شرق/غرب، وهذه حقيقة لم تبدلها رغبة خالد في الانتماء للعروبة، وهي ترقية من “الفكرة” الألمانية كما نقلها كارلايل. فهي تتضمن لمؤهلات تهيئها لتكون شرقية أصيلة: الشرق أرض النشوء والنبوات، ويجب حل هذه المشكلة الأزلية المتعلقة بالقديم والجيد، الخطأ والصحيح بما يخدم تصوراتها. وسواء كان بالثورة، أو التأمل، أو الدستور، إن الرؤيا العريقة ستنبثق وتعود لفطرتها الأصلية النقية” (51). وينظر كريستوف شومان لما بعد تضاد شرق / غرب كما يظهر في كتابات ريحاني، ويؤكد أن الريحاني كان “رجلا هامشيا” وكتاباته تشكلت بخبرات عابرة للثقافات وليس من إيديولوجيات محددة، ولا قناعات أو أنظمة أو مدارس نخبوية... <لقد كان> هامشيا بالنسبة للحضارة الغربية والشرقية، أو ثقافة الأنغلوساكسون وثقافة العرب، أو للمسيحية اللبنانية والإسلام. ومن زاوية مختلفة يبدو كأنه تعبير مركزي و“أصيل” عن الفضاء العابر للثقافات نفسه، والذي انفتح بين كل هذه المسميات... (52).
ولدينا براهين كثيرة حتى الآن تؤكد افتراض أن خالد هو عربي عابر ثقافات، ولا يمكنه أن يتحاور فقط مع الفضاء التعددي لنيويورك العلمانية والربيع العربي لدمشق الثائرة (ومع أن النبوءات العابرة للثقافات عن إسلام محسن قربته من السقوط)، إلا إن كان مستوطنا محترما و“أصليا” من القرن العشرين ويتحلى بوعي كوني. وبالاستطراد فيما يخص الزعم بأصالة ريحاني سأتوقف مع بحث روبيرت د. لي “التغلب على التقاليد والحداثة: البحث عن أصالة إسلامية”. وما يجذبني فيه هو اختبار فرضية لي حول الأصالة ووضعها على محك “كتاب خالد” للريحاني، وفيها يمكن أن تجد البديل للاستشراق وما بعد الكولونيالية، وفرصة تعوض عن اعتبار خالد شخصية ثقافية مهاجرة. وهكذا نسبر ظروف احتمالية عن اختلاق ذات جديدة (ومجتمعات جديدة في شمال أمريكا والشرق الأوسط). بالنسبة إلى لي يمكن استيعاب مفهوم الأصالة من خلال أربع فئات (53):
1- تفرد الذات. التفكير الأصيل “يبدأ من مفهوم الذات كعنصر متفرد.. هناك شيء يدعى “الذات”... وتسعى للقيام باختياراتها لتمييز نفسها عن ما هو ليس ذاته. وهذه الخيارات، لتكون أصيلة، يجب أن تعكس خصوصيات تتضمن السياق”.
2- النشاط الإنساني الأصيل. “التفكير الأصيل، بكل أشكاله، يصر على أن الكائنات البشرية تصمم تاريخها، وعليه، نفسها.. والتفكير الأصيل يفترض سيادة إنسانية”.
3- الثورة ضد التقاليد والحداثة. “يتضمن التفكير الأصيل ثورة ضد الحداثة والتقاليد” وبالأخص “أن التقاليد تكبح الخيار الإنساني وتحطم المبادرة البشرية”. ورواد الأصالة منذ روسو والمؤرخين الألمان وما بعد أيضا “تحدوا العقلانية العلمانية للتنوير، مع أنها من أساسيات الحداثة. ولتقديم تفسيرات كونية... ينظرون للأسطورة والإبهام على أنهما من عناصر الحقيقة التي تذهب لما بعد ما يفهمه العقل.
4- الفردية الراديكالية والمسار العام. بما أن التفكير الأصيل يرفض الكونيات، عليه أن يواجه مخاطر الخصوصية، ولو أنها كلها نتاج ثقافات متفردة فهذا يحد لدرجة قصوى “القيم التي تراقب الثقافات”. مع ذلك “إن كل عناصر الأصالة، والتي تضمن سرية الذات، تحاول أن تعيد تأسيس بعض عناصر الجماعة وترابطاتها... وكل أنواع التفكير الأصيل تتضمن تأكيدات على الواحدية لتعادل بها دافع الخصوصيات التي تحتها”.
ولتعقيب لي عن الأصالة تطبيقات هامة في كتابات مدرسة المهجر العربية في أمريكا، وبسبب تماسها مع الرومنسية الروسوية والنيتشوية التي أشرت لنهايات القرن التاسع عشر، أخفقت بنقاط أساسية في استيعاب الحداثة الغربية، المقابل الثقافي المعاصر لها. والفردانية المتمردة المكافحة ضد التقاليد، وهذه خصلة أساسية في كتابات المهجر (ويأتي بالذهن “المجنون” لجبران)، وتقدم بصوت خالد أعلى نبراتها. هنا نقابل إحساسا قويا بالتميز الذاتي، ثورة ضد التقاليد والحداثة، وحركة موجبة مستقلة تتحكم بزمام نفسها، وهو ما يعيد تعميق الرؤية اللبنانية والعربية بسياقها التاريخي. أيضا، إن قررنا أن لا نقرأها بواسطة الموشور الاستشراقي، إن تركيب خالد “للمصاعب” الأمريكية والإبهام الشرقي يمكن رؤيته بضوء الاندفاع نحو الوحدانية، وهي محاولة لدمج خصوصيتين اثنتين من أجل تحفيز “القيم التي تلازم الثقافات”. في النهاية، بمراجعة عدة سرديات أساسية من بدايات القرن العشرين، يرفض خالد ميول العولمة والتحديث التي ترافقت مع التنوير. ويستمر التصوف الغامض جوهريا لصوت خالد العابر للثقافات، مؤشرا على بديل للانجذاب نحو إلحاد المدينة الغربية العلمانية. وبالتمايز المعاكس، ومن زاوية المادية التاريخية المجسمة والراديكالية العلمانية الوهمية والتي تعتمد على ما بعد الماركسية وما بعد البنوية، يصبح النقد بعد الكولونيالي أصم تجاه سياق “التصوف والأسطورة... والتي تصل لما بعد نطاق العقل” وفيما هي تثبت قدراتها على إرسال القرن العشرين نحو هاوية غير عقلانية مظلمة، يمكن للشكل المعدل (كما تقترح البهائية مثلا) أن يستمر من خلال أمل بالتوحيد.
خاتمة
كتاب خالد لرائد الرواية الأنغلوفونية، الريحاني، مهم من وجهة نظر التناص، ولا سيما في قراءة الروايات العربية التالية المكتوبة بالإنكليزية. وكما بينت أعلاه رد فعل ريحاني نحو أمريكا، وبالأخص على مستوى الإيديولوجيا الثقافية والاجتماعية، كان إبداعيا ويعاني لدرجة أقل من القيود البيتية للخطاب الاستشراقي (بمعنى أنه لم يسجن نفسه بتقاليد قانون الاستشراق)، بعكس إيحاءات بعض محاولات النقد المعاصر. إن وجهات النظر بعد الكولونيالية تنظر لمشروع ريحاني على أنه رؤية شرقية فاشلة ومجرد تطبيق يحرص على محاكاة المشروع الاستعماري، ومن موقع كاتب عربي غير مؤثر يكافح للتخلص من أعباء الاستشراق. ولكن أجد ضرورة لنفي هذا الافتراض على أساس شخصية خالد “الأصيلة” والعابرة للثقافات. وباعتقادي إن ريحاني كاتب عربي يفرض علينا رفض الذوات غير الأصيلة التي أنتجتها الأعراف التقليدية والحداثة. ورفض البلدة الشرق أوسطية التقليدية، يقود خالد للاعتراف بالمدينة العلمانية بما أنها توفر الظروف المناسبة له لتطوير ذات متمردة ومضادة للتقاليد. وعلى أية حال هو لم يشحن المادية الملحدة الفاسدة للحداثة العلمانية، ولكنه بحث، بالتزامن مع حركات التجديد في الشرق الأوسط، عن فضاء لخلق ذات عربية متحررة enfranchized وعابرة للثقافات. وبهذه الطريقة إن إبداع ريحاني القصصي وشخصية خالد المتخيلة تفتح فضاء للكتاب العرب الأنغلوفونيين الذين سيبرزون لاحقا. ومن خلال الشخصيات المتحولة ذاتيا في روايات جمال محجوب العربي الأفريقي والشخصيات المهاجرة الإسلامية الجديدة في أعمال ليلى أبو العلا، يمكننا متابعة اكتشاف العلاقة مع نموذج ريحاني. روايات محجوب في أواخر 1980 و1990 تركز على أفراد عرب/أفريقيا وأنغلو عرب / أفريقيين والذين يعملون على تصعيد حدود بنيتهم الفردية ومكياجاتهم الاجتماع ثقافية من خلال الاقتراب من آفاق روحية أوسع. وفي مقدمة هذه المحاولات روايات مهجرية لليلى أبو العلا، ومنها “المترجم” و”المنارة”، وهي مثال عن العودة للتقاليد الدينية الشرقية. قد نفهم من ذلك أنها تمثل ردة فعل على الحرية التي اكتشفها خالد في أمريكا. والحقيقة إن الحالة غير ذلك تماما. إن شخصيات أبو العلا تجد مكانا لها في الميتروبول الغربي الحضري، وفرصة تفعيل هوية إسلامية جديدة أصيلة لا يمكن أن تقوم بها في الوطن (54). إن مضاعفات السردية والثيمات والخطاب في “كتاب خالد” لا تزال تقدم حتى الآن إلهاما عميقا للرواية العربية بعد الحديثة المكتوبة بالإنكليزية، بمشروعها الواضح فيما يتعلق بعبور الحدود، وبمحاولة الاستجابة للرأسمال الروحي الدائم في المجتمعات المعاصرة التي يقودها الغرب بصادراته المتعولمة وبدوغمائية فقيرة تمثلها علمانية أصولية.
..............................
* جيفري ناش Geoffrey Nash باحث إنكليزي. كان أستاذا في كلية الدراسات الإفريقية والاستشراقية بجامعة لندن. من أهم مؤلفاته (الكتاب العرب باللغة الإنكليزية: موضوعات عربية بلغة الميتروبول 1908 - 1958) صدر 1998. و(الاستشراق والأدب) صدر 2020.
ت: صالح الرزوق / عن كتاب نوري غانا: دليل إدنبرة للرواية العربية المكتوبة بالإنكليزية: سياسة الأنغلو عربي والأدب والثقافة لعرب أمريكا.
هوامش
42- انظر إعجاز أحمد، عن النظرية والطبقات والأمم والآداب (لندن: فيرسو. 1992). فصل 2.
43- انظر إدوارد سعيد. الثقافة والإمبريالية (لندن: شاتو & ويندوس، 1993). الفصل 3. الفقرة 2 - 4. ناش، الكتاب العرب بالإنكليزية، الفصل 5.
44- حسان، السرديات المهاجرة. 42 - 3.
45- مرجع سابق. 43، 45.
46- مرجع سابق. 47.
47- مرجع سابق. 57. ربما هذا ينطبق على ريحاني وحالة كتاب خالد حيث أن إحساس خالد بثقافته العربة وإرثها قادر على مقاومة الخضوع لأمريكا. ولكن الرواية تقول القليل عن معنى القومية ثقافيا وسياسيا لريحاني خلال عقد العشرينات والثلاثينات حينما كانت السياسة قوميته تبعده عن توجهه للغرب ونحو معارضة حيوية متزايدة، كما نرى في مقولته عن الاستعمار الصهيوني لفلسطين. انظر: ناش، الكتاب العرب بالإنكليزية. 75- 6.
48- حسان. السرديات المهاجرة. 58.
49- ريحاني. كتاب خالد. 316. انظر الملاحظة 5 أعلاه.
50- ريحاني. كتاب خالد. 308، 307، 285. كان عدد من البهائيات النساء والثريات والمعروفات متحولات من الدين اليهودي، مع ذلك يربط خالد السيدة غوتفري إلى الأندلس العربية عن طريق الجنوب الهسباني.
51- مرجع سابق. 287. أي حروف مختلفة من عندياتي.
52- كريستوف شومان. “ضمن أو بلا؟ أمين الريحاني والفضاء عابر الثقافات بين ،الغرب، و،الشرق،، “في التفكير الليبرالي في شرق المتوسط: نهايات القرن التاسع عشر وحتى الستينات، إعداد. كريستوف شومان (ليدن: بريل، 2008). 243. يتابع شومان ليؤكد أن العبور الثقافي لريحاني يمكن رؤيته بسياق تجربة المهاجر اللبنان - سوري.
53- روبرت د. لي، تجاوز الأعراف والحداثة (بولدير، سي أو: ويستفيو، 1997) ، 15 - 18. 54. انظر حسان، السرديات المهاجرة. الفصل 8. ناش، لقاء الأنغلو / عرب. الفصل 3 و5. مثل ريحاني، أبو العلا أيضا تجرب على رموز اليوتوبيا الصوفية.